علي المؤمن.. سفير الفكر الإمامي المستنير

السيد جميل المصلي

مدخل لتقديم رؤية معرفية عن الدكتور المؤمن

    هذه السطور؛ هي مدخل لتقديم رؤية معرفية عن المفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن، وبيان بعض ملامح شخصيته الفذة للملأ، لعلها تستهوي مغرر به؛ فيلحق بقافلة العقل المتزن والفكر العميق.

    السيد الدكتور علي المؤمن مفكرٌ معاصرٌ مهمٌ يشار إليه بالبنان؛ فهو يتفرّد في التخصص في مجالات فكرية دقيقة، ما يجعله أحد أيقونات الفكر الإسلامي المعاصر، فضلاً عن كونه سليل المجد من شجرة السادة الغريفيين المباركة، وغصن من أغصان الدوحة العلوية الطاهرة. وأشعر ببالغ الفخر وأنا أتحدث عن محطات من مسيرة هذا الفارس، الذي لا يكل ولا يمل في سوح جهاد الكلمة والفكر المتزن، والحرص على بيان حقيقة التشيع من حاق تراثه الأصيل بسيف العصرنة، ومجالدة الخصم اللدود بجميع أطيافه، وفي ظل ماكنة دعاية التعتيم الإعلامي المضادة، الرامية إلى إخفاء نقاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).

    هذه الرؤية عن الدكتور المؤمن؛ مصدرها التوأمة الروحية والفكرية في الكثير من الهموم ذات الاهتمام المشترك، بالرغم من بُعد المسافات، ولكني أردد دائماً هذه المقطع الروائي عن سيدنا الإمام الصادق (عليه السلام)، وأحفظها عن ظهر قلب؛ حين تميل روحي للماثل من بني الإنسان، وليس أي إنسان، إنما لمن تجمعني به مشتركات، سقفها رفيع، وإن كنت أتقاطع معه في بعض المفاصل. هذه الرواية ((الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف))، هي ملهمتي في التعرف على هذه الشخصية الفذة الفريدة، والاقتراب من وهج فكرها. وهكذا؛ وبعد اقترابي من الدكتور علي المؤمن، أكثر فأكثر، من خلال ما جاد به فكره المبدع، واقتناصي لكل جديده؛ صرت أعكف على قراءته قراءة تأملية؛ وكأنني أعز رفاقه، مذ كنّا نلعب بالكرة فترة الصبا في (عگد) من (عگود) محلة الحويش.

    وازداد هيامي بفكر الدكتور علي المؤمن كلما قرأت له، وبنهم فوق حد التصور، ورغم كثرة ما طالعته من مؤلفات وكتابات الدكتور علي المؤمن وما كُتب عنه؛ لكنني لا أزال أشعر أنني غير محيط بعظمة هذا المفكر، الذي أفنى زهرة شبابه من أجل العراق وأهله وحركته الإسلامية وهويته الدينية، وكم ضخّ من دماء قلبه وخلايا دماغه أرقاماً لا يعلمها إلا الله (تعالى). وقد بدأت معرفتي به من خلال كتابه «سنوات الجمر»، الذي أرّخ لحقبة مظلمة حالكة السواد من تاريخ العراق السياسي في العهد الجمهوري، وصولاً إلى الاستبداد البعثي، الذي جثم على صدره سنواتٍ أحرُّ من الجمر، وحكته روح محنة منفى السيد المؤمن؛ فكانت برداً وسلاماً على أرواح عوائل قوافل الشهداء في بلاد المهجر.

دور البيئة والتنشأة في التكوين الفكري للدكتور علي المؤمن

    إذا أردنا دراسة فكر الدكتور المؤمن أو تقييم؛ فهي عملية ليست بالسهلة، ولابد من الحيادية في أمثال تلك الدراسات والتقييمات، والتجرد عن الصنمية في مربع الحب، والبعد عن الشخصنة في مربع العداوة، وإنما الرائد هو نشدان الحقيقة ومصداقية للتاريخ والإنصاف. وقبل ذلك نجيب على التساؤلات التالية حوله:

    من هي الحاضنة العلمية للسيد المؤمن؟ فإن جينات الأم بالتأكيد تلحق الولد؛ إنها حاضرة النجف الأشرف.. مأوى العلم وقبلة الأساطين.

    من هي بيئته الاجتماعية؟ هي البيئة النجفية.. بيئة العلم والأدب، والكل يعلم ما تضفيه البيئة على لوحة الإنسان من ألوان معالم تكوّن الشخصية في منظومتها الدينية والمجتمعية والسياسية بتلاوينها العربية العشائرية.

    وما هو نسبه وانحداره؟ قرشيٌّ من السلالة النبوية المباركة، ومن أسرة علمية عريقة، وجده المرجع المقدس السيد حسين الغريفي (قدس سره)، الكربلائي مولداً، البحراني هجرةً، صاحب كتاب «الغنية» الفقهي الشهير؛ فلا غرو أن تنبسط جينات السيد المؤمن الوراثية من صلب طيب إلى رحمٍ طاهر؛ فيظهر ولداً متفرداً، يحمل من بعض تلك الشمائل.

    وذكاؤه؛ يتصافق أغلب المراقبين والناقدين على حدة ذكائه، ونبوغه المبكر، وبزه الأقران منذ نعومة أظفاره إلى حين بلوغه مبلغ الرجال.

    وعصره السياسي؛ هي المرحلة الأسوأ في تاريخ العراق الحديث؛ إذ حكم العراق بالحديد والنار، حزب البعث الإبليسي، وبداية تشكل الحركة الإسلامية السياسية المتمثلة بحزب الدعوة الإسلامية، وانخراطه في التنظيم؛ مما شكّل في حياته منحى الوقوف في وجه الظالم ونصرة المظلوم، في ظل نظام دكتاتوري عشائري أذاق العراق وأهله الويلات، وترك إرثاً إجرامياً يندى له جبين الإنسانية؛ مما أتاح للدكتور المؤمن أرخنةً مصداقيةً لتاريخ العراق السياسي المعاصر، ولمسيرة حزب الدعوة وفكره، وخاصة في كتابه «جدليات الدعوة»، وهو ينم عن خبرة في التحليل والتقويم ووفرة في المعلومة؛ لإنه من الرعيل الوسط. وتزداد أهمية هذا الكتاب؛ لأن الدكتور المؤمن كتبه بعد خروجه من الحزب، الأمر الذي أتاح له حرية طرح ما للحزب وما عليه.

    ولا أرى هنا عيباً في مراجعة القناعات وتبدلها عند الباحث؛ فله حججه ومبرراته الموضوعية؛ فما كان بالأمس له ظروفه الموضوعية؛ يمكن أن يصبح اليوم لا حاجة في الاستمرار فيه؛ من أجل تقديم الأهم على المهم، والانتقال إلى موقع يخدم أفضل في الساحة، وهو ما أراه مناسباً من التماس العذر للدكتور المؤمن، وهو ما سوف يأتي.

    وقد نجح السيد المؤمن في استثمار الهم السياسي العراقي في المهجر؛ ليخلق منه مناخاً للدراسة والبحث والعلم؛ ففي المهجر غربةٌ وكربة تتصارعُ مع الطموح، وأتصور بأنها كانت مصهر الدكتور المؤمن، وقد جعلت منه إنساناً حديدياً صعب المراس على الظروف القاهرة؛ بسبب فجائع البعث وإجرامه؛ فيمم شطره ناحية الدراسة الأكاديمية تلميذاً في جامعات إيران ولبنان وبريطانيا التي تزخر بخيرة المفكرين؛ فكان له حضوره المتميز الذي سوف يخط مساره الفكري المستقبلي في قابل حاضر العراق، بعد سقوط صنم بغداد عام ٢٠٠٣ م، في رفد الحركة الفكرية بمعالم مشروعه النهضوي داخل العراق، والاستنهاضي خارجه.

    راقبته؛ فوجدته كالنحلة؛ لا يستكين من الحط على رحيق المعرفة من أجلك وأجلي؛ فقد همستُ لنفسي ذات مرة، حين ألاحق حالة منصته الإعلامية على الوميض الأخضر في الثلث الأخير من وقت السحَر: عجباً لهذا الرجل.. متى ينام!؟ أتراه الآن ممسكاً بين أنامله قلم التأصيل والتأسيس لبناء بقية طوابق مشروعه؟ أم هو قائم يصلي في محرابه من أجل حلِّ عويصةٍ استعصت عليه؛ فاستعان عليها بالصبر والصلاة؟

سفير الفكر الإمامي المستنير

    حين أريد الحديث عن المفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن في عيون قرّائه أو قارئيه؛ فأنا أُفضِّل مفردة قارئيه على قرائه؛ لأنّ الأولى تمثل القراءة الهواية، في حين أن الثانية تعني القراءة التخصصية العميقة. وهو ما بقيت أفعله عند التعليق والتداخل على بعض تجليات كتاباته أو أطروحاته، ولعلها تعليقات ومداخلات لا توفيه حقه في تعريف القارئ العربي المثقف بنتاجه الغزير ومديات وهج عقله الوافر.

    الدكتور علي المؤمن عندي، هو سفير الفكر الإمامي المستنير، لا على التوصيف عند المتعلمنين العرب.. المبهورين بالبضاعة الأوروبية أو وكلائهم في عالمنا الإسلامي.. المتسيِّدين للمشهد السياسي والإعلامي الثقافي. هو سفيرٌ في زمنِ ندرة؛ فبأمثاله قلّما يجود الزمان، خاصة مع الواقع المزري الذي يضع العصا في العجلة، إما حسداً من داخل البيت الشيعي ممن لا يروق لهم علو كعبه، أو من طائفيين محليين وإقليميين موتورين يغيظهم تفوق الإسلام الحركي الشيعي الذي يمثله فكرياً. وها هنا تكمن غربة المفكر بالفعل.. غربة صامتة لا يكتوي بنارها إلّا هو، وصبرٌ مريرٌ على قطاف غرسه الفكري الذي يأمل أن يسهم في خدمة الإنسانية جمعاء فيما لو تم هضمه وتفعيل مخرجاته.

    إن هموم الدكتور المؤمن وغربته، والتي أحسبها بعدد شعر رأسه، عن قرب ومعايشة هموم مشتركة ودقائق، لا يعلمها إلّا الصنو المماثل، وأتعاب وذكريات حلوة ومرة في الوطن، وفي المهجر، وتشابك خطوط الإسلام الحركي، وخفايا المعارضة وإخفاقاتها ونجاحاتها وانشطاراتها، ومحلّه من الإعراب في مجمل ما ذكرت. وفي خضم تعقيداتها كانت حقبة الصقل والنضج الفكري والتأصيل للمشروع الاستنهاضي الذي ينظِّر له الدكتور المؤمن. أقول: الصقل والنضج وذلك لما لهاتين المفردتين من تماه وامتزاج معنوي في تكوّن تضاريس المشروع؛ لإنه مخاض رحم المعاناة على مستوى المنظومة الفكرية للباحث، وكذلك بيئته الاجتماعية والسياسية، وهو ما تلخص بعضه في كتابه أو نظريته الموسومة بـ «الاجتماع الديني الشيعي: ثوابت التأسيس ومتغيرات الواقع»، وهو في ذات الوقت؛ يبين بجلاء اتكاءاته ومنطلقاته ومصادر فهمه وتوليفاته ومراميه وأهداف مشروعه، وهو بحق أول تصنيف في هذا الحقل، لم يسبقه سابق بحثي عربي، بحسب تتبعي القاصر.

    وبغض النظر عن مخالفة بعضهم لما حواه هذا السِفر القيم؛ نتيجة للتقاطع البنيوي، سواء في المنهجية أو النتائج؛ فهو محط نظر الباحثين في هذا الشأن؛ لدسامة تأصيله وإجاباته عن إثارات قديمة جديدة، وتقعيده لقواعد تحل كثيراً من المعضلات التي قد تعترض التطبيق والممارسة على أرض الواقع؛ إذ لابد من توافق بنسبة عالية بين النظرية والتطبيق لنجاح أي مشروع.

تفوّق المشروع الاستنهاضي للدكتور علي المؤمن

     بعد تعرّفي على المنظومة الفكرية للدكتور علي المؤمن، من خلال ما جاد به فكره المبدع، واقتناصي لكل جديده؛ صرت أعكف على قراءته قراءة تأملية، وأعقد مقارنات فكرية بينه وبين أقرانه والبارزين على الساحة الفكرية اليوم، وخاصة بين مشروعه الاستنهاضي للطائفة الشيعية على وجه الأرض عموماً، والعراق خصوصاً، والذي فاق نصف قرن قد أخذ منه كل مأخذ، وبين بعض المشاريع التفكيكية التي تفتقد إلى خارطة طريق، أعني بوصلةً تحقق تقدماً وامتيازاً يقارع الآخر، سواء كان خصماً إسلامياً أو ندّاً فكرياً علمانياً أو ليبرالياً.

    وقد أوصلتني تلك المقارنة إلى حقيقة مفادها: تفوّق مشروع حضرة الأستاذ علي المؤمن على مشاريع نظرائه، بمن فيهم الشيعة؛ بل أن بعض هذه المشاريع كارثيٌّ، وسوف يُدخل الشيعة في نفق مظلم فيما لو نجح على المدى البعيد؛ لأنه انفتاحي لأبعد الحدود أو منفلت وذائب في الفكر الليبرالي، أو ما يُطلق عليه، تخفيفاً من الاستيحاش: (العلمانية المؤمنة).

    ولا يخالجني الشك بأن الدكتور المؤمن يدّعي كمال مشروعه الاستنهاضي؛ بل أن وظيفة المفكر والباحث، وطبيعته، هو الاستدراك والحذف والإضافة، كلما اشتعل مصباح عقله أو لاح له أفق من حقيقة جديدة، مطارداً للكمال، وهو ما أخاله فيه حين تأليفه؛ كي يخرج بهذا الابتكار في زمن الغيبة الكبرى لصاحب الزمان (عليه السلام)، وهو الواعي بالتأكيد لما تحمله دفتي الكتاب من مواضيع سوف تفتح عليه النار، ولكنه، وبحسب منظومته الأخلاقية وهو المعهود منه، لم يخضع لانفعالاته، وهي التي تكبس على المرء في الغالب، مهما أوتي من أعصاب حديدية وتربية دينية في هكذا مواضيع، ويخرج عن اللياقة الأدبية مع المختلف الذي ربما استعمل العنف اللفظي، وأكمل مشواره التنظيري من دون حاجة للانجرار وراء التراشق وقص الجناح الذي يعتبر مقصلة المفكرين، وموتاً سريرياً للمشروع، حين موت صاحبه؛ جراء الإجهاز عليه من قبل الإقصائيين الذين يرقصون فرحاً لوقوع المفكر أو الباحث في فخ التسقيط من القواعد المؤتمرة بفعل الأمر من الأضداد.

    ولسان حال الدكتور علي المؤمن، هو منطق القرآن الكريم: ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين)) في مسألة النزال الفكري، أي قارعني الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، واختلف معي بأدب، ولا تصادرني؛ فالمعارك العلمية موطنها البحث العلمي الموضوعي الرصين، لا لغة محاكمة النوايا والاستقواء بالقطيع؛ فالمطارحات الفكرية موائدَ تُنثر على سفرتها الحقائق العلمية. والحقيقة ليست حكراً على أحد؛ بل هي بنت البحث. هكذا تعلمت.. أتوافق معك مرة وأتقاطع أخرى ولا ضير، أحترم رأيك وليس بالضرورة التسليم به، وفرقٌ كبيرٌ بين العاطفة والبحث عن الحقيقة. هكذا عرفتُ الدكتور علي المؤمن من قعر فكره، من خلال قراءات متأنية ومقارنة بخطوط نافذة في الساحة الفكرية اليوم، لها مريدوها ومروجوها.

    ولعلي أُدرك عمق ما يصبو إليه في مشروعه الاستنهاضي، وخلاصته مسابقة الزمن في الجعل من شيعة العالم في مركزٍ متقدم، في زمنٍ تُقارع فيه الأمم صراعاً من أجل البقاء، مع ما يمتلكه الشيعة من مقومات النهوض ككيان واحد، مع تباعد جغرافيتهم واختلاف قومياتهم، وتذليل عقبات ذلك النهوض؛ بالرغم من تكالب الأمم عليهم، واستشرافه لمستقبلهم كقوة ضاربة في عصر الظهور المبارك. وما حملات التسقيط التي تناله، وتوصيفه بالطائفية؛ إلّا ضريبةً لذلك الفكر العتيد.

علي المؤمن بين علي شريعتي وعلي الوردي

    لقد شدّني سحر بيان الدكتور علي المؤمن في عقده مقارنة بحثية حول شخصيتين ملأت عالم التشيع ضجيجاً ولما تزل، وكلاهما من مدرسة علم الاجتماع الوضعي، أحداهما: الدكتور علي شريعتي، وثانيتهما: الدكتور علي الوردي، وتأثيرهما في صنع جيل ثقافي متمرد. أقول: متمرد لما لهذه المفردة من دلالات يعلمها الغاطسون في قعر حقبة قلقة من الأحداث التي ألمّت بالمحيط العربي والإسلامي معا، وتداخل فيها الديني الكلاسيكي بالثقافي الحداثوي، وإن لم تكن هذه المفردة شائعة وقتذاك؛ بل تداخل الديني الصرف بالثوري التنظيري، وتخندق الأتباع والمريدون واصطفافاتهم ضد بعضهم البعض.

    ولم يكن الدكتور علي المؤمن بمعزل عن تلك المواجهات، وهو العارف بخبايا تلك المعارك الفكرية، وهو ابن الفرات العربي الأصيل ونجفه الحضاري وتلميذ المحافل الحوزوية الإسلامية والأكاديمية الجامعية، واستطاع بحدّة ذكائه تجميع المتفرق وتفريق المتجمع في نقطة لم يلتفت لها من كتب حول الرجلين، ألا وهي البيئة الفكرية التي يستقيان منها، وكذلك التفرق بين مجتمعين لا يلتقيان في خصيصة واحدة، إلّا ما شذّ وندر، فضلاً عن بقية الخصائص.

    فمثلاً؛ تناول الدكتور المؤمن بالنقد الموضوعي الدكتور علي الوردي في أغلب تشخيصاته للمجتمع العراقي وإسقاطاته التي يجانب معظمها الصواب حين يصوِّب سهام نقده للدين عبر بوابة المؤسسة الدينية، وكأنها تصفية حسابات أو ثارات، وهي السمة التي جمعت بينه وبين الدكتور علي شريعتي على ما أظن. وكم أعدتُ قراءة تلك الورقة البحثية للسيد المؤمن مرات ومرات، وخلصت بحسب نظري القاصر إلى أن الهدف منها هو إبراز ما للرجلين وما عليهما، وهي مهمة تستنزف طاقة كبيرة من جهد الباحث بالطبع من حيثيات كثيرة، من أكبرها: جرد أعمال الرجلين، أعني ما تركاه من حبر على ورق وتغلغل في العقول بعد ذلك، وقد جردها ودرسها بنظرة حيادية لا نظرة تحمل أحكاماً مسبقة، وهو ما نجده ماثل في منظومة فكر الدكتور المؤمن عموماً، والذي ينبغي أن يتحلى به كل باحث ناقد لا ناقم حاقد.

    ولا أخال الدكتور المؤمن، بل أحاشيه، أن تكون منطلقاته منطلقات عداوة فكرية بحته، أو كما يقوم به بعض النقاد من معارضة من أجل المعارضة، بل هو إثراء للساحة الفكرية عن الجمود أو ما يخلص إليه الكبار من نتائج وكأنه وحي منزل أو سنة قطعية يحرم الخروج عليها؛ فما نقص من مادة البحث في بعض فصوله سهواً مني يمكنك إكماله، إما على نحو الاستدراك أو على نحو المطارحة؛ فقد أوافقك وتتخلخل قناعتي أو توافقني بحسب أصول البحث العلمي؛ فأستنير برأيك وأثني عليك إذا لم تخضع لانفعالاتك. ولذلك؛ وجدت الدكتور المؤمن يقبل ببعض أفكار الرجلين واستنتاجاتهما، ويرفض أخرى، وليخط لنفسه منهجاً ثالثاً متمايزاً في الرؤية الاستنهاضية والتوعوية الاجتماعية الشيعية، متميزاً.

    أقولها وجازم بها لما لحظته في ثنايا مؤلفات السيد علي المؤمن وأوراقه البحثية، وقد تعمدت انتخاب ورقته البحثية هذه لسببين وجيهين وأوصي بالرجوع إليها، ألا وهما:

    الأول: الموسوعية التي يتمتع بها الدكتور علي المؤمن، وهو ما لا يجحده إلّا مكابر، وأعني بها الموسوعية الفاحصة المدققة لا الالتقاطية السارقة؛ فكم هو فارق بين الاثنتين، وهو ما يعيه الدكتور المؤمن، لإنها أمانة العلم التي نذر نفسه من أجلها.

    الثاني: القيمة العلمية التي تُظهر تضلع السيد المؤمن في فنون شتى، وما كانت تظهر بهذا الجمال لولا اقتحامه هذا الميدان أخص به، وهو ميدان البحوث المقارنة؛ فإنها من أصعب البحوث، وتحتاج إلى نفس طويل، وتجنب العجلة في إطلاق الأحكام؛ لأنها حينئذ والحال هذه سوف تكون مجافية للحقائق وتنتوشها عقول أولي الألباب، وتوصيف صاحبها بالسطحية وبالضحالة الفكرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) المقال مستل من كتاب «علي المؤمن: قراءات في آثاره ومشروعه الفكري»، إعداد الباحثة والأكاديمية اللبنانية الدكتورة رفاه معين دياب، ومشاركة أكثر من (40) مفكراً وباحثاً.

(**) باحث وعالم دين بحراني، عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *