الكاتب : محمود الدباغ
مر العراق بتقلبات كبيرة خلال العقود الماضية، مما أثر بشكل مباشر على تطور نظامه الأمني. حيث كانت الاجهزة الامنية قبل عام 2003 تعمل وفق أجندات النظام الحاكم ويعكس منظورًا حزبيًا وقوميًا في تحديد التهديدات الأمنية وإصدار القرارات بشأنها. بعد عام 2003، تم حل الجيش العراقي إلى جانب العديد من الأجهزة الأمنية، مما أدى إلى فجوة في الكفاءة والقدرة على التصدي للمخاطر المتزايدة. ورغم تشكيل العديد من الأجهزة الأمنية الجديدة، فإنها لا تزال تواجه صعوبة في التكامل والقيام بدورها الفعلي، في وقت تتصاعد فيه التهديدات الأمنية داخليًا وخارجيًا.
• مفهوم الأمن القومي في العراق
إن الأمن القومي العراقي ليس مسألة تقليدية يمكن تحقيقها بمجرد حماية الحدود الوطنية، إذ أن جغرافية العراق تفتقر إلى العمق الجغرافي الذي يعزز من قدرة الدولة على تأمين حدودها بشكل فعال. فالعراق يقع في قلب منطقة شديدة الاضطراب، حيث تؤثر تحديات جغرافية أخرى، مثل نقص الموارد المائية، بشكل مباشر على استقرار البلاد. فحوالي 90% من المياه التي يعتمد عليها العراق تأتي من خارج حدوده بالاضافة الى ملف الطاقة الكهربائية الذي لم تعالجه الحكومات المتعاقبة وتعمد دول الجوار على ابقاءه تحت سيطرتها، مما يضع تحديًا كبيرًا أمام الحفاظ على أمن الطاقة والمياه، الذي يعد أحد الدعائم الأساسية للأمن القومي. هذه الجغرافيا المعقدة تعني أن العراق لا يمكنه تأمين أمنه فقط عبر سياسات محلية، بل يجب أن يتبنى سلسلة من الإجراءات على الصعيد الإقليمي والدولي، بدءًا من علاقاته مع جيرانه وصولًا إلى الانخراط في جهود دبلوماسية مع القوى العالمية الكبرى.
• التحديات الجيوسياسية: تهديدات مستمرة على الحدود
يمثل الموقع الجغرافي للعراق أحد أبرز التحديات التي تؤثر على أمنه القومي. العراق يعد معبرًا استراتيجيًا بين الخليج العربي وتركيا وأوروبا من جهة، وبين إيران وسوريا من جهة أخرى. هذا الموقع جعل منه ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، حيث أصبحت البلاد ساحة حرب بالوكالة بين القوى الكبرى والإقليمية. بالإضافة إلى ذلك، فإن العراق يواجه ضغوطًا مستمرة من جهات تسعى إلى الحفاظ على استقرارها الأمني على حساب استقرار العراق، مجموعة من الممارسات المستمرة منذ اعوام مثل ايران التي تستخدم اراضي العراق كممر رئيسي لتسليح اذرعها وحلفائها في المنطقة وتركيا التي توغلت في العمق العراقي تحت ذريعة محاربة جماعات مناوئة لنظامهم الحاكم وسوريا التي دفعت ما تبقى من عصابات داعش بإتجاه الحدود العراقية مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني ويصفها خبراء بأنها اشبه بقنابل موقوتة قد تدمر الاستقرار الأمني المؤقت وتعيد عجلة العنف في البلاد.
تشكل الحدود العراقية تحديًا مزدوجًا، حيث تمتد من إيران شرقًا إلى سوريا غربًا، مرورًا بمنطقة كردستان شمالًا. في هذا الشريط الحدودي، تعمل جماعات مسلحة مثل الفصائل العراقية شرقاً، وعناصر حزب العمال الكردستاني شمالا، وإفرازات عصابات داعش الإرهابية غرباً، مما يجعل العراق عرضة للتدخلات الأجنبية والصراعات الإقليمية. ويزيد من تعقيد الوضع أن الحدود العراقية ليست مجرد حدود جغرافية، بل هي خطوط تماس بين قوى إقليمية وعالمية تتصارع على النفوذ وترى في حدود العراق هي حدود امنها القومي وساحة لتصفية الخلافات وتقليم اظافر الخصوم، مما يضاعف التهديدات الأمنية على العراق.
• مافيات الاقتصاد غير المشروع
على مدار الأعوام، ساهم عدم بناء منظومة أمنية متكاملة في جعل العراق بيئة خصبة للمافيات والجماعات الاقتصادية غير المشروعة. تحوّل العراق إلى بلد منتج ومستهلك للمواد المخدرة، حيث تقدر الأمم المتحدة أن العراق هو واحد من أكبر ممرات تهريب المخدرات في منطقة الشرق الأوسط. هذه الأنشطة غير القانونية لا تضر فقط بالاستقرار الاقتصادي، بل تسهم أيضًا في تعزيز قوة الجماعات المسلحة التي تستفيد من العائدات المالية لهذه الانشطة وتقوم ببناء امبراطوريات متنامية من تجارة الممنوعات والتهريب. ورغم أن الجهات الأمنية والقضائية تقوم بعدد من الإجراءات ضد شبكات تهريب وتجارة المخدرات، إلا أن هذه الإجراءات لا ترتقي إلى مستوى المعالجة الحقيقية للتهديد. فالمطلوب، وما يجب ان تتضمنه رؤية الأمن القومي العراقي، هو توجيه الجهود نحو معاقل الإنتاج نفسها وتدميرها، كما فعلت الأردن في محافظة درعا السورية، بدلاً من الاكتفاء بملاحقة شبكات التوزيع الداخلية بالاضافة الى الاتجار بالبشر وغيرها من الملفات الحساسة كتهريب النفط والابتزاز الاقتصادي والجماعات التي تنفذ اجندات دول الجوار، يفترض ان تكون اعلى قائمة اولويات الامن القومي في المرحلة القادمة.
• الامن السيبراني ثم التقليدي
في الوقت الذي تركز فيه الأجهزة الأمنية العراقية على مكافحة الإرهاب ومواجهة التحديات بالطرق التقليدية، فإن التحديات الأمنية العالمية قد أخذت منحى جديدًا مع تطور التكنولوجيا. باتت التهديدات السيبرانية تشكل تهديدًا متزايدًا و أصبحت الحروب الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من التهديدات الأمنية الحديثة وأخذها بنظر الاعتبار في الوسائل الدفاعية للأجهزة الامنية واحد أهم اولويات اجهزة الامن القومي في المنطقة والعالم. في هذا السياق، يجب على العراق أن يعيد التفكير في استراتيجياته الأمنية لمواكبة التطور السريع في هذا المجال الذي يتيح لك تحديد الخطر وإعتراض المعلومات قبل وقوع الكارثة مع ضبط الايقاع والحد الأدلجة التي تمارسها بعض الجهات الداخلية والخارجية تجاه شريحة واسعة من المجتمع مما يشتت الصف الوطني ويثقل على كاهل المنظومة الامنية، خاصة وأن الأجهزة الأمنية العراقية لا تزال تعاني من التشتت في سياسات العمل وعدم التكامل بين فروعها المختلفة بعد عقدين من تأسيسها.
• حاجة العراق إلى استراتيجية أمنية شاملة
إن تحديد أولويات الأمن القومي العراقي يتطلب تحديدًا دقيقًا للتحديات التي تواجه الدولة. ما يفتقر إليه العراق حتى الآن هو استراتيجية أمنية شاملة متكاملة، تضم جميع الأجهزة الأمنية وتعالج التهديدات على المستويين الداخلي والخارجي. لا يزال العراق في مرحلة انتقالية حساسة، حيث توجد حاجة ملحة إلى تعزيز التنسيق بين الأجهزة الأمنية وتفعيل دور المؤسسات الأمنية الوطنية في إطار شامل.
يجب أن يتم تعزيز مفهوم الأمن القومي في العراق ليشمل جميع الجوانب الأمنية، بدءًا من مكافحة الإرهاب وصولًا إلى تعزيز الأمن السيبراني وحماية البنية التحتية الحيوية. في البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، يُعتبر الأمن القومي الأساس الذي تبنى عليه السياسات الاستراتيجية، وهو ما يضمن استقرار الدولة ويؤمّن مستقبلها للأجيال القادمة. وبعد أكثر من عقدين من المحاولات لتحقيق الانتقال الديمقراطي، لا يزال العراق يواجه تحديات كبيرة في تحقيق هذا الهدف، ما يجعله متأخرًا عن مسار التطور الذي تسلكه الدول الأخرى في المنطقة والعالم.
محمود الدباغ
نائب رئيس مركز الرشيد للتنمية