يناير 19, 2025
Dr Fadhil Sharif

فاضل حسن شريف

جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله سبحانه “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” ﴿المائدة 3﴾ كل المأكولات والمشروبات على الإباحة إلا ما ورد النص بتحريمه خصوصا كالميتة وما إليها، أو عموما كالأشياء الضارة، ومنها الخبائث. قال تعالى:”يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً” (البقرة 168). وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا، حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه. وتقدم في الآية الأولى قوله تعالى: ” إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ” وقد تلا علينا صنفين من المحرمات: الأول ما أشار إليه بقوله: ” غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ” الخ وسبق تفسيره. الثاني ما ذكره في هذه الآية وهو عشرة أصناف. الأول: الميتة، وهي كل حيوان أو طير مات من غير تذكية شرعية، وتختلف التذكية الشرعية باختلاف الحيوان، فتذكية السمك بإخراجه من الماء حيا، وتذكية الجراد بالاستيلاء عليه حيا أيضا، وتذكية الجنين بذكاة أمه، وتذكية المصيد تكون بالكلب المعلَّم، أو بالسيف أو الرمح أو السهم أو آلة محددة الرأس، وتذكية الحيوان باستقباله القبلة وقطع أوداجه الأربعة مع ذكر اسم اللَّه عليه. والتفصيل في كتب الفقه، ومنها الجزء الرابع من فقه الإمام الصادق. الثاني: الدم المسفوح، والمراد به الذي يخرج بقوة ودفع، ويتميز عن اللحم، لأن ما يختلط باللحم معفو عنه، والدم الذي هو كاللحم حلال إذا كان كبدا عند جميع المذاهب، وحرام إذا كان طحالا عند الشيعة الإمامية خاصة. الثالث: لحم الخنزير، وهو حرام بإجماع المسلمين. الرابع: ما أهل لغير اللَّه، والإهلال رفع الصوت، يقال: استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة، والمراد به هنا ما ذبح على غير ذكر اللَّه. وقد كان المشركون يذبحون لأصنامهم، ويرفعون أصواتهم باسم اللات والعزى. وتقدم الكلام عن هذه الأصناف الأربعة عند تفسير الآية 173 من سورة البقرة ج 1 ص 264. الخامس: المنخنقة، وهي التي تموت اختناقا بيد أو حبل، أو يدخل رأسها في مضيق، وما إلى ذلك. السادس: الموقوذة، وهي التي تضرب بعصا ونحوها، حتى تموت. السابع: المتردية، وهي التي تتردى من مكان عال. الثامن: النطيحة، وهي التي تنطحها أخرى فتموت. التاسع: ما أكل السبع، أي ما تبقى من فريسة الحيوان المفترس. ثم استثنى سبحانه من الأصناف الخمسة الأخيرة ما ندركه حيا، فإنه يحل لنا بالذبح الشرعي، وهذا معنى قوله تعالى: “إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ”. وفي الأخبار: (أن أدنى ما تدرك به الذكاة أن تدركه وتتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه). العاشر: ما ذبح على النصب، قال صاحب التسهيل لعلوم التنزيل: (النصب جمع نصاب، وهي حجارة كان أهل الجاهلية يعظمونها، ويذبحون عليها، وليست بالأصنام، لأن الأصنام مصورة، والنصب غير مصورة). وتجدر الإشارة إلى ان محرمات الطعام لا تنحصر بهذه الأصناف العشرة التي جاءت في الآية الكريمة، بل هناك محرمات أخرى، كالكلب والحيوان المفترس والطير الكاسر كالبازي والنسر والحشرات وبعض أنواع السمك ومحرمات الذبيحة، وما إليها مما نصت عليه السنة النبوية، وأجمع عليه الفقهاء، ولا فرق بين ما جاء النص على تحريمه في الكتاب أو السنة: “وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا” (الحشر 7). وغير بعيد أن يكون ذكر هذه الأصناف بالخصوص لمناسبة قوله تعالى: “أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ”. وبعد أن ذكر سبحانه الأصناف العشرة عطف عليها قوله:”وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ”. أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، وهي جمع زلم بضم الزاي وفتحها، مع فتح اللام، والزلم قطعة من الخشب على هيئة السهم. وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر يهمه أخذ ثلاثة من الأزلام، وكتب على واحد منها أمرني ربي، وعلى ثان نهاني ربي، وأهمل الثالث، ثم يغطيها بشيء، ويدخل يده ويخرج أحدها، فان كان أمرا فعل، وان كان نهيا ترك، وان كان مهملا أعاد، حتى يخرج الأمر، أو النهي. “ذلِكُمْ فِسْقٌ”. إشارة إلى خصوص الاستقسام بالأزلام دلالة، والى جميع المحرمات المذكورة حكما، وبهذا يتبين معنا ان اختلاف المفسرين حول ذلكم: هل هي إشارة إلى خصوص الأخير، أو إلى الجميع؟ إن هذا الاختلاف لا جدوى منه، ما دام حكم الجميع واحدا، من حيث الفسق، أي الذنب العظيم.

وعن يأس الكافرين من دين الاسلام يقول الشيخ مغنية في تفسيرة الآية المائدة 3: “الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ واخْشَوْنِ”. قال كثير من المفسرين: أن المراد باليوم في الآية اليوم الذي نزلت فيه من ذي الحجة في حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة، وعليه يكون الألف واللام في اليوم للعهد، وقال صاحب مجمع البيان: اليوم هنا بمعنى الآن، كما يقول القائل: اليوم قد كبرت، أي الآن قد كبرت. ومهما يكن فان معنى الآية ان الكفار يئسوا من زوال الإسلام، أو تحريفه بعد أن تمكن في نفوس أتباعه، وأخذ طريقه في الانتشار يوما بعد يوم.. إذن، فلا تخافوا أيها المسلمون من الكافرين، وخافوا من اللَّه وحده، وصدق اللَّه العظيم في كل ما يقول: “يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ ويَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهً الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهً الْمُشْرِكُونَ” (التوبة 32-33). ومن المفيد بهذه المناسبة أن نقطف جملا من كتاب (الإسلام في القرن العشرين) للعقاد، قال: (إن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة، وحسب في أبان النشأة والظهور، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين.. وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال القوة والسطوة، ولا سيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون. إن قوة صمود العقيدة الإسلامية في صدر الإسلام عجيبة، ولكن صمودها الآن أعجب، لأنها لا تملك الدفاع النافع ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة، بل لا تملك الدفاع، ولا اتفاق بين أهلها على الدفاع. ان قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياستها، وعن عروش العواهل وتيجانها، وفي إفريقية اليوم مائة مليون مسلم، لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة، وقريب من هذا العدد مسلمون في السومطرة وبلاد الجاوة، وقريب منه في الباكستان، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين).

وعن إكمال الدين وإتمام النعمة يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تفسيره للآية المباركة المائدة 3: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً”. اختلف الشيعة وأكثر السنة في تفسير هذه الآية، ونحن نعرض أقوال الطرفين كناقلين، لا مؤيدين، ولا مفندين، ونترك القارئ وعقله يستفتيه وحده. قال السنة أو أكثرهم: المراد بالآية ان اللَّه سبحانه أكمل للمسلمين دينهم بتغلبه وإظهاره على الأديان كلها رغم محاربة أهلها ومقاومتهم له وللمسلمين، وأتم نعمته عليهم بالنص على عقيدته وشريعته أصولا وفروعا، وأبان جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم: “ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ”. وقال الشيعة: يصح تفسير الآية بهذا المعنى إذا لم تقترن بحادثة تفسرها، وتبين المراد منها، فإن كثيرا من الآيات تفسرها الحادثة التي اقترنت بزمن نزولها. من ذلك – على سبيل المثال قوله تعالى مخاطبا نبيه الأكرم: “وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ” (الأحزاب 37). فلو جردنا هذه الآية عن قصة زيد بن حارثة، وأخذنا بظاهرها لكان معنى الآية ان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله يؤثر رضا المخلوق على رضا الخالق.. حاشا من اصطفاه اللَّه لوحيه ورسالته. ثم قال الشيعة: وهذه الآية اقترنت بحادثة خاصة تفسرها وتبين المراد منها، واستدلوا على ذلك بما يلي: أولا: اتفق علماء السنة والشيعة المفسرون منهم والمؤرخون على ان سورة المائدة بجميع آياتها مدنية، ما عدا هذه الآية: ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ” فإنها نزلت في مكة، وفي السنة العاشرة للهجرة، وهي السنة التي حج فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله حجة الوداع، لأنه انتقل إلى جنان ربه في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة. ثانيا: ان النبي بعد أن قضى مناسكه في هذه السنة توجه إلى المدينة، ولما بلغ غدير خم – وهو مكان في الجحفة تتشعب منه طرق كثيرة – أمر مناديه أن ينادي بالصلاة، فاجتمع الناس قبل أن يتفرقوا، ويذهب كل في طريقه إلى بلده، فخطبهم وقال فيما قال: (ان اللَّه مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليّ مولاه يقولها ثلاثا، وفي رواية أربعا.. ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه. وأحبّ من أحبه، وأبغض من بغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحق معه حيث دار. ألا فليبلغ الشاهد الغائب). والسنة لا ينكرون هذا الحديث بعد ان تجاوز حد التواتر وسجله الكثير من أئمتهم وعلمائهم، منهم الإمام ابن حنبل في مسنده، والنسائي في خصائصه، والحاكم في مستدركه، والخوارزمي في مناقبه، وابن عبد ربه في استيعابه، والعسقلاني في إصابته، كما ذكره الترمذي والذهبي وابن حجر وغيرهم، ولكن الكثير منهم فسروا الولاية بالحب والمودة، وان المراد من قول الرسول صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه  من أحبني فليحب عليا. ورد الشيعة هذا التفسير بأن قول النبي: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه – يدل بصراحة ووضوح على ان نفس الولاية التي ثبتت لمحمد صلى الله عليه وآله على المؤمنين هي ثابتة لعلي عليه السلام، دون زيادة أو نقصان، وهذه الولاية هي السلطة الدينية والزمنية، حتى ولو كان للفظ الولاية ألف معنى ومعنى. وعلى هذا يكون معنى الآية ان اللَّه سبحانه أكمل الدين في هذا اليوم بالنص على علي بالخلافة. وتسأل: إن إكمال الدين بإظهاره على الأديان، وبيان أحكامه كاملة وافية كما يقول السنة – واضح لا يحتاج إلى تفسير، أما إكمال الدين بالنص على خلافة علي فلا بد له من التفسير والإيضاح، فبأي شيء يفسره الشيعة؟. قال الشيعة في تفسير ذلك: ان الإكمال حقا لا يتم إلا بوجود السلطة التشريعية والتنفيذية معا، والأولى وحدها ليست بشيء ما لم تدعمها الثانية، وقد كان التنفيذ بيد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، فظن أعداء الإسلام أن السلطة التنفيذية ستذهب بذهاب الرسول، بذهابها يذهب الإسلام… فأقام النبي عليا ليحفظ الشريعة من بعده، ويقيم الدين كما أقامه الرسول (صلى الله عليه وآله )، وبهذا لم يبق للكفار أي أمل في ذهاب الإسلام أو ضعفه. ” فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهً غَفُورٌ رَحِيمٌ “. مر تفسيره مفصلا في ج 1 ص 265 فقرة (المضطر وحكمه )، الآية 173 من سورة البقرة..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *