اسم الكاتب : سلمان رشيد محمد الهلالي
النمط الوطني الرابع والاخير 2003 – (…؟…)
ونستطيع ان نصف هذا النمط من الوطنية بانه ليس سوى صدى للنمط الوطني المستحكم السابق . اذ سبق ان ذكرنا ان النمط الوطني الرابع هو اقوى الانماط الوطنية في تاريخ العراق المعاصر التي رسختها الاحزاب القومية – بشقيها الناصري والبعثي – في اذهان المجتمع العراقي – مع التاكيد ان الفاعلية البعثية هى الاقوى تاثيرا – حتى اننا نستطيع اعتبار هذا النمط الخامس هو امتداد للنمط الرابع , (لان الانفصالات في تاريخ المعرفة لاتعزل الماضي عن الحاضر) – حسب فوكو – الا ان الاختلاف والامتياز فيه هو ان المستهدف بالتخوين والعمالة والخروج عن الوطنية هو محل الاختلاف , فالنمط الوطني الرابع اعتبر الحكومات القومية والسلطة البعثية واعمالها وممارساتها وحروبها هى في خانة التصرفات الوطنية , فيما اعتبرت المعرضة لها من الاحزاب والفئات الاجتماعية الاخرى كالحزب الشيوعي العراقي والاحزاب الاسلامية الشيعية والكوردية والاقليات الاجتماعية الاخرى في خانة العملاء او التبعية للاجانب , فيما ان النمط الوطني الخامس والاخير الذي تبلور بعد سقوط ظام حزب البعث عام 2003 قد تبنى المنهجية العكسية , اذ اعتبر الاحزاب والتظيمات والشخصيات والفئات الاجتماعية التي عارضت المشروع السياسي الديمقراطية للحكومات العراقية بعد 2003 هم الوطنيون المخلصون , وتلازمت الاتهامات بالخيانة والعمالة الى نفس الفئات والاحزاب السابقة التي استهدفها النمط الوطني الرابع وفق اطروحتي (المقدس والمدنس) , لسبب بسيط ومحدد وهو استمرارية هيمنة (المتخيل) الذي صنعته او بلورته الانظمة القومية على مدى اربعين عاما في الحكم والتقييم على الاحزاب المعارضة لها سابقا , ونعتها حتى بالمفردات والصفات والسرديات التي كان يطلقها النظام السابق عليها ,( فالسرديات تنسال الى الوعي الثقافي الجمعي عبر سلسلة من التراكمات اشبه بالمعرفة القبلية التي توجه الوعي الثقافي لمجتمع او امة ما ) – كما يقول ليوتار – فيما عجزت السطات الحاكمة بعد 2003 – ورغم امتلاكها لاهم ميزة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر – وهى المشروعية الانتخابية والديمقراطية – من صناعة او بلورة نمط وطني جديد يعبر عن التوجهات السياسية الحديثة , لاسباب تتعلق بطبيعة النظام السياسي التعددي الجديد الذي لايسمح باحتكار وسائل الاعلام والتربية والتعليم والعصبة الحزبية والاجتماعية التي تصنع الجماهير عادة في الانظمة الشمولية الاستبدادية , وغيرها من المسارات التي تعمل عادة على تمجيد النظام السياسي وتبييض صفحته والدفاع عنه وتبرير افعاله , فضلا عن انشغالهم بالصراعات السياسية والحزبية والفساد ومواجهة الارهاب وغيرها من الاشكالات المعقدة التي تبلورت بعد عملية التغيير .
وابلغ دليل عياني على استمرارية النسق او النمط الوطني الرابع الى مابعد عام 2003 هو عدم تجرأ احدا من الكتاب المخصيين (الشيعة والكورد والشيوعيين والمسيحيين) في وصف الارهابيين السنة الذين قاموا بعمليات منظمة من القتل والخطف والتهجير والسبي والاغتصاب من اجل استعادة السلطة بالتحالف مع الدول العربية والاقليمية والمنظمات الارهابية الدولية – واهمها القاعدة – بالخيانة والعمالة وانعدام الوطنية , ليس لانهم اعتادوا ان يكون هذا الوصف والاتهام عليهم فحسب , بل لان نظامهم المعرفي الاصلي لم يكن عنده هذا التخاطر في التجاوز على الاب الميت , الاب الذي احتكر لنفسه جميع الصفات والمفاهيم الايجابية كالوطنية والمدنية والعلمانية والقومية , بل وصل الحال ان هؤلاء الكتاب اطلقوا جميع الصفات السلبية على صدام حسين وحزبه الحاكم من قبيل الديكتاتور والمجرم والظالم , الا انهم لم يستطيعوا ان يصفوه بالخائن او العميل او غير الوطني ( بل ان احد الكتاب المستلبين مثل سلام الشماع يصفه بالوطني ) لان اصطلاح الوطنية – ببساطة – ارتبط بالاقلية السنية في العراق فقط , فالسنة العرب في العالم الاسلامي هم من يحدد المفاهيم والمصطلحات على الاخرين , وليس المثقفين او المتعلمين من الاقليات الاخرى كالشيعة والمسيحيين واليهود والصابئه والدروز والعلويين والامازيغ وغيرهم , فهؤلاء هم متلقون لمايقوله الاب الحاكم او مايذكره المسلمون العرب السنة فقط , وليس لهم الخيار او الاعتراض او الرفض , لانه حتى لو حصل ذلك الاعتراض فان الفشل سيكون نصيبهم – ان لم يكن القتل والتخوين والتشويه – والمركزية السنية هو مضمون ثقافي – سلطوي شبية بالمركزية الغربية في العالم الحديث والمعاصر, فكما ان المركزية الغربية في اوربا والولايات المتحدة الامريكية هى من تصنع – او صنعت – المفاهيم العصرية في العالم الحديث من قبيل التنوير والحداثة والديمقراطية وحقوق الانسان , وهى من تحددها على الاخرين , وتشمل بها من تريد الدول والمجتمعات وتمنع منها اخرين , فان المركزية السنية في العالم الاسلامي لها ايضا نفس الامتياز من تحديد المفاهيم الايجابية والسلبية , ومن تنطبق عليه هذه المفاهيم من الشخصيات والمذاهب والاقليات , وذلك بحكم الاغلبية السكانية الهائلة التي تملكها اولا , والتماهي مع السلطات الاستبدادية الحاكمة على مدار التاريخ ثانيا , ومن اجل ذلك حازت لقب (الطائفة المنصورة) او (الفرقة الناجية) .(واكدنا ذلك تفصيلا في دراستنا في موقع الحوار المتمدن : المركزية الغربية والمركزية السنية في العالم)
وكان من اهم المفاهيم والتجليات التي استمرت قائمة في النمط الوطني الخامس والاخيرمن النمط الرابع هو اعتبار( الوطني ) من ليس له اي علاقة مع الاجنبي ( وتحديدا الايراني ) , او من يقف ضد التدخل اوالاحتلال الاجنبي (او الغربي تحديدا) , والترويج لهذا المفهوم من قبل السلطات القومية الاستبدادية الحاكمة وخاصة البعثية منها , والسبب في ذلك هو ان تلك الانظمة تعتمد في منهج حكمها على منطق الحزب الواحد والقائد الديكتاتوري الرمز , وحكم الاقلية الطائفية والعشيرة والعائلة , فاشاعت هذا المفهوم لسبب وظيفي وسلطوي , وهو علمها ان المجتمع والشعب العراقي بصورة عامة لايستطيع ازاحتهم من السلطة وطردهم من الحكم عن طريق الثورة او الانتفاضة – الا في حالات نادرة جدا – ( وحتى وان نجحوا في ذلك , فسرعان مايعودوا للسلطة من الشباك او بوجه جديد ) وان الحل الوحيد هو واقصائهم وازاحتهم من خلال المعارضة الخارجية او الاحتلال المباشر او غير المباشرلقوى خارجية , فاشاعت في خطابها واعلامها ان كل من يتعاون او يتحالف ضد السلطة في الخارج هو ضد الوطن , فيما ان الثابت عقليا وواقعيا ان لامعارضة في التاريخ الحديث والمعاصر دون دعم خارجي , فالصقت بهم بالتالي جميع المفردات التي تدل على التخوين والعمالة وغيرها , ونسيت انها ولاغراض حزبية ومصلحية قد تعاونت مع بعض القوى الخارجية والاجنبية , كما في تحالف الاحزاب والشخصيات القومية مع جمال عبد الناصر ضد حكم الزعيم عبد الكريم قاسم , وبما ان الفئات والاحزاب والفصائل التي تسلمت السلطة بعد عام 2003 هى من الفئات المعارضه لنظام الاب الحاكم السابق , وعندهم ارتباطات خارجية واجنبية بحكم العمل المعارض المسلح او السياسي وغيره , فانه من السهولة بمكان ان يتم استثارة (المتخيل) الحكومي او اللاشعور القومي الذي اعتمد منهجية المقدس والمدنس التي سبق ان ذكرناها , فحصلت عملية تباري عند الانتلجنسيا العراقية وخاصة المستلبة والمخصية منها في اثبات وطنيتها امام الاب الميت , من خلال الهجوم والنيل من تلك الفصائل التي سبق لها ان عارضته او حاربته , وابلغ دليل في ذلك تجد التفاوت بالهجوم على الفصائل والاحزاب التي تسلمت السلطة , فمن عارض صدام والبعث بالسلاح هو غيره من عارضه سلميا , ومن عارضه بالتحالف مع ايران هو غيره من عارضه وعاش في سوريا او بريطانيا , رغم ان كلتاهما دولتان اجنبيتان , والذي رفع السلاح مثل البشمركة وقوات بدر هو اكثر من غيره في التجاوز على الاب , وهو بالتالي سيكون اكثر استهدافا من الانتلجنسيا العراقية المخصية وهكذا . ونجد التجلي الصريح لهذا المفهوم في الاسابيع الاولى للسقوط وليس الشهور الاولى , وحتى قبل ظهور المبررات اللاحقة للتجاوزعليها , التي ترافق عادة اي سلطة في العالم كالفساد والتراخي والصراعات الحزبية والسياسيه , بل وحتى قبل تكوين مجلس الحكم الانتقالي , وتجلى هذا الموقف بصورة اوضح من قضية الارهاب الذي ضرب البلاد بعد عام 2003 , فكلنا يعلم بان الاقلية السنية في العراق , وبعد اسقاط النظام الاستبدادي الطائفي العنصري السابق , وتلاشي المعادلة الاقصائية في ادارة الدولة , والقائمه على حكم السنة العرب , حصل عندهم نوعا من الهستيريا والعصاب الجماعي ضد هذا التحول المفصلي الذي ادى الى قيام نظام ديمقراطي تعددي , تساهم فيه جميع مكونات الشعب العراقي بالسلطة والنفوذ والحكم بحسب التمثيل النسبي والديمقراطية الحقيقية الشعبية , فحصلت من جراء ذلك اعتى العمليات الارهابية ضراوة وهمجية وخسة في التاريخ الحديث والمعاصر, فمن القتل والتفجيروالاغتصاب الى الخطف والسبي والتهجير , ادت بصورة او باخرى ليس الى زعزعة مفهوم الدولة ووظيفتها والتزامها امام شعبها من ناحية الامن والخدمات والتقدم والتنمية فحسب , بل الى خلخلة النسيج الاجتماعي في البلاد وتصاعد الاقتتال الاهلي , وانقسام البلد طائفيا واثنيا , وزرع الاحتراب والحقد والكراهية والغل , تطور الامر الى احتضان الارهابيين من جميع دول العالم بالتعاون مع الدول الاجنبية والاقليمية والعربية كالقاعدة وداعش وغيرها , وبالطبع ان ابسط متطلع او متعلم يعرف خطورة تلك الاعمال على مستقبل الامة والدولة والمجتمع , وان الواجب ليس الاخلاقي او الوطني ان تكون المواجهة الاولى ضد هؤلاء الارهابيين وقاعدتهم وتنظيماتهم واعلامهم والدول الداعمة لهم والمناهج التكفيرية والخطابات الاقصائية التي يستندون اليها سياسيا وثقافيا واجتماعيا فحسب , بل حتى الواجب الانساني الاعتيادي العقلائي الذي يعتبر الحفاظ على الانفس والنسيج الاجتماعي ومقومات الدولة ومقدراتها من التخريب والتدمير هو الهدف الاساس والاول , وذلك من خلال مواجهة الارهاب وتفكيك متبنياته وانتقاد طروحاته وفضح ادعاته ومبرراته , وزعزعة الاسس والمفاهيم الاستعلائية والاقصائية التي يرتكز عليها , واهمها النمط الوطني / القومي السابق او الرابع , او الغطاء الاسلامي التكفيري الذي يختبىء في ظله , وغيرها من الوظائف او الواجبات البديهية والتقليدية للانتلجنسيا التي تكافل عليها العالم اجمع , الا اننا في العراق , وحيث اننا اعتدنا السير عكس اتجاه العالم في جميع المسارات الثقافية والسياسية وعطلنا جميع القوانين والنواميس الكونية , فقد وجدنا ان اغلبية الانتلجنسيا العراقية – واهمها المخصية والمستلبة امام الاب الميت – برودا لامثيل له , وتساميا لاتبرير له , وانشغالا مريبا عن اشكالية الارهاب وتداعيته الكارثية على المجتمع والدولة , والانتقال بالمعركة بدلا من ذلك الى السلطة الحاكمة والنظام السياسي المتولد عن العملية الديمقراطية , بحجة وجود السلبيات , التي هى في الاساس , اما تظهر عادة في جميع دول العالم التي تعيش مرحلة الانتقال السياسي من نظام شمولي ديكتاتوري واحادي الى نظام ديمقراطي تعددي متراخي وجد نفسه امام مؤسات امنية , اما منحلة من قبل الامريكان , او متدهورة بسب الانظمة الاستبدادية السابقة والحروب والفساد والحصار وغيرها , او ظهرت بسبب تداعيات الارهاب ونتائجه الكارثية والخطيرةعلى المجتمع والدولة , ولاحاجة الى القول ان السبب الاساس في عدم اعتبار الارهاب العدو الاول والهاجس الرئيس في النقد والهجوم عند الانتلجنسيا العراقية – وخاصة الشيعية منها – هو عقدة الاحساس بالخصاء امام الاب الميت , وعدم القدرة او الجراة في التمادي عليه او الهجوم عليه , وحتى اذا حصلت بعض الكتابات الانتقادية من الاقلية المتعلمة , فانها اما تكون خجولة ومعتدلة , اوعملية اسقاط فرض باردة , لاتذكر اسبابه الحقيقية او قاعدته الاجتماعية او قادته الطائفية والبعثية بالاسم الصريح , فسبق ان ذكرنا ان الاب السني في العالم العربي هم من يحدد المفاهيم والالقاب والمنطلقات وليس الشيعي او غيره من الاقليات , بحكم المركزية التي يمتلكها في العالم الاسلامي , واما اذا حصل ان تجاوزعددا من المثقفين الذين لم يخضعوا الى سلطة الاب الميت على الارهاب وبالاسم الصريح والخلفية الاجتماعية التي يستند عليها , فان المخصين سرعان مايصيبهم الغضب والتوتر والارتباك , وكانك قد تسببت بمقتل اعز ابنائهم او اخوانهم , فقد نصبوا انفسهم محامين اجلاء ومدافعين اصلاء للاقلية السنية في العراق , فالاب يشكل رمزية متعالية وقيمة متسامية عند الابن , حتى لو حصلت بينهما بعض الاختلالات والخلافات , فعلماء النفس اثبتوا ان الانسان لن ينال حريته الا اذا قتل اباه – كما في اطروحة فرويد – واذا حصل ان مات الاب موتة طبيعية – وليس على يد الابن – فان عملية افتنان سوف تصيب الابن بذلك الاب الميت , وهذا الافتتنان حصل في العراق عند الانتلجنيا الشيعية , فبما انهم لم يقتلوا الاب في حياته , ومات على يد الامريكان , فان عملية افتنان وانبهار قد اصابت هذه الانتلجنسيا بهذا الاب , تجلت في الحنين الخفي اليه , والتردد الشديد والحذر الغريب والمريب في انتقاده والنيل منه على الجانبين او الصعيدين الادبي والسياسي , والتجليات التي تبلور خلالهما في التاريخ المعاصروهما (الاستبداد والارهاب) فالاستبداد هو افة الدول العربية والاسلامية واس تخلفها , والارهاب هو طاعون مجتمعاتها , واساس سقوطها وتاخرها , وانشغلوا بدلا من ذلك لوما وتقريعا وتخوينا وسخرية من العهد الجديد والنظام السياسي الذي نتج عنه , مستحضرا النمط الوطني الرابع والسابق في الحكم والتقييم , كمرتكز دلالي في تحديد من هو الوطني او غيره , خاضعا او مستسلما كليا للتوجهات الاعلامية العربية او الخليجية على وجه الخصوص استسلام العجوز للطبيب المعالج , حتى ان عمليات القتل البشعة التي ربما قاربت المليون من العراقيين – ولااقول من ابناء جلدته الشيعة – لانه في الاصل معبا بالحقد عليهم – لاتشكل ادنى تحسس عنده او وخز ضمير من ملايين الارامل والايتام التي ملئت خارطة البلاد , ويبدو ان هذا ليس بالمهم عندهم , لانهم اعتادوا ان يكونوا امواتا وشهداء وضحايا على مدى التاريخ , وسبق له ان برروا الحروب والمغامرات الغبية والمتهورة ضد ايران وامريكا والكورد للاب البعثي / القومي السابق ووصفوها بالوطنية , وهكذا فهو منساق لاشعوريا لمايقوله الاب الميت كانه في تنويم مغناطيسي .
ان الصراعات السياسية التي حصلت بين اقطاب واعضاء النخبة السياسية والفساد المالي والاداري الذي مارسته بعد عام 2003 لايجب ان يكون باي حال من الاحوال مبررا لفقدان البوصلة باتجاه العدو الرئيسي الذي يريد تدمير البلد باسره , او يحتم على العراقيين الانتقال بساحة المعركة من الارهاب الى الدولة او السلطة , لان ذلك لايؤدي الى تشتيت الجهد العسكري والامني والاعلامي والسياسي فحسب , بل والى خلط الاوراق والسماح لقوى الارهاب والاستبداد بالنفاذ وخلخلة الجبهة الداخلية وغيرها من السلبيات , وهذا الكلام لايعني باي حال من الاحوال دعوة مجانية لترك النقد والتقويم , فالنقد هو اساس التقدم والتنوير , ولم تنجح الحضارة الغربية والحداثة بالتسيد والانتصار الا بالنقد , ولكن هذا لايكون على حساب مواجهة الارهاب والتصدي له , فان لم يكن التمحوراو التحصن ضده فقط هو الموقف السليم والايجابي , فيمكن ان يكون التوازن هو الحل والسلوك الوطني الحقيقي , اي التوازن بين الهجوم وفضح الارهاب وتفكيك منطلقاته والمطارحات الاستعلائية التي يرتكز عليها وبين انتقاد السلطة الحاكمة واحزابها وفسادها وصراعاتها وتراخيها في مواجهة الارهاب وتوفير الخدمات والامن للناس , فالبلدان على اية حال تنتظر من ابنائها ومثقفيها ومتعلميها الوقوف معها في محنتها وازمتها , وبالطبع لاتوجد محنة وازمة واخطر وابشع من محنة الارهاب والقتل والتهجير والسبي والاغتصاب والخطف , وتدمير بلدا باجمعه والقائه في اتون الاحتراب والاقتتال .
ويمكن ملاحظة امتداد النمط الوطني الرابع وهيمنته على النمط الخامس لما بعد 2003 على الانتلجنسيا العراقية – وخاصة الشيعية المستلبة منها – في كتابات واراء وتعليقات ومطارحات : عزيز الحاج وعبد الرحمن مجيد الربيعي وقاسم حسين صالح وغسان العطية ورشيد الخيون واياد الزاملي وسلام ابراهيم كبة وفلاح المشعل وسعدي يوسف وعلي حسين وعدنان حسين وعبد الحسين شعبان وحسن العلوي وزيد الحلي ومحمد الرديني ومحمد مظلوم وعبد الامير الركابي واحمد محمد الموسوي وقتيبة الموسوي وعلي الكاش وكاظم حبيب وعبد الله شاتي عبهول (الذي فرح فرحا كبيرا عندما وصفه الدكتور هاشم التكريتي بالوطني) وجعفر المظفر وسرمد الطائي وضياء الشكرجي وجاسم الحلفي ومحمد خضير, وغيرهم الالاف من الاكاديميين والادباء والمتعلمين والاداريين والفنانين الذين تربوا في احضان الدولة القومية في العراق ونسقها الوطني الرابع , وتاثروا بتوجهاتها ومفاهيمها الخاصة حول الوطن والوطنية , واذا كان الدكتور صومئيل جونسون يقول (ان الوطنية هى الملاذ الاخير للاوغاد) فان العبارة الصحيحة ستكون في العراق ( ان الوطنية هى الملاذ الاخير للمخصين في عدم التجاوز على الاب الميت ) ونحن على يقين لو ان هذا الاب واتباعه وقاعدته الاجتماعية قبلوا النظام السياسي الجديد بعد عام 2003 , لقبلته الانتلجنسيا العراقية كلها بدون تردد , ولدافعت عنه دفاع الصحابة , ولاعتبرت سلبياته ايات من البهاء والجمال والصفاء , ولاستخدمت اقصى درجات العقلانية والموضوعية في تبرير اخطائه وتجاوزاته , لان المرجعية الاولى والاخيرة عندهم هو مايحدده الاخر لهم , او مايطرحة الاب الميت عندهم , لانهم في الاخير ليسوا سوى متلقين اومستقبلين لتلك المفاهيم والمطارحات السياسية والايديولوجية . ويكفي ان نذكر اهم الامثلة الصريحة والظاهرة عن ذلك هوالموقف من الجيش العراقي الحالي : من المعروف ان الجيش العراقي السابق الذي اسسه الانكليز في اعقاب ثورة العشرين من اجل ضغط النفقات ومواجهة التمردات الداخلية في كانون الثاني عام 1921( وهو الجيش الوحيد في العالم الذي تاسس قبل تاسيس الدولة وتنصيب فيصل ملكا على البلاد في اب 1921) وحل من قبل الحاكم المدني بول بريمرفي اعقاب الاحتلال الامريكي عام 2003 , كان في الحقيقة جيشا طائفيا وعنصريا واداة بطش من بل الدولة القومية الاستبدادية لمواجهة الانتفاضات والثورات وحركات الاحتجاج ضد الدكيكتاتورية والتسلط وحكم الاقلية السنية في البلاد , وحقق في هذا المجال نجاحا منقطع النظير في ترسيخ واستمرارية الاقلية الحاكمة طيلة اكثر من 80 عاما , لم يستطع الشعب ازاحتها الا بفضل التعاون مع الولايات المتحدة الامريكية , الا ان هذا الجيش تعرض الى هزائم منكرة في جميع الحروب الخارجية التي خاضها , رغم الامكانات والصرفيات الكبيرة المخصصة له , ابتدا من اول مواجهة خارجية له مع الانكليز في اعقاب حركة مايس القومية النازية عام 1941 والحروب الثلاث مع اسرائيل في الاعوام 1948 و 1967 و 1973 وفشل غزوه لايران عام 1980 التي كان المفترض احتلالها وتقسيمها الى ثلاث دول كما اعلن صدام حسين صراحة ذلك لمجلة الحوادث اللبنانية , وتحولة لموقف الدفاع بعد عامين فقط من هجومه المباعت , وهزيمته امام التحالف الدولي بعد احتلالة للكويت عام 1990 والتلاشي بعد ثلاث ايام فقط من الهجوم البري , وامام البيشمركة في مطلع السبعينات واضطراره للتنازل عن نصف شط العرب لايران من اجل مواجهتها , وتسليمه المحافظات الكوردية الثلاث لهم مع الاسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة لهم عام 1992 , والهزيمة الشنيعة والمنكرة امام الامريكان عام 2003 وتسليم العاصمة بغداد بعشرين يوما فقط , وهو رقم قياسي عالمي لم يحصل في كل تاريخ الحروب في العالم .
واما البنية او التركيبة الطائفية والعنصرية للجيش السابق فهى ظاهرة بافراط على السطح وبشكل علني وصفيق , فرغم ان الاغلبية العددية له من الجنود المكلفين والعرفاء ونواب الضباط من الشيعة والكورد وباقي الاقليات المهمشة الاخرى , الا ان الاغلبية الساحقة من الضاط والاركان وباقي الاصناف الحساسة والمهمة كالطيارين والاستخبارات والامن العسكري والتوجية السياسي والمكتب العسكري لحزب البعث هم من الاقلية السنية العربية , فضلا عن ذلك فهو الجيش الوحيد الذي قام بعمليات ابادة منظمة لابناء شعبه , من قبيل عمليات الانفال عام 1989 ضد الكورد التي راح ضحيتها اكثر من 200 الف قتيل ومفقود , والمقابر الجماعية ضد الشيعة في اعقاب الانتفاضة الشعبية عام 1991التي راح ضحيتها اكثر من 400 الف قتيل ومفقود , فيما ان الجيوش في دول العالم تقوم بهذه العمليات المنظمة ضد ابناء الشعوب الاخرى , بل انه الجيش الوحيد الذي استخدم السلاح الكيمياوي ضد شعبه عام 1988 في مدينة حلبجة الكوردية , وادت الى مقتل اكثر من خمسة الاف مدني اغلبهم من النساء والاطفال والشيوخ , وغيرها من الممارسات الاجرامية والقمعية التي لايختلف عليها اثنان من المعاصرين لها او المطلعين عليها , الا ان الانتلجنسيا العراقية – وخاصة المستلبة منها والمخصية – نجد عندها هذا الاصرار العجيب على ليس نعت او وصف هذا الجيش بالوطنية والشجاعة والمهنية فحسب , بل والمطالبة حتى بعودته مع سلوكياته واجرامه وطائفيته المقيته , رغم علمهم اليقيني بانه كان من اهم الوسائل والسبل في اخصائهم وتدجينهم وترويضهم واستلابهم على مدى اكثر من ثمانين عاما , ويبدو ان هذا مصداق المثل الشعبي عندنا (البزون مايحب الا غناكة) , ويرجع هذا في جانبه الى الانبهار الاعلامي بالانماط البروسية والاستعراضات العسكرية والعصي المارشالية والموسيقى الحماسية التي ادخلت في الجيش العراقي من قبل الضباط الشريفين المؤسسيين الذين نقلوا التاثيرات والسلوكيات الالمانية اثناء دراستهم وتدريبهم في اسطنبول على ايدي الضباط الالمان , ولكن هناك جانب نفسي اخر يتمثل بالاستلاب والخصاء المزمن , فالجيش العراقي السابق يشكل مرتكز دلالي في تركيز وترسيخ السلطة عند الاقلية السنية الحاكمة انذاك , وبما ان المثقف المخصي يرجع في مواقفه مايحدده الاب الميت لاشعوريا ودون وعي او تساؤل او اعتراض , فان الموقف من الجيش السابق هو نسخة طبق الاصل لمايذكره الكتاب والسياسيين والمثقفين السنة دون ادنى تغيير او نقد او جدال , فانساقوا الى التوجهات والمقولات التي تمجد او تمدح الجيش العراقي السابق من اجل اثبات وطنيتهم وعروبتهم امام السيد الوهمي الذي مازال يتحكم من خلف الستار في تحديد اراءهم وميولهم وتوجهاتهم السياسية والايديولوجية . فيما على النقيض من ذلك حول الموقف الذي اتخذته الانتلجنسيا المخصية من الجيش العراقي الجديد الذي تاسس بالتعاون مع الامريكان عام 2003 , فرغم ان هذا الجيش هو الوحيد الذي يمكن ان يحمل صفة الوطني , لانه يضم جميع فئات المجتمع العراقي ويعكس التركيبة الحقيقية له , ولم يكن بالتالي اداة قمع وارهاب بيد الحكام الديكتاتوريين او المستبدين , ودافع عن البلد في احلك الظروف والمواقف بعد الهجمة الارهابية الشرسة والاجرامية للتظيمات الوهابية السلفية مثل القاعدة وداعش وغيرها , وقدم عشرات الالاف من الشهداء والجرحى والمفقودين بهذا الصدد , وحقق انتصارات اسطورية وخيالية بهذا المجال , وفي محافظات وبيئة يغلب عليها الطابع البعثي والسلفي ومعادية للعراق الجديد , ورغم انه في هذه المعارك كان في طور التاسيس والتكوين والبناء , فهو الجيش الوحيد في التاريخ الذي تاسسس وهو يقاتل في الوقت نفسه , ولم تسنح له الفرصة بالتالي لاكمال وحداته وصنوفه ومؤسساته ومقوماته اللوجستية , الا ان المثقفيين المخصين عندنا وجدنا في مواقفهم السياسية هجوما لامثيل له على هذا الجيش الفتي والمقاوم , لالسبب عقلاني او موضوعي سوى ان الاب الميت او السيد الوهمي الراسخ في ضمائرهم المدجنة – وهم الاقلية السنية في العراق – قد رفضوا هذا التاسيس الجديد للجيش العراقي لاغراض طائفية وسلطوية ظاهرة , فقد تعودوا ان يكونوا في اي مؤسسة عسكرية وامنية على مدى التاريخ الاموي والعباسي والعثماني سادة فيه اوقادة وانكشارية , مستاثرين بالمناصب الرفيعة والامتيازات الهائلة التي توفرها المؤسسة العسكرية عادة واهمها الهيمنة على مقومات الدولة والسلطة واحتكارها , متحججين بالسلبيات والنواقص التي ترافق عادة بناء او تكوين اي جيش جديد في طور التاسيس , كيف واذا كان هذا الجيش في حالة الحرب والبناء في الوقت نفسه , واهمها قضية الحاجة الملحة للضباط واستحداث الضباط الدمج لسد النقص في العدد , على اعتبار ان اغلبية الضباط في الجيش السابق المنحل هم من الفئة المدللة او البعثية السابقة , اما قد اجتثاثهم او هربوا خارج العراق بعد ان خانوا صدام حسين او تركوا الموضع الدفاعي وهربوا امام الامريكان , ونسى هؤىء المخصيين بان القائد العام السابق للقوات المسلحة وهو صدام حسين اشهر ضابط دمج برتبة فريق اول ركن ثم مهيب ركن , وان وزيري الدفاع حسين كامل وعلي حسن المجيد هما ضابطي دمج برتبتي فريق اول ركن , وعزة الدوري حصل ايضا على رتبة فريق اول ركن قبل السقوط عام 2003 بسنوات قليلة , وان ثلاث من رؤساء الاركان الجيش لم يحملوا شهادة الاركان وهم عبد الرحمن عارف وطاهر يحيى التكريتي ومهدي حمودي وغيرهم . وهكذا اتحد الارهابيون والطائفيون مع المثقفون والمتعلمون في الهجوم على الجيش العراقي الجديد , الارهابيون والطائفيون الذين رفضوا العراق الجديد يقتلونهم في الطرقات والمواقع العسكرية , والمثقفون المخصيون والمستلبون يبررون لهم هذه الافعال بدعوى عدم اهليته او وطنيته .
ومن اهم الاستنتاجات التي يمكن مقاربتها من خلال سياق البحث حول تطور مفهوم الوطنية في العراق وباقسامها الاربعة السابقة التي ذكرناها هى :
1 . ان الهوية الوطنية او الامة العراقية هى جماعة متخيلة – بحسب منهجية بندكت اندرسن في كتابه الجماعات المتخيلة – وليس لها وجود اصلي اعتمد التطور التاريخي او الجامع الوطني الموضوعي الجامع , وتبلورت هذه الهوية الوطنية العراقية بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 بفضل ثلاث ارادات او قوى اجتماعية – ثقافية وهى : سلطات الاحتلال والانتداب البريطاني التي خاطبت العراقيين كشعب او مجتمع واحد والنخبة المثقفة (المجتهدين) او (الملائية حسب تعبير الوردي) في النجف الذين كانت لهم تاثيرات وخبرات سابقة في التعامل السياسي وتاييد الحركة الدستورية المشروطية في ايران عام 1906 وثورة الاتحاديين في الدولة العثمانية عام 1908 والضباط الشريفين المنشقين عن الدولة العثمانية الذين رغبوا وجود دولة تحتضنهم بعد انهيار الدولة العثمانية اولا وتلاشي دولة الملك فيصل في سوريا ثانيا , ثم بدات لاحقا عملية التوحد الاجتماعي والسياسي على قاعدة (مادمنا اوجدنا ايطاليا فعلينا الان ايجاد الايطاليين) وهو تاكيد لاطروحة (اندرسن)( ان الامم تبنى في الخيال قبل بنائها على ارض الواقع ….. وان الامم ليس لها وجود حقيقي بقدر ماهى قدرة الافراد والمنظرين والقادة على تخيل وجود جماعة اصلية او اصيلة تؤدي في المحصلة الى صناعة هذه الامة من خلال بلورة اساطير وسرديات مشتركة تجمع او تصهر هذه الجماعة ومن ثم تكوين الامة ) , وقد اخذت الدولة العراقية التي تاسست عام 1921 على عاتقها في بلورة وصناعة التاريخ المشترك للهوية الوطنية من خلال مؤسساتها الاعلامية والتربوية .
2 . خضع مفهوم الوطنية في العراق الى تحولات عدة حول من تنطبق عليه المفردة السحرية وهى الوطني , وانحصرت بين اربع من المقاربات : الاول , من هو ضد الاجنبي وتدخله بالشان الداخلي العراقي (والاغلبية قد يسمحون بهذا التدخل في مراحل معينة عدا الجارة ايران) , وهو من المفاهيم الفاعلة المؤثرة جدا, لانه نتاج السلطات الحاكمة وخطابها . الثاني , من يؤيد الحكومة او السلطة في جميع توجهاتها واراءها وافعالها وحروبها . الثالث , وهو من يعارض السلطة الحاكمة سواء اكانت استبدادية او ديمقراطية . الرابع , من لايفرق بين ابناء الشعب العراقي على خلفيات طائفية او اثنية او قومية . وهذا يعني ان الجانب السياسي هو المهيمن في تطور وتحديد الوطنية في العراق وليس الجانب الاخر وهو العمل الواقعي والمجاني لخدمة الصالح العام للمجتمع او الدولة العراقية .
3 . تحولت الوطنية في العراق الى نشيد عسكري بروسي حماسي , واداة لقمع واقصاء الاخرين المخالفين للتوجهات الحكومية والسلطوية وسياساتها الطائفية والعنصرية ضد الاغلبية من ابناء المجتمع , وفرضت النمط الذي تريده قسرا , ونعت المخالفين له بالخيانة والعمالة , حتى اصبحت الانتلجنسيا العراقية واقعة تحت تاثير الاستلاب الوطني , بصورة جعلها تعتقد ان هذا المفهوم الوطني هو الوحيد المعتمد في العالم , ولايوجد نمط او مفهوم اخرغيره , واضحت بالتالي تعتمد مبدا المزايدات العلنية في كتاباتها واشعارها ومواقفها السياسية والثقافية , واعتباره قيمة مثالية مجردة , متسامية عن المكان والزمان .
4 . ان المفهوم الوطني في العراق يندرج تحت مفهوم الوعي الزائف او (التشكيل الكاذب) . فكثير من المفاهيم الحديثة والعصرية التي وفدت الى البلاد خلال القرن العشرين كالقومية والماركسية والوجودية والوطنية وغيرها , تبناها المتعلمون العراقيون كمودة ثقافية , لم تستطيع ازاحة العراقي عن اشكالية (التمركز المتطرف عن الذات) . فعملية تبني هذه المفاهيم والانماط تحتاج الى ايثار وحرص وتضحية وصدق واخلاص من اجل نشرها واعلاء شانها او خلق النموذج الفردي والمجتمعي للاقتداء بها . فيما كلنا يعلم ان هذه القيم المتسامية والاخلاقية بعيده كل البعد عن النظام المعرفي والثقافي والاخلاقي للشخصية العراقية , التي ترغب بالاستحواذ والسلامة والكسل وتحقيق الفائدة المادية والمعنوية المرتجاة من خلال تبني هذه الطروحات , وهذا يفسر اقتصار تبني هذه المفاهيم على الشان السياسي دون الجانب الفكري او التاصيل الثقافي , رغبة بالحصول على النفوذ والسطوة والاعلام والمغانم والاموال التي توفرها عادة السلطة في الدول النامية والمتخلفة للمسؤولين او المتصدين للحكم والقرار . لذا نجد الانهيار السريع لهذه القيم والشعارات والمتبنيات العصرية والمثالية امام صخرة السلطة ومكاسبها وامتيازاتها , حيث ظهر الوجه الحقيقي لهذه الانتلجنسيا الجائعة والرثة التي طالما عانت من الحرمان والكبت والفقر, ( لان الفكرة تنحط عندما تتحول الى واقع) – كما اكد هيغل – وظهر هذا واضحا في التطبيقات او الايديولوجيات الثورية القومية والماركسية والاسلامية التي تسلمت السلطة او اصبحت في موقع القرار, واتباعها الصعاليك الذين وفدوا من بيئات واماكن عشائرية مقصية اومتريفة محرومة , والعراقي هو في الاخير (حيوان ايديولوجي مدجن) .
5 . الوطنية انشودة المغفلين . قد يكون هذا افضل وصف للفئات الاجتماعية والاثنية والمذهبية المهمشة والمقصية عن الادارة والحكم خلال العمر الاول للدولة العراقية (1921 – 2003) التي تتغنى بحب الوطن والتضحية في سبيلة , كما هو حاصل انذاك عند الشيعة والكورد والتركمان والمسيحيين والصابئة وغيرهم , لان حظهم من الوطن لم يكن سوى التهميش والقمع والاعدامات والتخلف والابادة الجماعية والمنظمة والعبودية للطغمة او الفئة الحاكمة , لان مفهوم الوطنية عندهم هو مفهوم يوتوبي مثالي تجريدي منفصل او متسامي عن الواقع , رسخته السلطات الحاكمة على مدى تاريخ الدولة المعاصر , من اجل اعطاء المشروعية الايديولوجية للتدجين والترويض , او الاصح للتخدير والايحاء بان الخدمة او التضحية التي يقدمونها , انما هى لخدمة الوطن وليس السلطة او الطغمة الحاكمة والفئة الاجتماعية التي تستند عليها , فيما نجد العكس عند الاقلية العربية السنية الحاكمة في العراق , فالوطنية عندهم ارتبطت بالسلطة ومكاسبها ومغانمها , وليست مثال تجريدي منفصل عن الواقع , او بالشعارات والخطابات الحماسية و(رفعة العلم كل خميس) ,وسبق ان نظر لهذه الرؤية حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية في العراق) عندما قال ( السنه اخذوا الوطن واعطونا الوطنية , وان الاوان ان ناخذ الوطن ونعطيهم الوطنية ) واكبر دليل على ذلك هو ضرب مفهوم الوطنية او الوطن عرض الحائط بعد فقدان السلطة عام 2003 والامتيازات التي كانت تحققها لهم واهمها (السيادة) على الاخرين , فحصلت عملية تباري وتنافس كبير فيما بينهم لتدمير اي مفهوم او مقوم ترتكز عليه الدولة الدولة العراقية واهما المجتمع الموحد والمؤسسات السيادية والامنية والخدمية , وتجلى ذلك بصورة اكبر في نشر الاحتراب والكراهية والاحقاد والاقتتال الطائفي والاثني والابادة الجماعية وخلخلة النسيج الاجتماعي, من خلال احتضان الارهابيين الاجانب والسماح للدول الاقليمية والعربية بانشاء محطات وتنظيمات ارهابية لتدمير البلاد من قبيل الجيش الاسلامي في العراق وجيش انصار السنة وجيش الراشدين والطريقة النقشبندية وكتائب ثورة العشرين وفيلق عمر وقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين والدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش) ودولة الخلافة الاسلامية وغيرها المئات من التظيمات التي يصعب حصرها او حتى مواجهتها , والتي عاثت في البلاد قتلا وتفجيرا وخطفا واغتصابا وارهابا وذبحا , بدعوى المقاومة والوطنية (فاذا كان النور الذي فيكم ظلاما , فكم هو الظلام الذي هو في داخلكم) – كما يقول المسيح – ادت في المحصلة النهاية وكرد فعل وضوعي وعقلاني الى تاسيس الميليشيات والحشد الشعبي والتظيمات الشيعية والكوردية والمسيحية الاخرى لمواجهتها ومقاومتها وتحييد وجودها , فزادت المشهد السياسي تعقيدا واضطرابا , بسبب التخلخل والضعف الذي يصاحب وجودها عادة حول مفهوم الدولة . ورغم ان الانتلجنسيا المستلبة والمخصية – وخاصة الشيعية منها – قد عكست الموضوع بمجمله , وقدمت النتيجة على السبب , واعتبرت الميليشيات والحشد هو اساس المشكلة وليس الارهاب الذي اسسها , رغبة منها في تبرير عمليات القتل والابادة التي يتعرض لها العراقيون يوميا من قبل اتباع الاب الميت المقدس في ضمائرهم المدجنة , ومحاكاة او تقليدا حرفيا لما يذكره كتابه في الصحف والمجلات والفضائيات والمواقع الالكترونية العراقية والعربية الاخرى وغيرها , الا ان الواقع الموضوعي والمتتبع او المؤرخ الخبير والمطلع المحترف يعرف جذور ومراحل هذه الاشكالية التي تبلورت في العراق بعد 2003 , فالحقيقة لايمكن كشفها – كما بين هيغل – الا من خلال التاريخ .
6 . الدولة الوطنية في العراق هى الدولة التي تضم في مؤسساتها السياسية والامنية والادارية جميع مكونات المجتمع العراقي دون تمييز او اقصاء او تهميش , وليس الدولة التي ترفع الشعارات الوطنية والحماسية والخطابية من قبيل مواجهة الاستعمار والامبريالية والصهيونية وغيرها . وهناك من اطلق اسم الدولة الوطنية على الدول التي استقلت او تحررت من السيطرة الكولونيالية . الا ان الانتلجنسيا المثقفة والمتعلمة في العراق قد قلبت موازيين وثوابت هذه التقيمات العقلانية والبديهية , فقد رفضت اعتبار او وصف الدولة التي تضم جميع مكونات الشعب العراقي وبحسب التمثيل النسبي بعد 2003 بالدولة الوطنية , ووصفوها بدلا من ذلك بدولة الطوائف او المكونات . وهذا يرجع الى مفهوم الخصاء السابق الذي اطنبنا في ذكره ووصفه , فقد اعتاد نظامهم المعرفي والسياسي والثقافي الذي يرتكز على مفهوم الوطنية والقومية السابق , ان الوطن والوطنية هو لون واحد فقط (واحد احد) , وليس الوان متعددة ومتباينة , وهو لون الاقلية السنية العربية الحاكمة في البلاد , التي تلازمت معها الوطنية على مدى اكثر من اربعين عاما (1963 – 2003)(ان لم يكن اكثر من ثمانين عاما) , وان باقي المكونات والاقليات ليس من حقها المشاركة في القرار او السلطة والحكم , ويجب بالتالي ان تبقى – حتى قيام الساعة – في دائرة الاقصاء والتهميش والعبودية , وليس لها اي حظ من السلطة ومكاسبها , او امتيازات الحرية والكرامة التي توفرها السلطة عادة لاتباعها ومواطنيها , ويبدو ان الدكتور علي الوردي قد اكتشف هذه الظاهرة العراقية مبكرا عندما قال (لقد حكم الطغاة هذا البلد اجيالا متعاقبة , فاعتاد سكانه بدافع المحافظة على الحياة ان يحترموا الظالم ويحتقروا المظلوم ) .