نوفمبر 22, 2024
download

اسم الكاتب : رياض سعد

قد تلعب العصبيات القومية والوطنية والعرقية والطائفية دورا مهما في الحفاظ على كيان القوميات والامم والاوطان والاعراق والطوائف ؛ وتحميها من مخاطر الذوبان في الاخر او التلاشي والانقراض , ولعل مفاهيم الاقوام  والاعراق والقبائل والعشائر … الخ ؛ امور اعتبارية او وهمية لا وجود حقيقي لها من دون تفعيلها والاهتمام بها ورعايتها … , فالنسب – مثلا –  إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنُعرة»، إذ النسب، من دون تفعيله، «أمر وهمي لا حقيقة له»... ؛ والعصبية إنما تنمّي الحب للمنتسبين إليها ، واستعداد واحدهم للتضحية في سبيل الآخر. فالعدوان يمتنع حيث هناك «عصبة» ، إذ «لا بد في القتال من العصبية»، بينما «المتفردون في أنسابهم» فـ«قل أن تُصيب أحداً منهم نُعرة على صاحبه» … – كما ذهب الى ذلك ابن خلدون في مقدمته – , وإذ يكاد يستحيل التغلب على قوة معزَّزة بالعصبية ، ويدافع أهل العصبية عن أنفسهم من دون أن يكلّفوا جنوداً ومرتزقة للقيام بذلك، كما يخدمون أنفسهم من دون أن يكلفوا خدماً بخدمتهم … ؛  إنهم، وإلى حد بعيد، ذوو اكتفاء ذاتي.

لذلك ترى إن العصبية أقوى ما تكون عند البدو، لأن شظف العيش في الصحراء يفرض وجودها… ؛  فهي، في الحياة البدائية، تظهر في القتال ضد الوحوش وضد القبائل المنافسة ولتأمين الغذاء والماء لأعضائها، فهم «المقتصرون على الضروري في أحوالهم، العاجزون عما فوقه»، قياساً بالحضر الذين هم «المُعتَنون بحاجات الترف والكمال في أحوالهم وعوائدهم». وهكذا فإن «الصريح من النسب إنما يوجَد للمتوحِّشين في القفر من العرب ومَن في معناهم»، وذلك «لما اختُصوا به من نكد العيش، وشظف الأحوال، وسوء المَواطن» حيث يقل اختلاط الأنساب. في المقابل، إذا وقع «الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم»، «فَسُدَتْ الأنساب بالجملة وفُقِدت ثمرتها من العصبية»، و« مَن كان من هذه الأجيال أعرقَ في البداوة وأكثر توحشاً، كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد وتَكافَآ في القوة العصبية».(1)

والتعصب الفكري والعقدي للوطن لا يكون الا من خلال معرفة حقيقة الوطن والاطلاع على تاريخه ومزاياه ؛  ومن ثم حبه وعشقه ؛ ومن دون التعصب للوطن يسهل التفريط به بل وخيانة ترابه ونهب ثرواته والتعاون مع الاعداء ضده , ولكي ينهض العراق من جديد ؛ ينبغي ان يكون الولاء للوطن والاهتمام بالمواطنة وحمايتها قبل الولاء للقومية او الديانة او العرق او الحزب او الفئة … الخ ؛ فالوطن وجد قبل ان  توجد تلك المسميات والعناوين ؛ وقد رأينا بأم العين كيف تم تدمير العراق والامة العراقية من خلال الفكر المنكوس والذي يساوي بين بعض العناوين التافهة والعراق العظيم  ؛ فمن منا ينسى تلك العبارة الهابطة للطغمة البعثية والصدامية القذرة : ( اذا قال صدام : قال العراق ) ؛ وصدق الشاعر عندما قال :

لقد هزلت حتَّى بدا من هزالها  ……كلاها وحتَّى سامها كلُّ مفلس

وعليه كن عراقيا قبل ان تكون سنيا او مسيحيا او تركمانيا او كرديا او ايزيديا   … الخ ؛  وليس العكس … ؛  فلو تعرض العراق للهجوم من قبل السنة الاتراك او الاكراد الاجانب او عرب السعودية او شيعة ايران ؛ واجب العراقي التركماني والكردي والسني والعربي والشيعي عندها صد الهجوم وحماية ارضه وعرضه وليس التقاعس والخيانة بحجة القومية او الديانة … ؛  وقد يعترض البعض على التعصب باعتباره من العقد النفسية , وانا هنا لا اقصد به التعصب النفسي او المرضي بل الفكري والمبني على الحقائق والاسس العلمية والتاريخية الرصينة ؛ فالتعصب للوطن وابناء جلدتك الكرام لا يعد من العقد النفسية او المثالب الاخلاقية او الرؤى السلبية ؛ لذا جاء عن الامام علي بن الحسين ؛ لما سئل عن العصبية   : (( … وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه …)) (2) فحب الوطن والمواطنين من شعب الايمان ؛ وبغضهم من وساوس الشيطان .

وجاء في  التعصب الممدوح عن  الإمام علي – في خطبة القاصعة –  وهو يمتدح التعصب المحمود  : (( … فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأفعال، ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء النجداء من بيوتات العرب، ويعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة، والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة، والآثار المحمودة ,  فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للحوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض  )) . (3)

وجاء عن النبي محمد : (( خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم  )) (4).

كذلك وجاء عن  الإمام علي : إن كنتم لا محالة متعصبين فتعصبوا لنصرة الحق وإغاثة الملهوف (5).

  وجاء عنه – أيضا – : أما دين يجمعكم، ولا حمية [محمية] تشحذكم ! أوليس عجبا [عجيبا] أن معاوية يدعو الجفاة الطغام [الطغاة] فيتبعونه على غير معونة ولا عطاء (6).

ولا ريب أنّ العصبيّة الذميمة التي نهى الإسلام عنها هي: التناصر للباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهليّة السلبية  , واما حب الاوطان وخيار القوم وكرام الجماعة ؛ يعد من مكارم الاخلاق … ؛ فالتعصّب للوطن ، والدفاع عنه، والتناصر لتحقيق المصالح الوطنية   العامّة، كالدفاع عن حقوق المواطن ، وحماية الوطن من الاخطار والازمات والتحديات ، وصيانة كرامات المواطنين وأنفسهم وأموالهم … ، فهو من التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العِزة والمنعة للمواطنين .

ونظرة خاطفة لمن حولنا من القوميات والامم المجاورة والبعيدة تكشف لنا عن مدى التعصب القومي والوطني والعرقي الذي تعيشه  تلك الاقوام والشعوب ؛ واما بالنسبة للشعارات الانسانية ودعوات التسامح والمساواة بين البشر ونبذ التعصب ؛ فهي للاستهلاك الاعلامي فقط , ولذر الرماد في العيون ؛ والشواهد على ذلك كثيرة , فدونك حوادث العنصرية ضد السود في امريكا , وحالات الاعتداء على العرب في تركيا , وكذلك في فرنسا ضد المهاجرين … الخ .

وفي احدى المرات كنت اسير في شوارع طهران , ورأيت مجموعة من الرجال السياح يرتدون الزي العربي التقليدي ؛ واذا بأطفال ايرانيين  خرجوا من احدى المدارس الابتدائية وهم ينظرون  لهؤلاء الرجال باستهزاء ويقهقهون , ويتكلمون بصوب عال : (( اعراب او عربه )) لا اتذكر طريقة نطق  اللفظ بصورة دقيقة  .

واما بخصوص العراق فالأمر مختلف جدا ؛ اذ ان الاغلبية العراقية الاصيلة تكاد تنعدم لديها صفة التعصب القومي والوطني والطائفي , بالإضافة الى اتصافهم بالتسامح والكرم والطيبة والسذاجة ؛ نعم كل الغرباء والدخلاء والاجانب من ذوي الاصول الاجنبية والعجمية والعثمانية واعراب ومستعربة – اقصد بهم ادعياء العروبة ولا اقصد المعنى الاصطلاحي للكلمة –  البلدان العربية ؛ اتسموا بالتعصب القومي والطائفي والمناطقي ؛ لذلك تنتشر تلك العصبيات والعنصريات في المدن الدينية الشيعية لان بعض سكانها جذورهم عجمية واجنبية , واما تعصب ابناء الفئة الهجينة وبعض ابناء الطائفة السنية الكريمة والاكراد وغيرهم من الاقليات ؛ فهو اشهر من نار على علم … ؛ ناهيك عن العصبيات العشائرية والقبلية والحزبية والفئوية والمناطقية الضيقة  ؛ ولعل هذا السبب يعد من اهم الاسباب الجوهرية في عدم انبثاق مفهوم الامة العراقية الجامعة وغياب الحس الوطني الاصيل وانعدام الهوية العراقية الاصيلة … ؛ فالشيعي العجمي يفضل مصالح العجم وكذلك السني العثماني والتركماني يفضل مصالح الاتراك واما الاكراد فحلمهم اقامة الدولة الكردية الكبرى على حساب بلاد الرافدين … الخ ؛ كل هؤلاء يفضلون مصالح قومياتهم الاصلية واوطانهم الحقيقية على العراق وابناء الامة والاغلبية العراقية الاصيلة .

ان التعصب الوطني الايجابي  يعطي المواطن شعورا بالانتماء والكبرياء والرغبة في التضحية في سبيل الوطن والعمل من اجله , بالإضافة الى انه يوطد و يقوي اوصال العلاقة بين ابناء الوطن الواحد , ويوسع من دائرة الانتماء لتشمل كل ابناء الوطن وانصهارهم جميعا وعلى اختلاف اعراقهم وقومياتهم واديانهم ولغاتهم في بوتقة الهوية الوطنية الجامعة ؛ ويكافح سلبيات ابناء وجماعات وفئات الامة والوطن , ويستثمر طاقاتها وابداعاتها وتنوعاتها من اجل خدمة قضايا الوطن والامة .

فنحن هاهنا عندما ندعو الى التعصب الايجابي فأننا نقصد به المبالغة في حب الوطن والغلو المرحلي في عشق الامة العراقية والذوبان والانصهار الاني فيهما ؛ ولو من باب : (( داوها بالتي كانت هي الداء )) ؛ فالوطن الذي تفتك به الاحقاد الخارجية وتهمين عليه السذاجة واللامبالاة الداخلية  وتغييب الهوية والتشويش على الذات الوطنية وتشويه معالم التاريخ الوطني ؛ لابد له من المرور بمرحلة التعصب الوطني – ان جاز التعبير – , والاهتمام بالوطن والمواطن , وصياغة هوية وطنية حقيقية جامعة ؛ ومن ثم التحول الى الدعوات الانسانية ورفع شعارات المساواة بين السود والبيض ,  والافارقة والاوربيين ,  والمسلمين والمسحيين والهندوس واليهود … الخ .

وعليه نحن هنا لا نقصد التعصب المرضي والسلبي بكافة اشكاله وانواعه , وانما نهدف الى اشاعة مفهوم حب الوطن والعمل الجاد على بلورة وصيرورة هوية عراقية اصيلة تجمع شتات العراقيين في كل اصقاع المعمورة ؛ وبشتى الطرق المتاحة ؛ بما فيها التعصب الفكري والعقدي المرحلي والاني للوطن ؛ ولو من باب : الغاية تبرر الوسيلة .

وعليه لو اقتضى الامر ان نجمع بين الملحدين والموحدين والاصدقاء والاعداء والظالمين الاشرار والمحسنين الاخيار؛ من الذين يمجدون بالعراق ويرفعون من شأن الامة العراقية العظيمة ؛ نفعل ذلك وبلا حرج او غضاضة … ؛ وبناء على ما تقدم : لا تضيع ساعة من وقتك , ولا دينار من مالك , ولا تبذل جهدك ولا تضيع  قوتك …؛ الا في خدمة العراق والامة العراقية واهلك وقومك  حصرا , فالوطن الذي عاش فيها اجدادك واباءك وعشت انت فيه , وسوف يعيش فيها احفادك ؛ اولى بك من باقي الاوطان , وبني قومك احوج اليك من الاخرين .

ومن هنا تعرف سبب خوف الطغاة واعداء الامة العراقية من مراسيم عاشوراء وذكرى كربلاء ؛ فهم لا يخافون من شهداء كربلاء الذين استشهدوا منذ مئات السنين  , ولا من قبورهم ومراقدهم  , ولا من قدور الطبخ والطعام ؛ انما يخشون من العصبية الشيعية التي تجمع الملايين والتي من الممكن ان تستغل ضد الحكومات الظالمة و الحكام الطغاة  والمحتلين الغزاة , لذا تراهم يعملون على شق الصف الشيعي من خلال تأسيس المزيد من المرجعيات والحركات والتيارات والاحزاب والجماعات الدينية المتصارعة والمتنافرة داخل الجسد الشيعي الواحد ؛ من اجل اضعافه وتقزيمه ؛  وافراغ العصبية الشيعية الحسينية – ان صح التعبير – من محتواها الايجابي والذي من الممكن ان يتحول الى تنين كبير يلتهم رؤوس الاعداء .

…………………………………………………………….

  1. العصبية… أو انتصارات ابن خلدون وهزائمه / حازم صاغية / بتصرف .
  2. الكافي: ٢ / 308 / 7.
  3. نهج البلاغة: الخطبة ١٩٢، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.
  4. سنن أبي داود : ٥١٢٠.
  5. غرر الحكم: ٣٧٣٨.
  6. نهج البلاغة: الخطبة 180.
  7. استخدامنا هنا لمصطلح التعصب لا يدل على معناها الاصطلاحي او اللغوي الدقيق , بقدر ما نحاول اضفاء شعلة من المشاعر القوية والاحاسيس الوطنية المبالغ فيها للمواطنين العراقيين في الوقت الراهن ؛ وذلك لخطورة التحديات المعاصرة و كثرة الاخطار الانية .

1 thought on “ضرورة التعصب الايجابي للعراق في الوقت الراهن

  1. الهوية الوطنية العراقية متأصلة عند عامة الناس الذين لا حول ولا قوة لهم اما الفئة المسيطرة على مقدرات الدولة فهي منقسمة بين فئة تمثل الاغلبية من الفقراء التي ما ان ابحرت في فلك الدولة حتى قامت باغراق اتباعها اما الفئة الثانية فهي الاقلية التابعة لدول الجوار وهي تابعة أذن هي عميلة بامتياز ومهمتها هدم التجربة الأولى الديمقراطية في حكم الاغلبية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *