الكاتب : عبد الخالق حسين
بعد نشر مقالي الأخير الموسوم: (لماذا فشل الإسلام السياسي في حماية الدين والفضيلة)(1)، وكالعادة، استلمت الكثير من التعليقات، أغلبها مؤيدة، وقليل منها معارضة والتي من بينها تعليق من الصديق الدكتور غسان السامرائي، وهو باحث إسلامي، دخل معي في حوار ضمن مجموعة نقاش، معارضاً مضمون المقال بجملته، ولكن أهم ما ورد فيه وحفزني مشكوراً على كتابة هذه المداخلة، هو رده على الفقرة الختامية التي قلتُ فيها: “والسبب الرئيسي لفشل الإسلام السياسي في الحكم أنهم ضد قوانين حركة التاريخ ومساره، وجهلهم بالطبيعة البشرية، وعدم إدراكهم بأن المرحلة قد تجاوزتهم. فالمرحلة هي للعولمة والديمقراطية، وثورة التقنية المعلوماتية مثل الانترنت، والفضائيات، وسرعة التواصل والاتصالات …الخ”.
رد الأستاذ السامرائي بما يلي: ((بالله عليك أخي عبد الخالق: هل وجدت إسلامياً يرفض هذه الأمور التكنولوجية؟! وإذا كانت الديمقراطية من سمات المرحلة، فإن الإسلاميين يخوضونها في كل مكان…وأما “جهلهم بالطبيعة البشرية” فإني لا أدري والله ما هو “العلم بالطبيعة البشرية” عند الحضارة الغربية التي دمرت البشر وتدمره كل يوم، في الاقتصاد والبيئة والحريات وكل شيء.)) انتهى
وأنا إذ أتفق مع الصديق في قوله أن الإسلاميين كغيرهم، يستخدمون التكنولوجيا التي معظمها من اختراع و إنتاج الغرب. أما الديمقراطية، فرغم أنهم يخوضونها في أي مكان أو كل مكان، عندما تسنح لهم الفرصة، ولكن هذا لا يعني أنهم يقبلون الديمقراطية والحرية وغيرها من القيم الحضارية برحابة صدر، فالديمقراطية ليست تكنولوجيا، بل هي نظام حكم وأسلوب إدارة المجتمع، وهي من الإبداعات العظيمة للحضارة الغربية. ومن معرفتي بالصديق من خلال حواراته، فهو كغيره من الإسلاميين، دائماً يصب اللعنات على هذه الحضارة.
لذلك أود في هذا المقال مناقشة موقف الإسلام السياسي الانتقائي من الحداثة، والحضارة الحديثة، أو “الغربية” كما يسميها البعض، والإلتباس الحاصل بين المصطلحين: (الحضارة والحداثة)، من أجل توضيحهما. و لماذا يعارض الإسلاميون الحضارة “الغربية”، ويتقبلون بكل رحابة صدر الحداثة، وخاصة التكنولوجيا التي هي من مكونات الحداثة، وهل “خوضهم الديمقراطية في كل مكان”، يجعلهم ديمقراطيين حقيقيين؟
الحضارة والحداثة
من المؤسف القول أن هناك خلط، وسوء فهم لدى الكثير من المثقفين حول الاصطلاحين الحضارة والحداثة، إذ يعتقدون أنهما مترادفتان، وهذا غير صحيح. فكما ذكر الباحث الأمريكي، صموئيل هنتنغتون في كتابه المعروف: (صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي)، أن الحداثة (Modernity)، تعني التطور في الوسائل المادية الملموسة (Tangible) أي (Hardware)، والتي من شأنها تحسين حياة الناس وتزيد من رفاهيتهم وسعادتهم على أفضل ما يمكن، وتشمل: تخطيط المدن، وبناء العمارات، وناطحات السحاب، والأحياء السكنية، والأسواق والمتاجر الكبيرة (المولات)، والمطارات والموانئ، والمدارس، والجامعات والمستشفيات، وشبكات مجاري الصرف الصحي، واسالة الماء، والطاقة، ووسائط النقل السريع، و التواصل والتقنية المعلوماتية مثل الكومبيوتر والانترنت، والفضائيات والراديو، والصحافة، و تحديث القوات العسكرية، والأمنية والأسلحة بمختلف أنواعها، وغزو الفضاء…. وكل شيء على أحدث طراز.
أما الحضارة (Civilizations)، فهي لا مادية، أي أنها تعني القضايا الفكرية غير الملموسة (Intangible)، يعني (ٍSoftware)، مثل العلوم، والآداب والفنون والدين، والفلسفة، والقيم الإنسانية، والأعراف، والتقاليد الاجتماعية الموروثة (culture)، والأيديولوجيات، والأنظمة مثل العلمانية، والديمقراطية والليبرالية (الحرية)، ودولة المواطنة، والعدالة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، بغض النظر عن اختلافهم في الجنس والدين والمذهب والأثنية واللون واللغة. كذلك تشمل حقوق الإنسان، والحيوان، والحفاظ على البيئة…الخ
والجدير بالذكر أن الحضارة هي واحدة، وهي ملك البشرية كلها، لأن جميع الشعوب ساهمت كل بقدر في صنعها. أما سبب انطلاق ورقي الحضارة الحديثة في الغرب أكثر من غيره، فهو لأن الغرب تحرر من سيطرة الكنيسة على الدولة، وأطلق العنان لحرية العقل للإبداع. كذلك يجب التمييز بين الحضارة، والثقافة الاجتماعية الموروثة (culture) التي هي جزء من الحضارة، والتي تعني منظومة الأعراف والعادات والتقاليد، وتشمل الأديان والمذاهب، والقيم التي تنتقل من جيل إلى جيل. فالصدام لم يكن بين الحضارات، وإنما بين الثقافات. لذلك يؤاخذ على هنتغتون بتعبيره: (صدام الحضارات)، والأصح (صدام الثقافاتClash of cultures-)، وهذا التعبير الأخير ذكره العلامة علي الوردي في ستينات القرن الماضي.
موقف الإسلاميين من الحداثة والحضارة الغربية
فالإسلاميون يتقبلون الحداثة ويأخذون بها، لأنهم يستفيدون منها في جميع نشاطاتهم، مثل تكنولوجية المعلومات (Info-Tech=IT)، و وسائل الإعلام لنشر أدبياتهم وأفكارهم بين الجماهير، و الاستفادة من تقنية الأسلحة، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، وبرامج السلاح النووي كما نرى الآن صراع الحكومة الإيرانية الإسلامية مع العالم الغربي حول هذا الموضوع. باختصار، الإسلاميون كغيرهم من البشر يرون أنه لا حياة مريحة في العصر الراهن بدون التكنولوجيا الحديثة، والحداثة بصورة عامة.
ولكن الإسلاميين ضد الحضارة الحديثة التي يسمونها بالحضارة الغربية، و يرونها أم الشرور. أما الديمقراطية التي هي أعظم ما أنتجته الحضارة “الغربية”، و رغم أنهم يشاركون في الانتخابات عندما تتوفر لهم الفرصة، ولكن هذا تكتيك مرحلي لتسلم السلطة، وإذا ما استلموا السلطة فإنهم يتنكرون للديمقراطية، ويبقون على الانتخابات الشكلية وفق شروطهم التعسفية المخالفة لأبسط شروط الديمقراطية. ففي إيران الإسلامية مثلاً، لا يحق لأي مواطن بالترشح للانتخابات البرلمانية ما لم يعلن أنه يؤمن بحكم ولاية الفقيه مائة بالمائة. فالديمقراطية كما نعرفها، ليست انتخابات فقط، بل هناك مسائل أخرى كثيرة من شروط الديمقراطية، وعلى رأسها حرية التعبير، والتفكير، واحترام حقوق الأقلية، وحرية الفرد ضمن قوانين، وتعددية الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص للجميع، بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية، والمذهبية، والجندرية (الجنس)، …الخ.
فهذه الشروط يرفضها الإسلام السياسي جملة وتفصيلاً، وحتى لا يعترفون بالوطنية وحدود الأوطان، وهناك مقولات كثيرة للعديد من زعماء الإسلام السياسي في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال لا الحصر: قال مهدي عاكف، مرشد جماعة أخوان المسلمين في مصر مقولته الشهيرة “طز في مصر وأبو مصر” وقال أيضاً أنه “يفضل أن يحكم مصر مسلم من ماليزيا على أن يحكمها مصري مسيحي”(2).
كما طالب زعيم الإخوان المسلمين السابق مصطفي مشهور بأنه:”يجب إخراج الأقباط من الجيش المصري وأن يدفعوا لنا الجزية وهم صاغرون”. وبالطبع هذا ليس الرأي الشخصي لهذين الزعيمين الإسلاميين، بل ضمن فلسفة جماعة الأخوان وغيرهم من تنظيمات الأحزاب الإسلامية.
وفي كتابه الموسوم: (جاهلية القرن العشرين) للشيخ محمد قطب (شقيق سيد قطب، وأستاذ بن لادن)، يعتبر كل ما أنتجه الغرب من معارف وثقافات وفلسفات وعلوم وتكنولوجيا وحضارة وحداثة…الخ، منذ ما قبل سقراط وإلى الآن، هو جهل في جهل، وأن الثقافة الحقيقية هي الإيمان بالقرآن والسنة فقط. ووفق نظرتهم هذه، فإن غير المسلمين السنة، وحتى المسلمين الشيعة، وعند الاقتدار، يجب إنذارهم، ومنحهم مهلة ثلاثة أيام بأن يتحولوا إلى مسلمين سنة، وإلا يجب قتل رجالهم، وسبي نساءهم وأطفالهم وبيعهم في أسواق النخاسة، تماماً كما كانوا يعملون قبل 14 قرناً من الزمان في عهد الفتوحات الإسلامية. هذا ما صرح به إمام مكة في مقابلة تلفزيونية مع مراسل بي بي سي العربية قبل سنوات. هذه الدعوة وفق معايير اليوم تعتبر فاشية تهدد الحضارة البشرية.(3).
موقف الإسلام السياسي من المرأة
رغم تكرارهم لمقولة (الإسلام كرَّم المرأة)، وقد يكون صحيحاً نسبياً إذا ما قورنت مكانة المرأة في الإسلام مع ما كانت قبل الإسلام، إلا إنه مقارنة بعصرنا، فحقوق المرأة مهضومة إلى أبعد الحدود. والإسلاميون يرددون أقوالاً ينسبونها إلى النبي محمد، تحط من مكانة المرأة وكرامتها، مثل: “النساء ناقصات عقل ودين”، وقوله: (أن النساء هن أكثر أهل النار”، وقوله: “ثلاثة أشياء تبطل الصلاة إذا مرت من أمام المصلي: مُرورُ المرأةِ والكلبِ الأسودِ والحمارِ”. وقوله: “لعن الله قوما حكمتهم امرأة.” وأنا واثق أن كل هذه الأحاديث مزورة، رغم أنها مذكورة في كتب الصحاح، ولكن يرددها الإسلاميون، ويتخذونها ذريعة للطعن بمكانة المرأة وقدراتها العقلية. وفي جميع الأحوال، مازال الإسلاميون يرفضون مساواة المرأة بالرجل في الإرث، والشهادة في المحاكم، والمناصب. ولذلك لا يمكن لأي شعب أن يتقدم ونصفه مشلول.
جهل الإسلاميين بالطبيعة البشرية
وبالعودة إلى اعتراضات أخينا د.غسان السامرائي، حيث يؤاخِذ عليَّ قولي:”جهلهم بالطبيعة البشرية” فيقول: (فإني لا أدري والله ما هو “العلم بالطبيعة البشرية”.)
جوابي هو: من الطبيعة البشرية أن “كل ممنوع متبوع”. و “إن الإنسان حريص على ما مُنِع”، ويكره ما يفرض عليه بالقوة، وخاصة في الدين والسياسة، كأن يُفرض عليه ماذا يلبس وماذا يأكل ويشرب…الخ. وعلى سبيل المثال، فرض الدين بالإكراه يؤدي إلى نتائج معكوسة. وهذا ما حصل في إيران تحت حكم ولاية الفقيه حيث نسبة الإلحاد فيها أعلى بكثير مما في أية دولة في العالم.(4)
لذلك نهى الله عن فرض الدين بالقوة، إذ جاء في القرآن الكريم: (لا إكراه في الدين)، وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون)، وقوله: (ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل)، وقوله: “وقل الحق من ربكم ،فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر..”، و”لكم دينكم ولي ديني” وغيرها كثير من الآيات التي تؤكد عدم فرض الدين بالإكراه.
أما أقوال الحكماء في هذا الخصوص، فقد قال المصلح الإمام محمد عبده:
ولست أبالي أن يقال محمد أبلّ *** أم اكتظت عليه المآتمُ
ولكن ديناً قد أردتُ صلاحه *** أُحاذر أن تقضي عليه العمائمُ
والجدير بالذكر أن الإمام محمد عبده قال عن الغرب: “ذهبت للغرب فوجدت إسلامًا ولم أجد مسلمين.. ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكننى لم أجد إسلامًا!!”. وهو نفس الغرب الذي يلعن الإسلاميون حضارته ليل نهار.
كما وقال الطيب الذكر الشاعر محمد صالح بحر العلوم في ملحمته الخالدة، أين حقي (5):
أنت فسرت كتاب الله تفسير فساد
واتخذت الدين أحبولة لف واصطياد
فتلبست بثوب لم يفصل بسداد
وإذا بالثوب ينشق ويبدو: أين حقي؟!
موقف العلمانيين من الدين
يجهد الإسلاميون عمداً بإظهار العلمانيين بأنهم كفار، وضد الأديان. وهذا خطأ وافتراء وتحريض وتأليب لتصفيتهم باعتبارهم مرتدين، وعقوبة المرتد في الإسلام هي القتل، كما هو معروف. بينما في الحقيقة حرية الأديان والعبادة، وممارسة الشعائر والطقوس الدينة محترمة ومضمونة في جميع الدول العلمانية الديمقراطية، وخاصة في الغرب أكثر من الدول الدينية نفسها.
ومن الاعتراضات عليَّ، أني أجمع بين ما هو “ديني صرف” وما هو “إسلامي الاتجاه”.
في الحقيقة لا فرق، فالخطر ليس من الإسلام الديني، بل من الإسلام السياسي. لماذا؟
فنحن مع الإسلام كدين، لأن في هذه الحالة نعرف أنه “لا إكراه في الدين”، و”إنما الدين النصيحة” … إلى آخره من الآيات والأحاديث النبوية التي تترك للإنسان حرية الاختيار. ودور رجال الدين هو تقديم النصيحة. أما الإسلام السياسي فيلغي حرية الاختيار، ويفرض الدين بالقوة والإكراه. وهذا الاسلوب يؤدي إلى نتائج معكوسة، على الضد مما يراد منه، كما حصل في إيران، والعراق والسعودية حيث نفور الناس من الدين. فمن مصلحة الدين والسياسة والبشرية عدم تسييس الدين، وعدم أسلمة السياسة، لأن السياسة تفسد الدين، والدين يفسد السياسة.
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- د. عبد الخالق حسين : لماذا فشل الإسلام السياسي في حماية الدين والفضيلة؟
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=702588
2- سامي البحيري: “طز في مصر وأبو مصر وإللي في مصر”
http://83.222.244.64/opinion/749794/?source=Web&year=2012&month=7&page=4&per-page=10
3- د. عبد الخالق حسين : غفلة الغرب عن مخاطر الإسلام السياسي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=336912
4-د. عبد الخالق حسين : لماذا الدعوة لتدمير العراق في سبيل إيران؟
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=701994
5- محمد صالح بحر العلوم في ملحمته الخالدة، أين حقي
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=4244
6- حوار تلفزيوني بين الدكتور حميد الكفائي والسيد جمعة العطواني، فيديو (57 دقيقة): الإسلام السياسي.. محنة السلطة وأثقال التاريخ مباشر | #أبعاد_أخرى من #UTV_عراق
https://www.facebook.com/watch/live/?v=441119320390474&ref=watch_permalink