Dr Fadhil Sharif

فاضل حسن شريف

د. فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز من قائل “هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ ءَايَتٌ مُّحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ‏ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ‏ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ‏ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّآ أُوْلُواْ الْأَلْبَبِ” (آل عمران 7) ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج دابة الأرض وكيفية الدابة ونحو ذلك. وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة وضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم، وهو الضرب المشار إليه بقوله عليه السلام في علي رضي الله عنه اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وقوله لابن عباس مثل ذلك، انتهى كلامه وهو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة. وفيه أولا أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ وإغلاق التركيب والعموم والخصوص ونحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات، ومن المعلوم أن غرابة اللفظ وأمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات، بل لها مرجع آخر ترجع إليه وتتضح به. وأيضا الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة، ومن المعلوم أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه، والمطلق من غير رجوع إلى مقيده وأخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه. وثانيا أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس وما لا يمكن فهمه لأحد وما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه، وقد عرفت خلافه. هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم والمتشابه وتمييز مواردهما، وقد عرفت ما فيها، وعرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها وسطوع نورها خلاف ذلك كله، وأن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام والمطلق إلى المخصص والمقيد ونحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة. ومن المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك والتعقل.

ويستطرد العلامة السيد الطباطبائي عن المحكم والمتشابه قائلا: وأنت إذا تتبعت البدع والأهواء والمذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق الإسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه، والتأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه. ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم، وأخرى للجبر، وأخرى للتفويض وأخرى لعثرة الأنبياء، وأخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، وأخرى للتشبيه الخالص وزيادة الصفات، إلى غير ذلك، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه. وطائفة ذكرت أن الأحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق وتيسر، وأخرى قالت إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال، ولا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل. وقد كانت الأحكام والفرائض والحدود وسائر السياسات الإسلامية قائمة ومقامة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله صلى الله عليه وآله وسلم تنقص وتسقط حكما فحكما، يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية، ولم يبطل حكم أو حد إلا واعتذر المبطلون أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا وإصلاح الناس، وما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم، حتى آل الأمر إلى ما يقال إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا بإجرائها، والدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية ولا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم وإجراءها، وإلى ما يقال إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب وهدايتها إلى الفكرة والإرادة الصالحتين، والقلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية، والنفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال الوضوء والغسل والصلاة والصوم. إذا تأملت في هذه وأمثالها وهي لا تحصى كثرة وتدبرت في قوله تعالى “فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ” الآية، لم تشك في صحة ما ذكرناه، وقضيت بأن هذه الفتن والمحن التي غادرت الإسلام والمسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه، وابتغاء تأويل القرآن. وهذا والله أعلم هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب، وإصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة والتأويل والإلحاد في آيات الله والقول فيها بغير علم واتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار، ومودة ذوي القربى، وقرار أزواج النبي، ومعاملة الربا، واتحاد الكلمة في الدين وغير ذلك. ولا يغسل رين الزيغ من القلوب ولا يسد طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشؤهما الركون إلى الدنيا والإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى “وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ” (ص 26)، ولذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.

ما معنى كون المحكمات أم الكتاب: ذكر جماعة أن كون الآيات المحكمة أم الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين وأركانها فيؤمن بها، ويعمل بها وليس الدين إلا مجموعا من الاعتقاد والعمل، وأما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها وتشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيمانا. وأنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة، وهي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه وفهمه، أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به ورفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية. و قال آخرون إن معنى أمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها، وكلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان والاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها ويرجع في موردها إلى العمل بالناسخة، وهذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغايرة، وظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات، رافعة لتشابهها. و الحق هو المعنى الثالث، فإن معنى الأمومة الذي تدل عليه قوله هن أم الكتاب الآية يتضمن عناية زائدة وهو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الأم في القول الأول، فإن في هذه اللفظة. أعني لفظة الأم عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعض، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات، ولازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات. على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل، فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، فللمتشابه مفسر وليس إلا المحكم، مثال ذلك قوله تعالى “إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ” (القيامة 23)، فإنه آية متشابهة، وبإرجاعها إلى قوله تعالى “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ” (الشورى 11)، وقوله تعالى “لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ” (الأنعام 103)، يتبين أن المراد بها نظرة ورؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي، وقد قال تعالى “مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى” (النجم 11 – 13) إلى أن قال “لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى” (النجم 18)، فأثبت للقلب رؤية تخصه، وليس هو الفكر فإن الكفر إنما يتعلق بالتصديق والمركب الذهني والرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني، فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية ولا بالعقلية الذهنية، والأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *