ديسمبر 6, 2024
download (2)

الكاتب : عبد الخالق حسين

تجتاح العالم اليوم تظاهرات في كل مكان، من هونكونغ، ومروراً بإيران والعراق ولبنان، إلى بوليفيا وفنزويلا، ودول أمريكا اللاتينية الأخرى. ولو تأملنا حكومات كل هذه الأقطار المبتلية بالتظاهرات والاضطرابات، لوجدنا قاسماً مشتركاً واحداً، ألا وهو العداء المتبادل بين أمريكا وحكومات تلك الدول. كذلك نلاحظ أن جميع هذه التظاهرات بدأت بحقوق مشروعة، وسرعان ما تم تجييرها لأغراض تخدم أمريكا وحلفائها في تلك المناطق.

فكما ذكرنا مراراً، أن ما يجري في العالم اليوم، في عصر الانترنت والفضائيات، والعولمة، والقرية الكونية الصغيرة..الخ، أن بإمكان الدولة العظمى وحلفائها إثارة الشغب، وزعزعة استقرار أي بلد، عن طريق ما يسمى بـ(الحرب الناعمة)(1)، وهي في الحقيقة ليست ناعمة، لأنها عادة مصحوبة بسفك الدماء، وتتحول إلى حرب ساخنة فيما بعد. ولكن المهم أن أمريكا في هذه الحالة، لا تحتاج إلى إرسال قوات عسكرية لتلك الأوطان التي يراد تخريبها، بل يتم التخريب على أيدي أبناء تلك الأوطان، وذلك باستغلال نقاط ضعف في حكومات تلك الدول، كما في حالتنا العراقية مثل (تفشي الفساد الإداري والمالي، وتردي الخدمات، والبطالة). لذا تكون الأوضاع مشحونة بالغضب الشعبي، أشبه ببرميل بارود مكشوف، فكل ما يُراد هو مجرد إرسال شرارة لإشعال فتيل ثورة شعبية عارمة، ومن ثم يتم حرفها نحو الاتجاه الذي تريده القيادات الخفية. وهذا ما حصل في العراق وغيره من الدول الأخرى.

نعم، هذه التظاهرات بدأت سلمية، وبمطالب مشروعة ودستورية، وبالتأكيد خُطط لها أن تبدو كذلك، ولكن سرعان ما تحولت إلى صدامات دموية، راح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى، وفرض الإضرابات بالقوة، وحرق مؤسسات الدولة، والقنصليات الإيرانية. وكل هذه الأعمال التخريبية تحمل بصمات فلول البعث الداعشي. ولكن رغم كل هذه الكوارث، ما زال هناك إصرار عجيب من قبل مؤيدي هذه الاضطرابات، على أنها كانت ومازالت عفوية وسلمية ومشروعة، وأن جميع أعمال العنف تقوم بها الحكومة، وأحزابها الفاسدة، وأن هذه التظاهرات حتى بلا قيادة مركزية! وليست هناك أيادي أجنبية فيها!! وكل من لا يوافقهم على هذا الرأي يواجهونه بالابتزاز، والإرهاب الفكري، و التخوين والتزوير، ويوصف بأنه ضد ثورة الشعب، و يدافع عن السلطة الفاسدة لأنه مستفيد منها!!

والملاحظ أن هناك صمت مطبق عن المطالب المشروعة مثل: (تفشي الفساد، وتردي الخدمات، والبطالة)، وتم التركيز على أغراض أخرى مثل: شيطنة النظام الديمقراطي، و المسؤولين الشيعة في السلطة فقط دون غيرهم، وكذلك شيطنة إيران، وترديد شعار (إيران برة برة)، دون أية إشارة لجرائم السعودية في العراق. كذلك تم التركيز على شيطنة الحشد الشعبي، والتعرض لمقراتهم، وقتل العديد منهم، والمطالبة بالتخلص منه بأي ثمن، رغم تضحياته الكبيرة في تحرير المناطق المحتلة من قبل داعش. فكيف اجتمعت كل هذه الأغراض في ثورة يسمونها ثورة الشعب، وفي المناطق الشيعية فقط؟

كذلك هناك نفوذ لأمريكا وجميع الدول الإقليمية بالعراق، فلماذا التركيز على النفوذ الإيراني فقط؟
وإذا لم يكن للمخربين المندسين دور في هذه المظاهرات، فمن قام بحرق مقرات جميع الأحزاب الشيعية باستثناء مقرات التيار الصدري؟ ولماذا؟
هذه الأسئلة المشروعة وغيرها كثير، يتجنب مؤيدو “ثورة الشعب” أو “ثورة التكتك” الإجابة عليها.

إن حرق القنصليات الإيرانية، والتركيز على أبلسة الأحزاب الشيعية وإزاحتها، والانتقام من الحشد الشعبي وحله لأنه متهم بالولاء لإيران، هي مطالب أمريكية وسعودية، تؤكد لنا دور أمريكا وحلفائها (إسرائيل والسعودية ودولة الإمارات) في هذه الاضطرابات.

أما لماذا حرق القنصليات الإيرانية، فالجواب واضح، وهو انتقاماً من حادثة احتلال أنصار الثورة الإيرانية للسفارة الأمريكية في طهران عام 1979، وهو عمل مدان بالطبع. كذلك قيام بعض المتشددين الإيرانيين بحرق القنصلية السعودية في طهران قبل عامين.
لذلك فالتركيز على الوجود الإيراني في العراق من قبل المندسين في هذه التظاهرات يؤكد لنا بلا أدنى شك دور هذه الدول (أمريكا والسعودية والإمارات وإسرائيل) في هذه الأعمال الانتقامية التخريبية. ويؤكد لنا ذلك مقال في صحيفة إلكترونية إسرائيلية (Middle East Forum)، بعنوان: (لماذا على إسرائيل أن تدعم المحتجين العراقيين)، ويجيب: لأن الحكومة القادمة ستكون ضد إيران، وبذلك تقضي على مشروع (الهلال الشيعي)، وستعترف بإسرائيل.(2)

وأفضل ما عبر عن حقيقة ما يجري في العراق هو البيان الذي أصدرته مرجعية سماحة الإمام السيد علي السيستاني الذي أثبت أنه صمام أمان لهذا الشعب، وهو يمر في أخطر منعطف تاريخي عاصف، حيث جاء فيه ما يلي(3):
“والمرجعية الدينية إذ تترحم على الشهداء الكرام وتواسي ذويهم وتدعو لهم بالصبر والسلوان، وللجرحى بالشفاء العاجل، تؤكد مرة أخرى على حرمة الاعتداء على المتظاهرين السلميين ومنعهم من ممارسة حقهم في المطالبة بالإصلاح، كما تؤكد على رعاية حرمة الأموال العامة والخاصة، وضرورة أن لا تُترك عرضة لاعتداءات المندسين وأضرابهم، وعلى المتظاهرين السلميين أن يميّزوا صفوفهم عن غير السلميين، ويتعاونوا في طرد المخربين ـ أياً كانوا ـ ولا يسمحوا لهم باستغلال التظاهرات السلمية للإضرار بممتلكات المواطنين والاعتداء على أصحابها”. ويضيف البيان بحق: ” إنّ الأعداء وأدواتهم يخططون لتحقيق أهدافهم الخبيثة من نشر الفوضى والخراب والانجرار الى الاقتتال الداخلي ومن ثَمّ إعادة البلد الى عصر الدكتاتورية المقيتة، فلا بد من أن يتعاون الجميع لتفويت الفرصة عليهم في ذلك.” انتهى الاقتباس.
وهذا يعني أن المرجعية تحذر من المندسين، وتجاوزاتهم على الأموال العامة والخاصة، وعلى المتظاهرين السلميين أن يتعاونوا في طرد المخربين…”الخ
لذلك فإن موقفي مما يجري في البلاد ينسجم تماما مع هذا البيان الحكيم.

كذلك من السذاجة الادعاء بأن هذا الحراك الجماهيري بلا قيادة، إذ بات واضحاً أن لها قيادة مركزية عليا تأتمر بأوامر أمريكا والسعودية، وفي منتهى الخبرة، والخبث والدهاء، والإمكانيات الإعلامية، والمالية، والاستخباراتية والعسكرية، والانضباط الحديدي، ولها أهداف شريرة لا علاقة لها إطلاقاً بمحاربة (الفساد، وتوفير الخدمات والعمل للعاطلين.)، بل الغرض الرئيسي هو كسر هيبة الدولة العراقية، والإطاحة بحكومتها المنتخبة، لا لأنها فاسدة، بل للتخلص من النفوذ الإيراني، والمجيئ بحكومة موالية لأمريكا وحلفائها في المنطقة ومعادية لإيران، وربما لشن حرب عبثية أخرى على إيران من الأراضي العراقية كما حصل في عهد حكم البعث الصدامي الساقط.
فالمعروف لدى القاصي والداني، أن أفسد حكومة في العالم هي حكومة المملكة العربية السعودية التي تعتبر الدولة وكل من فيها من البشر، وما فيها من ممتلكات وأموال، هي ملك العائلة الحاكمة، ومع ذلك تتلقى الدعم المطلق من أمريكا.

والجدير بالذكر، أني استلمت عبر الإيميل، النداء المختصر المفيد من صديق أكاديمي أثق بوطنيته ونزاهته ومتابعاته، وهو مقيم في إحدى المحافظات الجنوبية، جاء فيه ما يلي:
((نداء إلى المسؤولين في العراق
يحاول تنظيم داعش الهجوم على سجن الحوت
لماذا التركيز على افتعال الأزمات في مدينة الناصرية بالحرق، وقطع الطرق والمواجهات، وبث الدعايات التي تشير لعصبية أهل الناصرية في حرق المقرات ودوائر الدولة؟
هل تأملتم لماذا هذا التجييش الإعلامي الخارجي الذي يبذل قواه في الناصرية؟
لأن في الناصرية يوجد سجن اسمه (سجن الحوت)، والذي فيه (4000) سجين إرهابي محكوم بالإعدام أغلبهم من الجنسية السعودية؟
فهل فهتم لماذا؟؟؟؟؟؟ )). انتهى الاقتباس

نعم أنا فهمت. فرغم أن السعودية كانت، ومازالت تبعث الإرهابيين لقتل العراقيين وتدمير ممتلكاتهم، لم يمس المحتجون أي شيء سعودي ولا حتى بهتاف استنكار لجرائم السعودية في العراق منذ 2003 وإلى الآن. وهذا يؤكد مرة أخرى ما قلناه في مقال سابق لنا، وتقارير من الصحافة العالمية أن ما يجري في العراق هو(حرب بالوكالة بين إيران والسعودية)(4)

كذلك أكد الصحفي البريطاني المخضرم، السيد باترك كوكبرن، والخبير بالشأن العراقي والمنطقة، على هذه المسألة في تقرير له في صحيفة الاندبندنت، بعنوان: (ما أن بدأ العراق في إيجاد السلام ، حتى وأصبح مرة أخرى ساحة معركة لحرب بالوكالة الأمريكية)، جاء فيه: (يخاف الناس في بغداد من أن الحرب القادمة بين الولايات المتحدة وإيران ستقع في العراق، والتي لم تعد إلى السلام إلا بعد هزيمة داعش. ومما زاد الانزعاج هو أن العراق سيصطدم بمثل هذا الصراع هنا بسبب الهجمات الإسرائيلية الأخيرة بطائرات بدون طيار على قواعد المجموعة شبه العسكرية العراقية المعروفة باسم “الحشد الشعبي”، الذي تتهمه الولايات المتحدة وإسرائيل بالعمل لصالح إيران.)(5)
إضافة إلى تصريحات السفير الأمريكي السابق في العراق السيد دوغلاس سليمان الذي قال: (لدينا طبقةٌ سياسيةٌ جديدةٌ مستعدةٌ لحكم العراق وإعادته الى سابق عهده)(6)

خلاصة القول: هناك عشرات، إن لم نقل مئات الأدلة التي تؤكد أن التظاهرات السلمية المشروعة قد تم اختطافها، أو بالأحرى خُطط لها من البداية لتبدو هكذا، ليس للأغراض المشروعة المعلنة عنها في اول الأمر، بل لأغراض غير مشروعة وهي الإطاحة بالحكومة المنتخبة، لا لأنها فاسدة، بل لرفضها معاداة إيران، والمجيئ بحكومة ضد إيران وموالية لأمريكا وإسرائيل والسعودية، وغيرها من حلفاء أمريكا في المنطقة. ويؤكد ذلك، هذا البذخ في الصرف على دعم هذه التظاهرات التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية كما أكدنا ذلك في مقال سابق لنا بعنوان: (تظاهرات سلمية، أم مناورات إنقلابية بعثية؟)(7)
فهل من يسمع؟
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ـــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة بالمقال
1- أ. د. كاظم جواد شبر : خطر “الحرب الناعمة” صار يداهم حكومات الأرض كافة
https://www.akhbaar.org/home/2019/11/264297.html
2- لماذا على إسرائيل أن تدعم المحتجين العراقيين؟
Why Israelis should support the Iraqi protesters?
https://www.israelhayom.com/opinions/why-israelis-should-support-the-iraqi-protesters/?fbclid=IwAR3-1KF7nXpkBqkXyAFg6pZtLyfrWv6sxeFhS8Sk6vmjEsS09stVC2cpZmQ

3- نص بيان المرجع السيستاني حول الاحداث التي رافقت التظاهرات
https://www.akhbaar.org/home/2019/11/265215.html

4- اللعبة الكبرى بالوكالة بين إيران والسعودية
The Great Saudi-Iranian Proxy Game
https://www.meforum.org/59294/the-great-saudi-iranian-proxy-game
5- باتريك كوكبرن: ما أن بدأ العراق في إيجاد السلام ، حتى وأصبح مرة أخرى ساحة معركة لحرب بالوكالة الأمريكية.
Patrick Cockburn: Just as Iraq begins to find peace, it once again becomes the battleground for an American proxy war
https://www.independent.co.uk/voices/iraq-us-iran-israel-proxy-war-middle-east-peace-abu-alaa-al-walai-shia-a9123436.html

6- السفير الأمريكي: لدينا طبقةٌ سياسيةٌ جديدةٌ مستعدةٌ لحكم العراق وإعادته الى سابق عهده
https://iraqhouseinstitute.com/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D9%8A%D8%B1-

7- د. عبد الخالق حسين تظاهرات سلمية أم مناورة إنقلابية بعثية؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=651348

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *