462547253_1116246769894281_5687635995851870665_n

رضا العطار

شبابنا والثقافة الحديثة : كسب الثقافة ليس بالأمر الهين ! * د. رضا العطار

الكاتب في بعض من حقيقته مشاغب ومقلق، وقد يعده المجتمع مفسدا ومخربا. انه بتمسكه برؤيته هو، لا يمالي المجتمع، ولا يأخذ بسهولة بأنحيازاته وتعصباته. بل يزعزعه ويقلقه ويحرّضه ويثير خياله وينزع الى الخروج به عما اعتاد من رأي وموقف. لأن من شأنه ان يحاسبه على تقاليده ومسلماته ويرفض سكونته.

والمجتمع بالمقابل قد يرفض الكاتب او يستعدي عليه السلطة ويمنع كتبه. ولكن الكاتب بقدر ما يسجل على المجتمع عيوبه، ضمنا او مباشرة فانه يسجل له مآثره وفضائله، ان وجدت، دون ان يكون ذلك بالضرورة هما واعيا من همومه. الكاتب هو الرؤيه المنبثقة كاللهب من اعماقه ومن خلال سطوة الكلمة والقدرة على تحريك النفس بها، فانه يكتسب حقا في الكلام على غير ما يتكلم الناس.

بين حين واخر تجد من يسألك بشئ من الحزن وشيء من الغضب : هل يعقل ان يظل التخلف العربي، المثقل بالثروة الرهيبة، متحكما بالثقافة العربية سنة بعد سنة ويبقى المثقف العربي المبدع يعمل ويفكر ويكتب وهويعاني وطأة الفقر والضنك؟

قد لا يكون ( التخلف العربي ) متحكما بالضبط بالثقافة العربية او المثقف العربي المبدع، غير ان التخلف نفسه أمر قائم بشكل مروع، سواء على مستوى – المثقلين بالثروات الرهيبة – او على مستوى المحرومين منها.

والظاهرة اللافتة للنظر هي ان المبدع العربي على الرغم مما يعانيه من وطاة الفقر والضنك، غير انه يقاوم هذا التخلف باقصى ما يستطيع من جهد وتحمل، لكي يبقي على صحوته الذهنية وقدرته على التعبير الذي قد يؤدي الى تغيير يزحزح التخلف عن مركز قوته. وهو ليس بالامر السهل. واصحاب التخلف المسيطرون على الثروات حريصون جدا على ابقاء سيطرتهم تامة على ما يملكون. انهم بارعون في تزييف الواقع الفكري ومحاولة اجهاض الابداع الحقيقي بأبداع آخر مزيف يسخّرون له اموالهم.

وهذه قصة قديمة من قصص الصراع الانساني في تاريخه الطويل. فلئن نجد من المفكرين من يقول ان التاريخ هو قصة صراع الانسان من اجل الحرية، فان هناك منهم من يقول ايضا: ان التاريخ هو قصة صراع الذين لا يملكون مع الذين يملكون – صراع الفقراء مع الاغنياء – والكثير من الابداعات الانسانية في الادب كما في الفن يحركه هذا الضرب في الصراع، لأن في طياته انتصار للمظلوم على الظالم بالمعاني الانسانية الاعمق، لان المبدعين فيما يبدو كتب عليهم في معظم الحالات ان يكونوا في صفوف الفقراء والمظلومين.

رسائل الادباء في تاريخ الاداب الغربية تحتل منزلة عالية بين الاثار المخطوطة سواء كقيمة تاريخية او بايوغرافية او ابداعية. والمنشور منها في اقطار الغرب كثير ومقروء ومدروس. غير ان ما ينشر عندنا من رسائل ادبائنا نادر جدا، بقدر ما هو نادر ما يصدر عندنا من سير ذاتية او غير ذاتية. ولئن كنا نرى كتابة بايوغرافية بشأن اديب من ادبائنا بين حين واخر، فاننا نكاد لا نرى الاّ في النادر النادر. اي مجموعة لرسائل هذا او ذاك من هؤلاء الراحلين الذين عاشوا بالكلمة وللكلمة بحيث يتسائل المرء : اين اختفت رسائل الادباء ؟ غير انها حتما موجودة بشكل او باخر، مهما جمعها.

منذ اواخر القرن الثامن عشر، يكتب الاديب رسائله مدفوعا بحماسات اللحظة الانية او حاجاتها او ضروراتها دون ان يفكر بان ما يكتبه لصديق ، سيجد طريقه يوما الى النشر

اي ان معظم ما يكتبه الاديب من رسائل يحمل النبرة الشخصية الانية ونحن نجد في هذه الاكتوبات الذاتية والتي قد تكون في الاكثر عجالات لم يعطها صاحبها الكثير من التأني والروية قيمة عامة بما تتكشف عنه من اشارات ومفاتيح ودقائق تساعدنا على المزيد من فهم الفترة التي عاشها الاديب وفهم الوشائح الخطية وغير المنطوقة بين يوميات حياته وتفاصيل ابداعاته، وهكذا يتحول التلقائي والعفوي المتناثر من قلم الاديب الى ما يشبه النص الادبي، حين يكون صاحب هذه الرسائل قد ادرك عن طريق ابداعاته تلك المنزلة المتميزة التي تدفعنا الى طلب دراسته والتمعن في سيرة حياتها بكل ملحقاتها ومنطوياتها

ولكن هذا لا يعني ان الاديب ولا سيما بعد ان يحظى بالشهرة ابان مسعاه لن تبدأ تساوره الاحاسيس بان ما يكتب من رسالة مهما تكن شخصية في محتواها، ربما تكتسب مع الزمن قيمة اخرى – لانها صادرة عن قلمه – فيكتبها وعينه تداعب احتمال انها ستنشر يوما، وتحسب على ادبه ونتاجه. وفي هذه الحالة لا بد ان يدخل شئ من الافتعال في سياق الامر وتتدخل عوامل خارجية على التلقائية المفترضة وتقلل منها.

وفي كلتا الحالتين فإن المتميز بفكره وخياله واسلوبه وهي صفات الاديب الذي نحن هنا بصدده لن يكتب مهما كتب واوجز او تأنّى وتقصد الاّ ما ستكون له هذه القيمة الزائدة، هذه الخصيصة الاضافية التي تجعل كل كلمة يخطها جزء يتكامل مع ابداعاته جميعا بشكل او بآخر.

* مقتبس من كتاب معايشة النمرة، لجبرا ابراهيم جبرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *