الكاتب : جمال الناصر
الأنتظار ** لا أجد عذابا أشد من الأنتظار…و أي أنتظار ، أنه أنتظار لا نهاية له ولا حدود ، هو انتظار المجهول أو الوهم… منذ ابصرت النور في تلك الحياة، كانت أمي في حالة أنتظار وكان أبي هو الآخر منتظرا ، متى يزول الفقر عن كاهلنا، متى يكبر أخي و يبني لنا بيتا من الطابوق ، ومتى يستريح أبي من الكد والتعب ، لقد تآكلت مفاصل قدميه من الدوران في عتلة ماكنة الخياطة ، و انحنى ظهره من كثرة الجلوس خلفها على دكة خشبية مساميرها تشق فخذيه و مقعده.. متى يأتي ذلك اليوم ويتحقق الحلم .. أمي ضعفت قواها، فأستولت عليها الأمراض و رك بصرها ، فماتت قبل ان ينقضي عنا كاهل الفقر و الحرمان… ظل أبي وحيدا ، يزرع فينا الأمل… ستكبر يا ولدي وتزيح عنا ثقل المعاناة و تعوضنا ما مر بنا في السنين العجاف.. كنت أراه كسيرا، ينظر ألي تارة بعيون الأمل ، وتارة في عيون الشفقة.. ولكن… لم يكتب الله لي حياة مثل باقي البشر.. فسقطت في أتون الدهر و غياهب الجب و أبتلعتني السجون، من سجن الى سجن ومن طوامير الى طوامير .. فطال الأنتظار ، وأستحال الى حلم أخر غير ما كان في الماضي.. كان الحلم أن أرى أبي ولو للحظة واحدة.. أن أشم رائحة أبي ولو شهقة واحدة ومن ثم أموت .. كان حلمي أن أرى بيتنا ولو لساعة واحدة مع أهلي و أحبتي … كان الأنتظار طويلا وقاسيا في السجون المغلقة.. ما من سجين الا وعيناه شاخصتان نحو الأبواب ، في أمل أن يأتي الجلاد بخبر ما، بشيء ما جديد يكسر الجمود ولوعة الأنتظار..لكنه يأتي بالجلد و الهراوات.. وأستمر الألم عشر سنين ، كانت تعادل عشر قرون… فالزمن يقاس بحجم الألم.. خرجت بعدها ، كل شيء قدضاع .. اوله حلم أبي الذي أنهكه الأنتظار..وألم الفراق. عاش أبي حزينا..وعاش أخي حياة مضطربة ، لم يسعفه الحظ في حياة مستقرة مثل بقية الناس، لقد عاش معذبا… بعد مرور عامين ونصف رحل أبي عن العالم، وأنا أقاسي البعد و الأغتراب… مات أبي محروما، قتله الأنتظار.. آه، حزنت عليك حزن ليالي الشتاء في بلاد الصقيع .. رحم الله المنتظرين جميعا. ( مقدمة أولية لكتابي القادم بأذن الله)