ديسمبر 26, 2024
download (2)

الكاتب : عبد الخالق حسين

يمر العراق اليوم في أسوأ مرحلة في تاريخه الحديث منذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921 وإلى الآن. فبعد 40 سنة من حكم التيار القومي العروبي الدكتاتوري (1963- 2003)، وخاصة خلال فترة حكم البعث (1968-2003)، حيث تعرض هذا الشعب إلى أبشع أنواع الظلم والجور، والحروب العبثية، الداخلية والخارجية، والحصار الاقتصادي، وتفتيت نسيجه الاجتماعي، والتجهيل المتعمد، والانهيار الفكري والسياسي والأخلاقي، ما لم يتعرض له أي شعب آخر في التاريخ. وقد حاول الشعب عدة مرات إسقاط هذا النظام الجائر بقواه الذاتية، وكانت النتيجة محاولات النظام إبادة الجنس ومئات المقابر الجماعية. وقد بلغ الوضع حداً لا يطاق من السوء، لذلك طالبت المعارضة الوطنية آنذاك تدخل المجتمع الدولي بقيادة أمريكا وبريطانيا لمساعدة الشعب في إسقاط هكذا نظام جائر عام 2003، وهذا ما حصل. فلولا التدخل الدولي لكان صدام حسين وأبنائه وعشيرته، ما زالوا يمارسون هوايتهم المفضلة في إبادة الشعب، وتشريده بكل مكوناته ونشر المقابر الجماعية.

يلوم البعض أمريكا أنها أخطأت في إسقاط حكم البعث بسبب ما حصل من أعمال عنف وإرهاب ما بعد السقوط. ينسى هذا البعض أن هناك حقيقة أشبه بقانون طبيعي، مفادها أن أي شعب تعرض إلى ظلم شديد ولفترة طويلة من نظام دكتاتوري جائر، فلا بد وأن تحصل فيه فوضى عارمة بعد سقوطه، والتاريخ حافل بالأمثلة، إذ كما قال فريدريك أنجلز: (لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة).

المشكلة العراقية لا تنحصر في صراعه الداخلي على السلطة والنفوذ فحسب، بل وهناك تدخل خارجي من جميع دول الجوار بلا استثناء، وبالأخص من إيران والسعودية. فكلتا الدولتين تستغلان الانقسامات الطائفية والأثنية في العراق، لشراء الولاءات لهما على حساب الوحدة الوطنية، وتحويل العراق من دولة إلى اللادولة. هذا التدخل وخاصة الإيراني، لعب دوراً كبيراً في عدم استقرار الوضع في العراق، ومعاناة شعبه من عدة أزمات متفاقمة مثل عدم الاستقرار السياسي، والفساد الإداري والمالي، وتفشي البطالة، وانتشار موجة الاختطافات والاغتيالات للنشطاء السياسيين الحريصين على سلامة ووحدة العراق، الأمر الذي أدى إلى انفجار التظاهرات الشعبية في بغداد ومحافظات الوسط والجنوب ذات الأغلبية الشيعية منذ الأول من تشرين الأول (اكتوبر) 2019 وإلى الآن.

إن تدخل النظام الإيراني الإسلامي أصبح سافراً في العراق منذ السقوط حكم البعث عام 2003 ، بدافع أيديولوجيته الدينية الشيعية ظاهراً، وبحجة حماية شيعة العراق من الارهاب البعثي الداعشي، والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني، وطرد النفوذ الأمريكي من العراق، ودول المنطقة. لذلك قامت إيران بدعم أحزاب سياسية عراقية شيعية، لها مليشيات مسلحة موالية لها ولحكم ولاية الفقيه، مثل: كتائب حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق وغيرهما.

فهناك أكثر من 60 مليشيا حزبية في العراق، كلها تدعي أنها فصائل الحشد الشعبي الذي تأسس بفتوى الإمام السستاني عندما وصلت عصابات داعش إلى تخوم بغداد تهدد باحتلالها وإسقاط النظام الديمقراطي وإعادة العراق إلى عصور الظلام الغابرة. ولكن الملاحظ أن أغلب المليشيات قد تأسست قبل فتوى المرجع الديني، وأما الحشد الشعبي فقد صدر بحقه قانون من البرلمان الذي جعله جزءً من القوى الأمنية، وتحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة. بينما هناك مليشيات أخرى رغم ادعائها أنها من الحشد الشعبي، إلا إنها تستلم أوامرها من الولي الفقيه في إيران، وتعمل ضد أوامر القائد العام للقوات المسلحة. تستخدم إيران هذه المليشيات لفرض نفوذها وإرادتها على الحكومة العراقية، ومهاجمة أمريكا من الأراضي العراقية وبدماء العراقيين.

إن المليشيات الموالية لإيران وصلت حداً من الوقاحة والتمرد بحيث صارت تهدد بإسقاط أية حكومة عراقية ما لم يذعن رئيسها لإرادة ولي الفقيه الإيراني. وتأكيداً لهذا، جاء في بيان لخلية الإعلام الأمني: “سقوط صاروخ نوع كاتيوشا بمحيط مطار بغداد الدولي، دون خسائر تذكر، وقد تبين أن انطلاقه كان مِن قرية الفياض جنوب شرق المطار” وأضاف البيان: “يأتي هذا بعدما غادر رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بغداد متوجهاً إلى الولايات المتحدة الأميركية، على رأس وفد حكومي، تلبية لدعوة رسمية”(1).
غني عن القول أن هذا الصاروخ كان رسالة من هذه المليشيات إلى رئيس الوزراء بأنهم يستطيعون إسقاط طائرته واغتياله ما لم يذعن لأوامر الولي الفقيه وتقف ضد أمريكا.

إيران تستخدم الشيعة العرب في البلاد العربية لأغراضها التوسعية، مما أثار مخاوف الحكومات العربية وخاصة في الدول الخليجية، والشك في ولاء ابناء الطائفة لأوطانهم، وبالتالي اضطهادهم واعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، ولاؤهم لإيران وليس لأوطانهم. كذلك تدعي إيران أنها تدافع عن حق الشعب الفلسطيني في صراعه مع إسرائيل وحليفتها أمريكا، بينما هذا التدخل الإيراني أدى إلى توسيع شعبية اليمين الإسرائيلي بقيادة اليميني المتطرف بنجامين نتنياهو، و فاقم مأساة الشعب الفلسطيني. فكما هو واضح اليوم في العراق ولبنان واليمن، أن إيران لم تبعث جيوشاً لمحاربة أمريكا وإسرائيل، بل خلقت في هذه البلدان مليشيات مسلحة لمحاربة النفوذ الأمريكي فيها، وأحالت هذه الدول إلى اللادولة.

أمريكا بدورها لا تريد لإيران أي نفوذ في العراق و دول المنطقة. لقد نجحت إيران في جعل مليشياتها في لبنان واليمن أقوى من جيوشها الوطنية، وهذا ما تسعى إليه في العراق، وبهذه الطريقة تريد إيران خلق حكومات ضعيفة، وأوضاع أمنية هشة في هذه البلدان. ولكنه نجاح أسوأ من الهزيمة، فهذا النجاح مقابل عزل النظام الإيراني عن المجتمع الدولي، وفرض الحصار الاقتصادي على الشعب الإيراني، تماما كما حصل في العراق في عهد النظام البعثي الصدامي بعد جريمته في احتلال الكويت عام 1990، وسقوطه فيما بعد.

والمؤسف أن إيران لها أتباع من الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة في العراق، وهذا ما جعل العراق وليس إيران، في مواجهة عسكرية مع أمريكا، وهذا ليس من مصلحة الشعب العراقي، ولا شيعة العراق.
نشر قبل أيام الأكاديمي العراقي الدكتور عقيل عباس، مقالاً عن الصراع الإيراني- الأمريكي في العراق بعنوان: (أميركا في العراق بين العداء الايديولوجي والانفتاح البراغماتي)(2)، قوبل بتأييد من قبل الليبراليين العراقيين، ومعارضة شديدة من الإسلاميين المؤدلجين، وبعثيين بدوافع خبيثة سنأتي عليها بعد قليل، وحتى من جهات معروفة بوطنيتها لأنها لم تتخلص بعد من العداء لأمريكا بسبب ماضيها المؤلم في مناوئة حركات التحرر الوطني في العالم. بينما الحكمة تفيد:”في السياسة لا توجد صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة”.

إن دافع الإسلاميين الشيعة في تأييد الدور الإيراني المخرِّب في العراق والمنطقة، هو الأيديولوجية الإسلامية، وموقف أمريكا المؤيد لإسرائيل. نسي هؤلاء سامحهم الله، أننا نعيش في زمن العولمة، حيث صار العالم قرية كونية صغيرة، و صارت المشاكل التي تواجهها الشعوب مشاكل دولية لا يمكن لدولة لوحدها الخلاص منها، بل لا بد من تضافر الجهود والدعم الدولي بقيادة أمريكا. وعلى سبيل المثال خذ مشكلة الإرهاب الإسلامي مثل (القاعدة، وداعش، وبكو حرام)، وغيرها من التنظيمات الإرهابية المنتشرة في العالم، إذ لا بد من التحالف الدولي في مواجهتها. وكذلك موضوع جائحة كورونا، والمشاكل الاقتصادية وغيرها كثير.

أما دافع البعثيين في تأييد إيران والمليشيات الموالية لها في العراق واليمن ولبنان، هو ليس حباً بإيران ونظامها الإسلامي الشيعي، وحكم ولاية الفقيه، ولا لحبهم للعراق الجديد، والأحزاب الشيعية ومليشياتها المعادية لأمريكا، بل لأسباب تكتيكية خبيثة. فقد وزعت قيادة البعث الساقط الأدوار على أتباعها كالتالي: قسم يحاولون التقرب من أمريكا، وكسب ودها، فيعقدون مؤتمراتهم فيها، ويشكلون لهم لوبياً في واشنطن على أمل إعادتهم للسلطة. والقسم الثاني يحاربون العراق الجديد باسم داعش لإسقاط النظام الديمقراطي تمهيداً لعودتهم! والمعروف عن البعثيين أنهم يتمتعون بقدرات واسعة في التلون وتغيير جلودهم، وعقد تحالفاتهم حتى مع الشيطان من أجل العودة. والقسم الثالث من البعثيين والعروبيين يتظاهرون بتأييد إيران والمليشيات الموالية لها في العراق وغيره، بحجة محاربة أمريكا وإسرائيل في المنطقة دفاعاً عن القضية الفلسطينية. وهذا الموقف هو كذب صريح، ويستخدمون لهذا الغرض أحقر الوسائل خسة ودناءة في مهاجمة كل من يخالفهم في الرأي، و ينتقد إيران ويطالب بالاستفادة من أمريكا، وعدم زج العراق الجريح في سياسة المحاور المتصارعة في منطقتنا التي صارت عبارة عن برميل بارود متفجر، لأن الشعب العراقي بعد تعرضه لهذا الكم الهائل من الكوارث خلال العقود الماضية، ليس بإمكانه محاربة أمريكا، أو أية دولة أخرى، إذ ليس من الحكمة عدم الاستفادة من إمكانيات أمريكا إلى جانبه… ولكن لا حياة لمن تنادي.

يستخدم هؤلاء العفالقة و اشباههم مواقع التواصل الاجتماعي، ومجموعات النقاش للهجوم الشرس وبأسلوب شوارعي لا أخلاقي بذيء ضد كل من لا يوافقهم على آرائهم. وعلى سبيل المثال، راح أحدهم ويدعي أنه عروبي، يعدد مواقف أمريكا السلبية في كوبا وإيران وغيرهما، لذلك يريد من العراق أن يؤيد الموقف الإيراني ضد أمريكا!! فالعالم أيها السادة مليء بالمظالم والبشاعات، وليس بإمكان العراق الجريح المبتلى بأزماته الكارثية المتراكمة عبر قرون، أن يحول العالم إلى جمهورية أفلاطون أو مدينة فارابي الطوباوية الفاضلة؟ أليس من واجب العراقيين أن يهتموا أولاً وقبل كل شيء، ببناء بلدهم قبل أن يوجهوا طاقاتهم لتغيير العالم؟ وهل بإمكانهم القيام بهذه المهمة الطوباوية التي لا توجد إلا في خيالاتهم المريضة؟

يستخدم هؤلاء البعثييون وأشباهمم الشتائم والبذاءات وأسلوب التسقيط والابتزاز ضد كل من يخالفهم في الرأي، وهذا ليس بالأمر الغريب، إذ كما يقول العلامة علي الوردي عن هؤلاء: (يجب أن لا ننسى أن الكثيرين منا متحضرون ظاهرياً بينما هم في أعماقهم لا يزالون بدواً أو أشباه بدو، فإن قيم البداوة التي تمكنت من أنفسهم على توالي الأجيال ليس من السهل أن تزول عنهم دفعة واحدة بمجرد تقمصهم الأزياء الحديثة أو تمشدقهم بالخطب الرنانة).
كذلك هناك البعض من ذوي النوايا الحسنة يمنون النفس بآمال فنطازية ليس لها أي نصيب من الواقع، فهم يعتقدون أن في نهاية المطاف لا بد وأن تنهار أمريكا كما انهارت الامبراطوريات الأخرى في التاريخ، وأن أمريكا لا بد وأن تنهزم من منطقتنا الشرق أوسطية، وأنها مسألة وقت فقط. في الحقيقة هذه سذاجة، أدعو الأخوة من أصحاب هذا الرأي أن يقرؤوا مقالاً قيماً للدكتور صلاح حزام بعنوان: (حول السذاجة السياسية)(3)

أود التوكيد أني ذكرت مراراً بأني لا أدعو إلى معاداة إيران، لأن هناك روابط تاريخية وجغرافية ودينية بين الشعبين، ولكن على الحكومة الإيرانية أن تكف عن تدخلها في شأن العراق الداخلي بغية إضعاف الحكومة العراقية، وزعزعة الأمن فيه. كعراقيين، نريد علاقة ودية و ندية، على أساس المصالح المشتركة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي.(4)

أوِّد أن أذكر المدافعين عن سياسة إيران الانتحارية بدوافع أيديولوجية، أن الأيديولوجيات جاءت في زمان لحل مشاكل ذلك الزمان، ولخدمة البشر وليس العكس. فنحن نعيش في عصر يحصل فيه التغيير بسرعة فائقة، تظهر فيه مشاكل جديدة تحتاج إلى حلول جديدة، وبعقول متفتحة غير مكبلة بأيديولوجيات مصبوبة بقوالب كونكريتية أكل الدهر عليها وشرب.
إذ كما قال الدكتور عقيل عباس في مقاله القيم المشار إليه أعلاه: (المصالح الوطنية وليس المشاعر الأيديولوجية هي التي ينبغي أن تكون البوصلة العراقية في التعاطي مع أميركا وغيرها من دول المنطقة والعالم).
abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
ــــــــــــــــــــ
روابط ذات صلة
1- سقوط كاتيوشيا بمحيط مطار بغداد
https://www.akhbaar.org/home/2020/8/274501.html

2- د. عقيل عباس: أميركا في العراق بين العداء الايديولوجي والانفتاح البراغماتي
https://www.akhbaar.org/home/2020/8/274889.html

3- د. صلاح حزام: حول السذاجة السياسية
http://www.almothaqaf.com/a/araa2019/949207

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=626341

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *