سياحة الموت.. التعتيم الحكومي وضحايا الارهاب السوري

رياض سعد

رغم كل التحذيرات والنذر التي رفعناها عاليًا، ما زالت الحكومة العراقية وأطراف من الأغلبية السياسية تتعامل مع مصير مواطنيها بخفّةٍ لا تليق حتى بحكام القبائل البدائية  في زمن الفوضى… ؛  حذرناهم مرارًا وتكرارًا من إرسال أبناء العراق، لا سيما ابناء الطائفة الشيعية، إلى سوريا التي تحوّلت إلى مسرح دموي تقوده فصائل إرهابية تكفيرية ومرتزقة، من أمثال ” جبهة النصرة وداعش ” ومن لفّ لفّهما من ذئاب الحرب المتوحشة وضباع الاجرام والتكفير … ؛  وقلنا لهم بوضوح: السوريون أنفسهم، وخاصة من الأقليات، لم ينجوا من هذا الجحيم… ؛  فكيف سيُنجينا منه جواز سفر عراقي أو نوايا سياحية أو لافتة دينية ؟!

كل الشواهد كانت صارخة… ؛  صور الجثث المقطعة، ووجوه العلويين والشيعة السوريين المذبوحين في الغابات، والمهانين على الأرصفة، والملقَين في الأزقة… ؛  كانت تصرخ عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وما خفي أعظم.

لكن، وبرغم كل تلك الكوارث والجرائم والمجازر والاضطرابات ، ما زال أصحاب القرار عندنا ؛   و كذلك اصحاب شركات السياحة و السفر  والحملات الدينية ؛ يزعمون أن “الأوضاع مستقرة” وأن “الزيارة آمنة”، وكأنهم يعيشون في كوكب آخر… , أو كأن المواطن العراقي لا يكلّفهم أكثر من إعلان تجاري...!!

ولم تكن جريمة مقتل الشهيد المغدور “الحاج خليل ابو ابراهيم النجفي” في منطقة السيدة زينب  – والذي قتل بسبب اردائه دشداشة سوداء والتي تزامنت مع شهر محرم  الجاري وذكرى الامام الحسين –  … ؛  سوى حلقة أخرى في مسلسل طويل من الإنكار الرسمي والخذلان الشعبي… ؛  فالرجل قُتل بوحشية في ريف دمشق، وانتشر فيديو الجريمة كالنار في الهشيم ، لكن إحدى الجهات الحكومية العراقية  – السفارة العراقية في دمشق وجهاز امني ايضا – نفت القتل فورًا وزعمت – بكل وقاحة – أن وفاته كانت نتيجة “جلطة دماغية مفاجئة “… ؛  وسُوِّقت الكذبة رسميًا , على الرغم من اثار الدماء عليه ، وابتلعها المواطن البسيط كما اعتاد أن يبتلع أكاذيب كثيرة في حياته اليومية… ؛  لكن الحقيقة لا يمكن دفنها، فالجثة حين عادت إلى ذويها في النجف الاشرف ، كانت تنطق بما هو أبلغ من الكلام: آثار تعذيب مرعب، كدمات، جروح غائرة، وجهٌ لا يشبه ملامح الموتى بل فظائع التعذيب.

ما الذي يدفع الحكومة العراقية والجهات الرسمية إلى إخفاء مثل هذه الجرائم؟ ولماذا تصرّ على إرسال الزائرين والناشطين والمواطنين البسطاء إلى فم الوحش , او السماح لهم بالسفر الى وكر الذئاب الارهابية ؟

هل هو الخوف من تبعات الاعتراف بالتقصير الأمني؟ أم هو جزء من سياسة أكبر تقضي بتضليل المواطن العراقي؟ قد يكون السبب مرتبطًا بتحالفات إقليمية أو تجاذبات داخلية تسعى لإبقاء المواطنين في حالة غيبوبة إعلامية، وتمنعهم من إدراك حقيقة وضعهم كضحايا لصراع لا يخوضونه، بل يُساقون إليه عنوة… ؛ أم أن هذه الجهات الرسمية  تعيش في عزلة تامة عن معاناة شعبها، فلا تعي شيئاً ولا يهمها أمر المواطن الذي يفترض أنها خُدمته؟

هل تحوّل العراقي الاصيل إلى قربان سياسي يقدَّم على مذابح التحالفات الإقليمية والقرارات الاعتباطية والحماقات السياسية ؟ أم أن السلطة بكل أطيافها لا تكترث بمصير الفرد العراقي إلا بقدر ما يخدم أجنداتها؟

أم أن الفساد قد بلغ درجة ؛ أن سلامة المواطن لم تعد أولوية، بل باتت عبئًا يجب التخلص منه؟

الأسئلة تتكاثر، والشكوك تتعاظم، والثقة تتآكل.

ووسط كل ذلك، يبقى العراقي – الشيعي والسني، المسلم والمسيحي، العربي والكردي – وقودًا يُلقى في أتون المعارك التي لا ناقة له فيها ولا جمل… ؛ اذ لم يعد الأمر مجرد إهمال، بل جريمة سياسية مكتملة الأركان... ؛ ففي كل دول العالم تحذر الحكومات رعاياها من الذهاب الى الاماكن الخطرة بل و تمنع السفر الى الدول المضطربة الا الحكومات في العراق ؛ اذ تسمح الحكومة العراقية للمواطنين بالتنقل بين ساحات توتر وارهاب ملتهبة ومستعرة دون توفير الحد الأدنى من الحماية لهم ؛ رغم تصاعد الهجمات على الزوار العراقيين واختطاف وقتل عدد منهم في السنوات الأخيرة …!!

فمتى يُعلن الشعب أن جسده ليس ساحة تجارب، وأن دمه ليس حبرًا لخرائط الآخرين؟

فمن منا لا يعرف ان المواطن العراقي الشيعي اصبح هدفا مشروعا ومباشرا للفصائل التكفيرية العابرة للحدود …؟!

خاتمة: المواطن كبش فداء دائم

لقد آن الأوان لإعادة تعريف دور الدولة في حماية الإنسان، لا في تسويقه كقربان على مذابح الآخرين… ؛  إن استمرار الإنكار، والترويج لسلامة لا وجود لها، هو جريمة سياسية لا تقل خطرًا عن القتل نفسه… ؛  والمواطن الذي يُقتل ثم يُكذب عليه، هو مواطن تُذبح فيه الكرامة مرتين: مرةً على يد الجلاد، ومرة على يد من يُفترض أنهم أوصياء عليه.

وفي خضم هذه الكوارث الإنسانية والتهديدات الأمنية المتفاقمة والاضطرابات الداخلية المستعصية في سوريا، نجد تصريحاتٍ ساذجةً تصدر عن بعض أطراف الطبقة السياسية العراقية، و ممثلي شركات السياحة ومنظمي “الحملات الدينية”، تؤكد أن “الأوضاع آمنة” و”لا خوف على الزوار العراقيين الشيعة” كما اسلفنا … ؛ و هذا التهوين يتناقض جذرياً مع واقع مأساوي: استمرار عمليات قتل واختطاف السوريين فضلا عن العراقيين  في سوريا منذ اندلاع الأزمة وحتى اللحظة الراهنة.

والنتيجة  لهذه السياسات الحكومية الفاشلة والمتخبطة ؛ هي مزيد من الضحايا الأبرياء، ومزيد من تآكل ثقة الشعب بمؤسساته، واستمرار لعبة خطيرة تُدار بأرواح العراقيين على خلفية صراعات  وتفاهمات سياسية مشبوهة… ؛  السكوت على هذا المنطق ليس خياراً، بل تواطؤاً.