اسم الكاتب : شذى العاملي
في الأهوار العراقية تستمر تقاليد وأساليب الحياة السومرية حتى أيامنا هذه. كالعيش في أكواخ القصب التي تطفو على المسطحات المائية، واستخدام الزوارق في التنقل بسبب انعدام اليابسة. ويكتفي سكان الأهوار بما تمنحهم بيئتهم من الاحتياجات الأساسية كالغذاء ومواد البناء (القصب والبردي). ويتقاسم الإنسان مفردات الحياة هذه مع عشرات الأجناس الأخرى من الطيور والحيوانات التي تعتاش على الأسماك والنباتات. كل ذلك يشبه إيقاع الحياة السومرية القديمة في تناغمها مع الطبيعة.
مخاوف
هشام العلوي، سفير العراق السابق في تركيا وعضو الوفد العراقي المشارك في اجتماعات لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة (يونسكو) في يوليو (تموز) 2016، تحدث عن مخاوف من احتمال شطب الأهوار والمدن الآثارية العراقية من لائحة التراث العالمي، بسبب المخاطر المرتبطة بالجفاف وقلة الموارد المائية الناتجة من التغيرات المناخية، ونقص الإطلاقات التي تصل من دول الجوار، فضلاً عن التأخر في تنفيذ المشاريع التي تحافظ على البيئة الحياتية وتحقق التنمية المستدامة، وعدم تطوير المرافق اللازمة لتشجيع السياحة، إذ يواجه العراق الآن قحطاً وشحاً غير مسبوق بالمياه، نتيحة قلة الوارد المائي بسبب عدم التزام دول المنبع بتأمين حصة العراق من المياه، وفق البروتوكولات والمعاهدات وقوانين المياه العابرة للحدود بين الدول المتشاطئة، والعمل على مبدأ تقاسم المياه والضرر.
وتواجه بيئات الأهوار حالياً انخفاض مناسيب المياه التي تصل إلى أدنى المستويات، ما ينذر بتأثير بالغ الضرر على الأهوار وكل أنواع الحياة الحيوانية والنباتية، ما ينعكس سلباً على طقوس الحياة العامة للسكان ويتسبب بهجرتهم إلى مراكز المدن الكبيرة.
لجان مركزية ومحلية
وصرح العلوي قائلاً، “أضيفت الأهوار الـ4، والمدن الأثرية الثلاث في جنوب العراق، إلى لائحة التراث العالمي في 2016 في الفترة التي كنت سفيراً للعراق في أنقرة. واشترطت اليونسكو الحفاظ على البيئة الحياتية، وترميم مناطق الأهوار وإزالة التجاوزات، كما أكدت ضرورة مراعاة وتسهيل عودة سكانها الأصليين، والاستثمار في تحقيق أهداف التنمية المستدامة فيها، إضافة إلى تطوير البنى التحتية اللازمة لتشجيع السياحة.
وكان من المفترض أن يسير موضوع تطوير الأهوار والمدن الأثرية بعد إدراجها على لائحة التراث العالمي، وفق اتجاهين من خلال لجنتين، إحداها مركزية، وأخرى محلية. وتعتمد الأخيرة المحدودة الصلاحيات والموارد، على اللجنة المركزية التي كان من الواجب أن تعمل بتوجيهات الحكومة المركزية في بغداد ضمن استراتيجية شاملة”.
شروط وتوصيات لجنة التراث العالمي
وتابع العلوي، “للأسف، هناك بُطء واضح في العمل خلال السنوات الماضية، واللجنة المحلية التي تمثل المحافظات (البصرة وميسان وذي قار) أشارت إلى عدم جدية في اتخاذ إجراءات ميدانية، لتنفيذ الشروط التي وضعت من قبل منظمة اليونسكو قبل إدراج الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي”.
واختتم قائلاً، “يجب أن تتضافر الجهود على المستوى الوطني والمحلي لمعالجة هذه المخاطر ضمن خطة وطنية شاملة، تنفذ بالتعاون مع الجهات الدولية ذات الخبرة في هذه المجالات”.
حددت الاتفاقية الدولية 10 معايير لإدراج المواقع على لائحة التراث العالمي
كما ذكر وزير الموارد المائية السابق، المتخصص في الشؤون المائية حسن الجنابي، والذي تولى تنفيذ مشروع إعادة إنعاش الأهوار العراقية بعد تجفيفها بواسطة النظام السابق، ومترجم كتاب “العودة إلى الأهوار” الذي كتبه الرحالة البريطاني كافن يانغ، قائلاً “حددت الاتفاقية الدولية للتراث العالمي عشرة معايير لإدراج المواقع على لائحة التراث العالمي، وهي:
أولاً: أن يمثل الموقع إحدى روائع العقل البشري المبدع. ثانياً: أن تتجلى فيه تأثيرات متبادلة قوية جرت على امتداد فترة من الزمن أو داخل منطقة ثقافية معينة من العالم، تتعلق بتطور الهندسة المعمارية أو التكنولوجيا أو الصروح الفنية أو تخطيط المدن أو تصميم المناظر الطبيعية. ثالثاً: أن يقف شاهداً فريداً أو على الأقل استثنائياً على تقليد ثقافي أو على حضارة لا تزال حية أو على حضارة مندثرة. رابعاً: أن يكون نموذجاً لنمط من البناء أو لمجمع معماري أو تكنولوجي أو لمنظر طبيعي بارز، يمثل مرحلة أو مراحل هامة من التاريخ البشري. وخامساً: ضرورة أن يقدم نموذجاً لمستوطنة بشرية تقليدية أو لأسلوب تقليدي في استخدام الأراضي أو استغلال البحار، يمثل ثقافة (أو ثقافات) معينة، أو يمثل التفاعل بين الإنسان وبيئته، لا سيما عندما يصبح عرضة للاندثار بتأثير تحولات لا رجعة فيها. سادساً: أن يكون مقترناً على نحو مباشر أو ملموس بأحداث أو تقاليد حية، أو بمعتقدات، أو بمصنفات أدبية أو فنية ذات أهمية عالمية بارزة. سابعاً: أن ينطوي على ظواهر طبيعية منقطعة النظير أو يضم مناطق ذات جمال طبيعي استثنائي وأهمية جمالية فائقة. وثامناً: أن يقدم أمثلة فريدة لمختلف مراحل تاريخ الأرض، بما في ذلك سجل الحياة على الأرض، وللعمليات الجيولوجية المهمة الجارية والمؤثرة في تطور التشكيلات الأرضية، أو المعالم الجيومورفولوجية أو الفيسيولوجية الهامة. أما تاسعاً: فهو أن يقدم أمثلة فريدة للعمليات الأيكولوجية والبيولوجية المهمة المؤثرة في تطور النظم البيئية الأرضية ونظم المياه العذبة والنظم الأيكولوجية الساحلية والبحرية والثروات النباتية والحيوانية. وأخيراً، أن يشتمل على أهم المواطن الطبيعية وأكثرها دلالة لصون التنوع البيولوجي في عين الموقع، بما في ذلك المواطن التي تحتوي على أجناس مهددة ذات قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم، أو المحافظة على الثروات”.
وتابع الجنابي، “تتعلق المعايير الستة الأولى بالقيمة الثقافية للمواقع المقترح إدراجها على اللائحة، أما الأربعة الأخرى فتغطي معايير القيمة الطبيعية لتلك المواقع، ويمكن إدراج المواقع على اللائحة إذا انطبق عليها معيار واحد على الأقل من المعايير العشرة المذكورة أعلاه”.
القائمة الحمراء
وعلق جاسم الأسدي المهندس الاستشاري في إحدى المنظمات البيئية قائلاً، “عندما أدرجت الأهوار على اللائحة، أكدت اللجنة أربع توصيات أساسية من اليونسكو، توجب على العراق الالتزام بها.
أولها توفير الحد الأدنى من المياه اللازمة لإدامة النظام الأيكولوجي، وهو مهم وأساسي، أي إن هناك خطة إعمار واضحة وتفصيلية للسنوات الرطبة والمعتدلة والجافة وعلى الحكومة الالتزام بالخطة، وإلا فإن تأثيرات عدم الالتزام يضر بالأهوار واقتصادات مجتمعاتها المحلية، وأبرزها المياه مصدر الحياة الأساسي لتربية المواشي وصيد الأسماك والحشائش والقصب وصناعة البواري والمضائف.
وثانياً، المزيد من الدراسات المتعلقة بالتنوع الإحيائي، نباتات وأسماك وحيوانات ولبائن ورعيات وطيور. وتضمن ثالثهما، المزيد من التشريعات والمتطلبات القانونية حول التنقيب النفطي في الأهوار العراقية. ويقصد بذلك (أن تكون هناك خطوط قانونية واضحة لتنظيم المحافظة على بيئة الأهوار في وجود تنقيب نفطي هناك)، والحد من التلوث الذي قد يحصل من خلال هذا التنقيب. ورابعاً وهو الأهم، أن تعنى بإشراك المجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني ذات الصلة بتنفيذ وتحديث خطة الإدارة”.
أما المخاطر التي تضع الأهوار في القائمة الحمراء، بحسب الأسدي، فأهمها الجفاف وقلة الإطلاقات المائية للأهوار، والتلوث الذي قد يحصل، وهو تلوث متعدد الأوجه كزيادة الملوحة بشكل كبير، أو إطلاق مياه الصرف الصحي للأهوار كما يحدث الآن أو تأثير التلوث النفطي إن حصل كسر أنبوب يمر عبر الأهوار، أو تصريف مخلفات المعامل والمصانع والمستشفيات إلى الأنهار الرئيسة ثم إلى الأهوار.
ويوضح، “لا نخشى من شطب الأهوار من لائحة التراث العالمي قدر خشيتنا من حدوث تأثيرات مدمرة لها”، ذلك أن دخول الأهوار للائحة التراث تم على أساس وجود تنوع هائل من الأحياء كالطيور واللبائن والنباتات… فإذا كانت هناك تأثيرات على وجود هذه الحيوانات، فستوضع الأهوار ضمن القائمة الحمراء الـRED LIST، أي إن الجفاف سيؤثر على النوع الأحيائي، حينها يمكن شطبها من لائحة التراث العالمي.
ويلفت إلى أن تاريخ اليونسكو يشهد على شطب أكثر من موقع من ضمنها موقع ألماني، وكان ذلك بسبب الإخلال بالالتزامات بإنشاء جسر حديدي في أحد المواقع.
ويضيف، “مثلاً عمود الفرات في هور الجبايش الذي يوازي هور الحمار الغربي والأهوار الوسطى، كان في أوج منسوب ارتفاعه عام 2019، حين وصل إلى متر و94 سم. أما اليوم فهو لا يتجاوز 88 سم في النقطة نفسها، وفقدنا منذ بداية العام أكثر من نحو 40 سم، وسنفقد المزيد مع بدايات يوليو (تموز) في ظل استمرار الوضع الحالي. وخوفنا الأكبر يتلخص في معاناة السكان المحليين وتأثيرات التنوع الأحيائي، خصوصاً أنه أصبح لدى السكان المحليين في الأهوار الوسطى وهور الحمار، جانب اقتصادي مهم يتمثل بالسياحة البيئية التي شهدت نشاطاً بعد 2016، ما يشكل جزءاً من اقتصاد السكان المحليين”.
إجراءات حكومية خجولة
وحول هذا الموضوع، تحدث الصحافي حسين العامل الذي يعمل في مقر محافظة ذي قار، قائلاً إن الإجراءات الحكومية من أجل الحفاظ والإبقاء على الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي خجولة جداً، ولا ترتقي إلى مستوى الإيفاء بالالتزامات المترتبة عليها، لا سيما في مجال إنعاش الحياة وديمومتها. ويظهر هذا جلياً مع كل أزمة وشحة مياه، إذ يعتبر أن “الحكومة تبقى مكتوفة الأيدي تجاه تحكم دول المنبع بالإطلاقات المائية وتخفيض حصة العراق، أو قطع الأنهار والروافد المغذية للأهوار، ناهيك بحالة البؤس التي يعيشها سكان الأهوار، الذين تفتقر مناطقهم الكثير من مقومات الحياة الأساسية”.
وأضاف الكثير من مناطق الأهوار ما زالت تعاني شح المياه، وانقطاع التيار الكهربائي، وضعف الخدمات الصحية، فضلاً عن تراجع مستوى التعليم، فيما يفقد الكثير من السكان مصدر رزقهم الأساسي، المتمثل بصيد الأسماك وتربية المواشي، لا سيما الجواميس، بسبب انحسار المياه وجفاف مساحات كبيرة.
بيئة فريدة
ويقول الباحث في مجال المياه والأهوار جمعة الدراجي إن المنطقة تشكل جزءاً من السهل الرسوبي الجنوبي العراقي، التي تشغل مساحاتها الشاسعة المسطحات المائية وغابات القصب والبردي. ولهذه المناطق نظام بيئي فريد من نوعه يعود لآلاف السنين، إذ تعد إحدى أكبر المناطق الرطبة في الشرق الأوسط وغرب آسيا، وهي مجموعة من البحيرات والمستنقعات متصلة ببعضها لتدعم النظام البيئي والمناخي بأجواء معتدلة للأراضي العراقية، وما يجاورها من المحيط الإقليمي، كما تشكل نقطة عبور واستراحة موسمية منتظمة لكثير من أنواع الطيور العابرة للقارات بحثاً عن مياه دافئة بقصد وضع البيض، وتهاجر قبيل شهر مايو (أيار) عند ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة. وهي ملاذ لعديد من الحيوانات والكائنات الحية والمجهرية المهددة بالانقراض. وأكبر مستودع لتربية الأسماك الذي يعد مصدر الغذاء الرئيس لسكان المنطقة ومصدراً تجارياً مهماً للسكان وأماكن حيازة للمياه العذبة.
ويؤكد المتخصص في الشأن الاقتصادي ضياء المحسن أنه على الحكومة العراقية العمل جدياً ومن خلال المنظمات الدولية وإشراك اليونسكو، بالضغط على تركيا وإيران لضرورة منح العراق حصة مائية عادلة، تسمح بإنعاش الأهوار وإنقاذ العائلات الساكنة فيها من العوز والفقر.
روتين وتلكؤ
وأفاد الأسدي بأن العراق بادر بعمل الإجراءات التالية في مجال متطلبات التسجيل، والتي تتلخص في تحديد حصة مائية للأهوار في السنوات الرطبة والمعتدلة والجافة ضمن الدراسة الاستراتيجية (سورلي)، ولكن نظراً إلى سياسات دول الجوار المائية (تركيا وإيران) وآثار التغيير المناخي من جهة، وسوء توزيع المياه من جهة أخرى، حدثت إخفاقات في الأعوام 2018 و2021 و2022. وثانياً، فقد أجرى الباحثون الكثير من الدراسات والمسوحات التي تتعلق بالتنوع الأحيائي، كما اتخذت تشريعات وضوابط وإجراءات بيئية على صعيد استخراج النفط في الأهوار. وأضاف، “لكننا نحتاج إلى المزيد وإلى حسن التطبيق والمراقبة”.
وأكد الجنابي وزير الموارد المائية السابق أن الإدراج في لائحة التراث العالمي ليس سيفاً مسلطاً على رقاب الدول، بل هو تشجيع للبلدان، وفي المقابل هو التزام أخلاقي. والعراق مسؤول عن تقديم تقريرين سنويين وتنفيذ خطة العمل المطلوبة، ومنظمة اليونسكو تتوقع الالتزام. وقد نحتاج إلى إحداث تغييرات في التشريعات السائدة، ولأسباب كثيرة قد لا يصدر التشريع إلا بعد مرور سنوات، وهذا التأخير يؤدي إلى تلكؤ في تطبيق الخطة.
وختم قائلاً، “الأهوار في حالة تردٍّ بسبب نقص المياه، ولكن ذلك لن يخرجها من اللائحة، بل يحول الموقع إلى (لائحة المواقع المعرضة للمخاطر) لتشجيع الجهات الدولية والمنظمات التي تدعم هذه الحالات، لمساعدتها على الخروج من الأزمة.