IMG-20250307-WA0002

 شامل محسن هادي مباركه

دكتور شامل محسن هادي مباركه

الصحافة التي سعت جاهدةً دخول شارع الرسول (ص) وحاولت اختراق الجدار السيستاني فشلت في سرقة ما يُطرحُ من ملفات ساخنة تعالج أكثر المواضيع أهمية، فذُبِحت القواعد الأساسية للأدلة على منصات الأخبار، وتحول الإعلام إلى وسيلة لاختراع القصص عن المرجع الأعلى السيستاني، فارتفعت الشائعات إلى مرتبة المصدر الأساسي، وباتت الآراء تُسَوّق على إنهاء حقائق. من هنا كان لِزاماً علينا وضعُ الأدلة في أيدي الشعب العراقي ليطلع على ما تركه المرجع الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني دام ظله في خاصرة المحتل الأمريكي، و الأرق الذي أنتجته مواقف السيستاني في واشنطن العاصمة.

في وثيقةٍ سرية، كُشِف عنها النقاب حديثاً، مرسلةً من وزير الدفاع الأمريكي، دونالد رامسفيلد إلى الدكتور جيمس شليزنجر، وزير الدفاع الأمريكي الأسبق ووزير الطاقة، بتاريخ ٤ كانون الأول ٢٠٠٣ الساعة ٦:٣٣، كانت بعنوان “الشيعة وآية الله السيستاني”، الموضوع: “مواجهة السيستاني”، Confronting Sistani. تُبيّن الوثيقة مدى خوف إدارة بوش الإبن من سيد النجف، المرجع الأعلى السيستاني، حيث نصت: “يجب أن تتم مواجهة السيستاني بطريقة دبلوماسية من خلال التمسك بموقفنا بفصل الدين عن الحكم”. المؤسف فيها هو موقف السياسيين الشيعة. يسترسل رامسفيلد فيقول: “بحسب مصادرنا في البلاد، فإن السياسيين الشيعة يحترمون السيستاني وآرائه، ولكنهم لا يتبعونه. الواقع أن هذا التقارب يشبه الأمريكان الكاثوليك الذين يتعاملون مع البابا، فهم يستمعون إلى ما يقوله بإحترام ثم يشكِّلون آراءهم بأنفسهم. إن السياسيين الشيعة في العراق لا يؤيدون السيستاني كثيراً. الواقع أن بعض أكثر محاورينا نفوذاً يصرون على تجاهل تصريحات السيستاني بشأن العملية السياسية”.

يقول الدكتور جيمس شليزنجر في تقريره: عارض الزعيم الديني الشيعي آية الله السيستاني الخطة التي تقضي باختيار الجمعية الوطنية الانتقالية المقترحة لكتابة الدستور، حيث أيد إجراء انتخابات مبكرة ومباشرة. 

أدركت سلطة الإحتلال قوة المرجع السيستاني، حينما رفض رؤية الحاكم المدني پول بريمر في آلية تحديد شخصيات من محافظات العراق ليتم اختيار منهم أفراد ليكونوا أعضاءً في الجمعية الوطنية لكتابة الدستور العراقي المؤقت. (راجع كتاب “Order out of Chaos”, صفحة ١٢٧، ديفيد باتيل، جامعة كورنيل الأمريكية)

قال المرجع الأعلى لمراسل صحيفة واشنطن بوست في ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٠٣: “أن آلية انتخابات أعضاء السلطة التشريعية الانتقالية لكتابة دستور جديد لا تضمن تشكيل برلمان يمثل الشعب العراقي تمثيلاً حقيقياً”. أصرّ على ضرورة ان يتم تغيير الآلية الى طريقة أخرى من شأنها أن تضمن إرادة الشعب. هذا هو الضمان الوحيد لتشكيل برلمان “يُستمدُ من ارادة العراقيين ويمثلهم بطريقة عادلة ويحميه من التحديات التي تواجه شرعيته”. (راجع مقال واشنطن بوست “كيف ساهم رجل الدين في إفشال الخطة الأميركية في العراق”، How Cleric Trumped U.S. Plan for Iraq، ٢٩ تشرين الثاني ٢٠٠٣)

بعد تعّنت پول بريمر بموقفه، وضعف سياسيي السلطة، لجأ السيستاني إلى الأمم المتحدة لتكون وسيطاً بين المسؤولين العراقيين و الأمريكيين. بدأت هذه المحادثات في التاسع عشر من كانون الثاني ٢٠٠٤، عندما التقى بريمر وأعضاء مجلس الحكم بالأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان لمناقشة دور إضافي للأمم المتحدة. في أعقاب هذه المناقشات، أرسل الأمينُ العامُ فريقاً من الأمم المتحدة، بقيادة الأخضر الإبراهيمي، إلى العراق للقاء آية الله السيستاني لتحديد الترتيبات الانتخابية. (راجع تقرير “العراق: بعد مرور عام”، قدمه فريق عمل برعاية مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، Iraq: One Year After، صفحة ٣٢، توماس بيكرينج وجيمس شليزنجر، ٢٠٠٤)

امتنعت امريكا من اجراء الانتخابات المزمع إجراؤها في ٣٠ حزيران ٢٠٠٤ لتشكيل برلمان مؤقت بحجة ضيق الوقت والذي سيعرّض نزاهة الانتخابات الى مخاطر. خاطب السيستاني كوفي أنان طالباً تدخّل الامم المتحدة في مواجهة التسويف الامريكي، فزاد هذا التصرف الحكيم الضغط على امريكا باجراء الانتخابات في وقتها المحدد.

صرّح كوفي أنان باستحالة الأنتخابات في وقتها المحدد، مما حذّر احد ممثلي المرجع الأعلى قرار تأجيل الانتخابات، بان السيستاني في صدد إصدار “فتوى” ضد الحكومة المؤقتة المقترحة، الفاقدة لاستقلاليتها في ظل الاحتلال. (راجع كتاب “آيات الله الوطنيون: القومية في عراق ما بعد صدام”، Patriotic Ayatollahs: Nationalism in Post-Saddam Iraq، صفحة ٨١، دكتورة كارولين مرجي، ٢٠١٨)

مع ضعف مجلس الحكم في مواجهة المحتل الأمريكي، ركز المرجع الأعلى بشدة على مسؤوليات الامم المتحدة حيال العراق. قال انه بسبب اعتراف الامم المتحدة بالدولة العراقية الجديدة في العراق، يتعين عليها ان تُشرف على العملية السياسية حتى تكون شرعية ومستقرة. أضاف: “الشرعية ستتحقق عندما يحدث التشكيل السياسي بنّاءاً على ارادة جميع اعراق الشعب العراقي وطوائفه”. (هذا جاء مطابقاً لمقابلة مع صحيفة دير شبيغل الألمانية، Sistani Interview In Der Spiegel في ٢٠ شباط ٢٠٠٤).

من جانب آخر، كانت هناك صولة سيستانية أخرى ضد الحاكم المدني. كان المرجع الأعلى السيستاني حازماً في موقفه حيال عدم تبني قانون إدارة الدولة المؤقت كدستور دائم، فبعث رسالة شديدة اللهجة إلى مجلس الأمن، كرجلِ دولةٍ وخبيرٍ قانوني، جاء فيها: “لقد بلَغَناَ أن البعض يحاول أن يدرج في قرار مجلس الأمن الجديد بشأن العراق إشارة إلى ما يسمونه قانون إدارة الدولة العراقية في المرحلة الانتقالية [أي الدستور المؤقت] بهدف إعطائه الشرعية الدولية. هذا القانون الذي شرّعه مجلس غير منتخب في ظل الاحتلال، وبتأثير مباشر منه، يُلزم البرلمان الوطني الذي تقرر انتخابه في بداية العام الميلادي الجديد لغرض إقرار دستور دائم للعراق. هذا الأمر يخالف القوانين، ويرفضه أغلب أبناء الشعب العراقي. لهذا فإن أيةَ محاولة لإضفاء الشرعية عليه من خلال ذكره في قرار الأمم المتحدة يُعتبر عملاً مخالفاً لإرادة الشعب العراقي ويُنذِر بعواقب وخيمة”.

هنا، إنتصرت الإرادة السيستانية أمام قوات الإحتلال. صدر قرار مجلس الأمن المرقم ١٥٤٦ في ٨ حزيران ٢٠٠٤، حيث وافق بالإجماع على قرارٍ جديدٍ بشأن العراق يمنح الشرعية للحكومة المؤقتة، مضمونه:

١- يمنح القرار الحكومة العراقية الجديدة قدراً كبيراً من السيادة مما تصورته الولايات المتحدة في مسودة القرار الأولية. 

٢- من شأن القرار أن يسهّل على الحكومة المؤقتة الحصول على مقعد العراق في الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية.

٣- يقيّد القرار الولايات المتحدة عن القيام بعمليات عسكرية كبرى دون التشاور مع الحكومة العراقية.

٤- ينص القرار على إنشاء لجنة مشتركة ممثلين من الأميركيين والعراقيين لإجراء أي مناقشات تخص العراق.

٥- تم استبدال “الشراكة” العسكرية بنجاح باقتراح فرنسي أكثر صرامة يقضي بمنح الحكومة العراقية حق النقض على التحركات العسكرية الأميركية في العراق.

(راجع قرار مجلس الامن المرقم ١٥٤٦، “مجلس الأمن يصادق على تشكيل حكومة مؤقتة ذات سيادة في العراق”،Security Council Endorses Formation Of Sovereign Interim Government In Iraq، ٨ حزيران ٢٠٠٤)

يقول البروفيسور جوان كول في بحثه: إن هذه العملية برمتها تشكل انتصاراً كبيراً للسيستاني. كثيراً ما ننسى أن إدارة بوش لم تكن لديها أي نية لإشراك الأمم المتحدة بهذه الطريقة في العراق، فشعر الأمريكيون “بإهانةٍ بالغةٍ”. يسترسل في بحثه:

كان السيستاني هو الذي أفشل الخطط الأمريكية باعتبارها غير ديمقراطية…

وكان السيستاني هو الذي طالب كوفي أنان بإرسال مبعوث خاص إلى العراق…

وكان السيستاني هو الذي أصر على إجراء انتخابات حرة ونزيهة في أقرب وقت ممكن…

وكان السيستاني هو الذي أصر على أن تكون الأمم المتحدة هي القابلةُ التي تولِّد الحكومة العراقية الجديدة، وليس الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وحدهما…

وكان السيستاني هو الذي أصر على أن لا يُذكر قرار الأمم المتحدة قانون الإدارة الانتقالية. (راجع بحث “السيستاني هو الرابح الأكبر؛ الأكراد غاضبون”،Sistani The Big Winner; Kurds Furious، البروفيسور جوان كول، جامعة مشيغان – آناربر، حزيران ٢٠٠٤) 

لذلك كانت مواقف المرجع الاعلى ما بعد ٢٠٠٣، تتماشى مع القيادة الروحية من جانب، و المحافظة على الديمقراطية الوليدة وتصحيح مسار العملية السياسية وإجراء إنتخابات من جانب آخر، مع طلبه إنسحاب كامل للقوات المحتلة من العراق، أو تكون تحت مظلة الأمم المتحدة إن كانت بحاجة لها.

ليعلم الشعب العراقي بأن أول من طالب بإخراج القوات الأمريكية المحتلة من العراق هو سماحة آية الله العظمى السيستاني دام ظله في عام ٢٠٠٣. عندما سُئل عن مدى وجود القوات الامريكية المحتلة بالعراق، قال سماحته: “لا يوجد سبب معقول لوجود القوات الامريكية بالعراق”، الامر الذي لم يترك مجالاً لشرعية بقاء القوات المحتلة بالعراق، وعلى وفق الرؤية السيستانية، “فاذا كانت هناك حاجة لقوات اجنبية لحماية البلاد، فيجب ان يكون تحت مظلة الامم المتحدة”. (راجع سؤال لصحيفة النوفيل أوبزيرفاتور الفرنسية، Sistani Interview in French newspaper Nouvelle Observateur

في ٢٩ آب ٢٠٠٣).

تذكر كارولين في كتابها: “استعمل السيستاني، والذي يمتاز بقيادة روحية، قوته السياسية غير الرسمية لصياغة العملية السياسية وتوجيهها صوب الديمقراطية التي ترتكز على اولوية العراق، كان يعمل الى جانب الدولة لضمان ظهور المشروع الوطني خلال السنوات الاولى بعد الغزو”. (راجع كتاب “آيات الله الوطنيون: القومية في عراق ما بعد صدام”، Patriotic Ayatollahs: Nationalism in Post-Saddam Iraq، صفحة ١٢، دكتورة كارولين مرجي، ٢٠١٨)

يسأل إسحاق نقاش في كتابه: كيف لنا أن نفسر مرجعية السيستاني؟ أحد التفسيرات هو رؤية السيستاني على أنه يقود “إصلاحاً” في القيم، ويربط الشيعة بالسياسة الديمقراطية في الشرق الأوسط، ويدافع عن الانتخابات والسيادة الشعبية. (راجع كتاب “الوصول إلى السلطة: الشيعة في العالم العربي الحديث”، Reaching for Power: The Shi’a in the Modern Arab World، صفحة ٧-١٥، دكتور إسحاق نقاش، جامعة برنستون الأمريكية، ٢٠٠٧)

كان تخوّف المرجع الأعلى يكمن في مضامين الدستور العراقي الدائم، وهل سيكون دستوراً ليبراليا علمانياً يدعو إلى المدنية، أم إسلامياً يحافظ على القيم الأخلاقية ومبادئ الإسلام. يُنظَر إليه باعتباره سياسياً عالماً بفن السياسة مطلعاً على دساتير العالم. يستحضر في ذاكرته ثلاثةَ تجارب في إيرلندا و باكستان والملكية العراقية.

في الأولى؛ في خمسينيات القرن الماضي، تم تشكيل برلمان إيرلندي علماني يكون للأساقفة من الكنيسة الحق في التدخّل في القرارات المصيرية التي تخص الكنيسة، و فرض رأي الأساقفة في المشاكل المجتمعية التي تتقاطع مع رأي الكنيسة.

و في الثانية، فكان في ظل الجنرال ضياء الحق، عندما جعل الإسلامَ جزءً من القانون الباكستاني.

أما الأخيرة؛ فكانت في الحكم الملكي العراقي، حيث كان ضمن هيكلية الدولة هيئة شرعية من القضاة الدينيين المعينين من قِبَل الدولة، يمكنُ لرجال الدين أن يكون لهم صوت في الشؤون المدنية.

بكل تأكيد، يسعى المرجع الأعلى لأن يكون الإسلامُ مصدرَ التشريع مع الحفاظ على الديمقراطية الوليدة. إن دعوته الواضحة لأسلمة الدستور لا تسعى إلى تشكيل نظامٍ ثيوقراطي، بل إلى ضمان عدم استبعاد الإسلام، باعتباره أحد المصادر للسلطة الشرعية، من الهيئة القانونية العراقية.

ذهب المرجع الأعلى إلى أبعد من ذلك، كان حريصاً على تضمين الدستور العراقي المادة ٢، التي جمعت بين الإسلام مصدراً للتشريع و حظْر ِالقوانين التي تنتهك مبادئ الديمقراطية في الحقوق والحريات الفردية، بصورةٍ بهيةٍ تفتقدها أغلبُ دساتير العالم. كما سعى في وضعِ حدٍ للعلمنة الكاملة للدستور، الأمر الذي من شأنه حرمان دولة مسلمة من هوية وطنية “أصيلة” مبنية على إرثها الإسلامي، حتى وصف الدكتور لأري دايموند، المسؤول في سلطة الائتلاف المؤقتة عن كتابة قانون إدارة الدولة العراقية، في مقولته الشهيرة بحق المرجع الأعلى السيستاني: “المؤمن الصادق بالشرعية السياسية للعقد الاجتماعي بين الحكام والمحكومين”.

يقول دكتور باباكا رحيمي: “مع أخذ ذلك في الاعتبار، فمن الأهمية بمكان عدم الخلط بين المفهوم الإسلامي للدستور ومفهوم السيستاني الدستوري للديمقراطية الإسلامية. يهدف السيستاني إلى استيعاب الشريعة الإسلامية جنبًا إلى جنب مع المعايير القانونية الأخرى ذات الدلالات الاجتماعية والسياسية المختلفة في الحياة اليومية”. (راجع بحث “آية الله السيستاني والتحول الديمقراطي: عراق ما بعد البعث”، Ayatollah Sistani and the Democratization of Post-Ba’athist Iraq، صفحة ١١، دكتور باباكا رحيمي، جامعة كاليفورنيا، سان دييغو)

حطّمَ السيستاني جبروت القوات المحتلة و أذلّهم، فعَلَتْ أصواتهم: “هذا الرجل يجب أن يرحل”. أيامٌ عصيبةٌ، وظروفٌ رهيبةٌ، وملفاتٌ شائكةٌ، ترك فيها سماحته بصماتٍ وطنية، و جهودٍ دؤوبةٍ أنقذت العراق من مستنقع الإحتلال، و أماط اللثام عن خنوع السياسيين الذين وقفوا مع المحتل ضد بلدنا وشعبنا… إنه السيستاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *