
إعداد وتحليل وتقديم صباح البغدادي
سوريا تنتزع السلام من فكّي الفوضى: اتفاق سلام تاريخي يُحبط مخططات إيران ويُعيد ترتيب رسم المشهد الإقليمي
في يوم الإثنين 10 مارس 2025، شهدت حكومة “فجر سوريا الجديد” توقيع اتفاق تاريخي بين رئيس المرحلة الانتقالية السيد “أحمد الشرع” و “مظلوم عبدي” قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يقضي باندماج هذه القوات ضمن مؤسسات الدولة السورية الجديدة. ولم يكن هذا الاتفاق بنظرنا مجرد خطوة داخلية لتوحيد سوريا بعد سنوات من التمزق بين أطياف ومكونات الشعب، ولكن نحن نعتقد وحسب قراءتنا للوضع ومتابعتنا لهذه الإحداث عن كثب، بانها حتمآ كانت نتاج جهود دبلوماسية مكثفة قادتها كل من الحكومة التركية والقطرية، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، منذ يوم الخميس 6 أذار وذلك لإجهاض مخطط إيراني كان يهدد بإشعال حرب أهلية جديدة ولغرض إعادة توسيع نفوذ طهران في المنطقة من جديد < لذا وضمن هذا السياق سوف نحاول قدر الإمكان أن نحلل هذه الإحداث وما جرى خلال الساعات الماضية من مباحثات ماراثونية مكثفة لغرض إجبار قيادة “قسد” على التوقيع الاتفاق وحسب مشاهدتنا ومتابعتنا وما نعتقده انه قد حصل من خلال هذه المحادثات المكثفة :
في لحظة فارقة كادت أن تُغرق سوريا في مستنقع حرب أهلية جديدة، أطلقت الحكومة التركية تحذيرًا صلبًا كالصخر لقوات سوريا الديمقراطية “قسد” مفاده: “إما أن تقفوا إلى جانب حكومة سوريا، أو ستواجهون عواقب وخيمة لا تُحمد عقباها، وإيران التي تستخدمكم كأدوات في لعبة الفوضى لن تكون سوى سراب يتلاشى عند أول اختبار حقيقي”.
يمكن هكذا جاءت الرسالة التركية حاسمة، أو قد تكون اشد منها، وتحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا ودعوة واضحة لإعادة ترتيب الأوراق قبل أن تُشعل النيران المنطقة بأسرها.
وفي ظل متابعة دقيقة لنا لتسارع الأحداث، بدا واضحًا أن “أنقرة” لم تكتفِ بالكلمات والبيانات والتصريحات. ولكن حتما ونعتقد بان اتصالات مكثفة أجرتها وزارة الخارجية التركية مع البيت الأبيض ووزير الخارجية الأمريكي، مدعومة بجهود قطرية بارزة، للضغط على “قسد” من أجل توقيع اتفاق سلام مع رئيس المرحلة الانتقالية “أحمد الشرع “. الهدف؟ قطع الطريق على إيران التي بدأت تتسلل عبر ثغرات الصراع، مُحركةً خيوط الفوضى عبر ميليشياتها، في محاولة لإشعال حرب أهلية لا يدفع ثمنها سوى الشعب السوري المثقل بسنوات الدمار.
توقيع الاتفاق: انتصار للسلام أم تأجيل للمواجهة؟
تابعنا ومن خلال شاشات التلفزة الفضائية هذا اليوم الإثنين حيث أعلنت رئاسة المرحلة الانتقالية في سوريا عن توقيع اتفاق تاريخي مع قوات “قسد” يقضي باندماجها ضمن مؤسسات الدولة السورية الجديدة. الاتفاق، الذي جاء عقب لقاء بين أحمد الشرع وقائد “قسد”، تضمن بنودًا حاسمة: وقف إطلاق النار في جميع الأراضي السورية، دعم “قسد” للحكومة الانتقالية في مواجهة فلول النظام المخلوع، ورفض صريح لدعوات التقسيم وخطاب الكراهية. هكذا، وضعت سوريا قدمها على أولى درجات السلم للوصول الى التعايش المشترك والتنمية البشرية والاقتصادية.
لم يكن هذا الاتفاق وليد اللحظة. فقد سبقته أيام من التوتر العاصف والشحن الطائفي من خلال منصات التواصل الاجتماعي، حيث شهدت ليلة الخميس 6 مارس هجمات منظمة نفذتها فلول النظام السابق تحت اسم “درع الساحل” في مناطق متفرقة من الساحل السوري. استهدفت هذه العناصر الشرطة وقوات الأمن الداخلي والمدنيين، مُخلفةً 75 قتيلًا ومئتي أسير، في عملية بدت كمحاولة يائسة لإعادة إحياء شبح نظام الأسد المخلوع. لكن ما أثار القلق لنا ومن خلال مشاهدتنا يتمثل أكثر هو الدعم الإعلامي الذي تلقته هذه الفلول من إيران وميليشيات الحشد الشعبي، التي سارعت إلى وصفها بـ “المقاومة الشرعية”، في حين وصفت الحكومة السورية الجديدة بـ “عناصر الجولاني” في محاولة لإشعال الفتنة الطائفية.
إيران في قلب العاصفة: مناورة طائفية أم انهيار لا مفر منه؟
لم تكتفِ طهران بالدعم الإعلامي. فقد تبين أن هجمات فلول النظام البائد قد تلقت تسهيلات لوجستية من ميليشيات لبنانية وإيرانية، بل وحتى من بعض العناصر داخل “قسد”، وهذا ما نعتقده جازمين في تناولنا في سياق تسارع الإحداث، مما دفع تركيا وحلفاءها إلى التحرك السريع. مفاده: “إذا تُركت الأمور لإيران، فإن سوريا لن تكون سوى ساحة لتصفية حسابات إقليمية، والمنطقة برمتها ستدفع الثمن” وفي هذا السياق، يبدو أن الاتفاق الموقع ليس مجرد خطوة لإنقاذ سوريا من حرب أهلية، بل رسالة استراتيجية إلى طهران مفادها: “لن نسمح لكم بتحويل سوريا إلى ورقة في لعبتكم“
نحن نعتقد وعلى الرغم تأخر الاتفاق، فإنه جاء في الوقت المناسب لإجهاض فتنة كادت تُحرق كل آمال السوريين في عيش كريم واقتصاد مزدهر. ولكن التحديات لا تزال قائمة. فالاستقرار الذي ينشده الشعب السوري يظل رهينةً بمدى التزام الأطراف الموقعة، وبقدرة الحكومة الانتقالية على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية. إن نجاح هذا الاتفاق قد يُعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة، بينما فشله قد يفتح أبواب جهنم التي لا يعرف أحد متى ستُغلق.
وفي لحظة حاسمة تتأرجح فيها المنطقة على حافة الهاوية، تبين لنا ومن خلال حديثنا مع أحد السادة المسؤولين الأفاضل بقوله:” وصل تحذير صارم كالرعد إلى الحكومة العراقية، محملاً بظلال التهديد والوعيد: لجموا فصائلكم الولائية الإيرانية المسلحة، تلك التي تتستر تحت عباءة الحشد الشعبي، وكبحوا جماح تدخلها في أتون الأحداث المشتعلة على الساحل السوري، فإن أي خطوة متهورة ستُشعل فتيل عواقب وخيمة لا تُبقي ولا تذر، تُلقي بظلالها المدمرة على الجميع دون استثناء”.
الدور التركي: ضغط استراتيجي وحسم عسكري
تركيا، التي كانت لاعبًا رئيسيًا في دعم المعارضة السورية ضد نظام بشار الأسد حتى سقوطه في ديسمبر 2024، رأت في تحركات فلول النظام السابق، والمدعومة من إيران، تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي واستقرار المنطقة. مع بدء هجمات “درع الساحل” في مساء يوم الخميس 6 أذار 2025 على طول شريط الساحل السوري، التي أسفرت عن مقتل عشرات من قوات الأمن والمدنيين، أدركت أنقرة أن أي فوضى في سوريا قد تعزز من نفوذ إيران وميليشياتها، مثل الحشد الشعبي وحزب الله، وتُعيد إحياء مخاطر حزب العمال الكردستاني (PKK) عبر “قسد”، التي ترى فيها تركيا امتدادًا لهذا الحزب.
سارعت تركيا إلى تحريك أدواتها الدبلوماسية والعسكرية:
أولاً: أطلقت تحذيرًا شديد اللهجة لـ “قسد”، مُطالبةً إياها بالانضمام إلى الحكومة الانتقالية أو مواجهة عواقب وخيمة، مشيرةً إلى أن إيران لن تكون قادرة على حمايتها كما تستخدمها كورقة لإعادة الفوضى.
ثانيًا: نفذت أنقرة اتصالات مكثفة مع البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، مستفيدةً من علاقاتها الاستراتيجية كحليف في الناتو. وركزت تركيا في حوارها مع واشنطن على مخاطر ترك “قسد” خارج الاتفاق، حيث قد تتحول إلى أداة بيد إيران لزعزعة الاستقرار، خاصة بعد تقارير عن تسهيلات لوجستية قدمتها بعض عناصر “قسد” لفلول النظام البائد.
ولم تكتفِ تركيا بالضغط الدبلوماسي، بل ألمحت إلى استعدادها للتدخل العسكري المباشر ضد “قسد” إذا لم تُظهر تعاونًا، مما وضع الولايات المتحدة أمام خيارين لا ثالث لهما: إما دعم الاتفاق أو المخاطرة بمواجهة مع حليف رئيسي. هذا الضغط التركي، المدعوم بحضورها العسكري القوي في شمال سوريا، جعل من البيت الأبيض يرى في الاتفاق حلاً يحقق التوازن بين دعم “قسد” كشريك سابق ضد داعش، وضمان استقرار الحكومة السورية الجديدة دون تصعيد مع أنقرة.
الدور القطري: الوساطة الناعمة والنفوذ الاقتصادي
في المقابل، نحن نعتقد كذلك ومن خلالها لعبت قطر دورًا مكملًا يعتمد على قوتها الناعمة ونفوذها الاقتصادي. منذ سقوط نظام الأسد، عززت الدوحة علاقاتها مع الحكومة الانتقالية، حيث زار أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، دمشق في شباط 2025، معلنًا استعداده لدعم إعادة الإعمار. وفي سياق ما جرى خلال الأيام الماضية، استغلت قطر علاقاتها الوثيقة مع تركيا والولايات المتحدة لتعزيز الضغط من أجل الاتفاق.
ركزت قطر في مفاوضاتها مع البيت الأبيض على البعد الإنساني والاستراتيجي:
أولاً: حذرت من أن فشل دمج “قسد” قد يؤدي إلى حرب أهلية تُغرق المنطقة في الفوضى، مما يفاقم أزمة اللاجئين ويعيق جهود التعافي الاقتصادي التي تعهدت الدوحة بدعمها.
ثانيًا: قدمت قطر نفسها كوسيط محايد بين الأطراف، مستفيدةً من خبرتها في التوسط في نزاعات مثل مفاوضات طالبان والولايات المتحدة أو هدنة قطاع غزة. تواصلت الدوحة مع مسؤولين أمريكيين، مُبرزةً أن دعم الاتفاق لن يُنهي الشراكة الأمريكية مع “قسد” فحسب، بل سيُعزز الاستقرار الإقليمي ويُضعف إيران، وهو هدف مشترك لواشنطن وأنقرة والدوحة.
ثالثآ: اقتصاديًا، ألمحت قطر إلى استعدادها لتقديم استثمارات كبيرة في سوريا، لكنها ربطت ذلك بضمان الاستقرار السياسي، مما جعل البيت الأبيض يرى في الاتفاق فرصة لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية دون تحمل أعباء عسكرية إضافية. هذا النهج القطري، الذي يمزج بين الدبلوماسية والإغراء المالي، عزز من موقف تركيا وجعل الرفض الأمريكي للاتفاق أقل جاذبية.
التكامل التركي-القطري: كانت رسالة موحدة إلى واشنطن / وإدارة البيت الأبيض:
ما جعل الجهود التركية والقطرية فعالة هو تكاملها الاستراتيجي. تركيا قدمت الضغط العسكري والأمني، بينما أضافت قطر البعد الدبلوماسي والاقتصادي. معًا، أقنعتا البيت الأبيض بأن الاتفاق هو الخيار الأمثل لتجنب سيناريو كارثي: حرب أهلية تُمكن إيران من استغلال “قسد” وفلول النظام لإعادة ترتيب أوراقها في سوريا، مما يُهدد مصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
ونحن نعتقد بدورنا انه في غضون يومين فقط (8-9 أذار 2025) أو حتى بأسابيع قبل إحداث الساحل السوري، نجحت الاتصالات المكثفة بين أنقرة والدوحة وواشنطن في دفع “قسد” للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أحمد الشرع، بدعم أمريكي ضمني. كانت الرسالة واضحة: إيران لن تجد موطئ قدم في سوريا الجديدة، والمنطقة لن تتحمل فوضى جديدة. هذا التحرك لم يكن مجرد رد فعل على هجمات الساحل، بل خطوة استباقية لإعادة تشكيل المشهد السوري والإقليمي بعيدًا عن قبضة الحرس الثوري الإيراني.
بالنسبة لتحليلنا حول الأبعاد الخفية والتأثيرات المستقبلية والتي قد تكون ما تزال خافية وخارج نطاق التغطية الإعلامية بأن وراء الكواليس، يُظهر الدور “التركي-القطري” أبعادًا استراتيجية أعمق. بالنسبة لتركيا، كان الاتفاق وسيلة لتقليص النفوذ الأمريكي المباشر في شمال شرق سوريا، حيث كانت “قسد” تعتمد على دعم واشنطن. أما قطر، فترى في استقرار سوريا بوابة لتعزيز دورها كشريك اقتصادي رئيسي في المنطقة، مع إضعاف إيران التي تُنافسها على النفوذ في العراق ولبنان. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الموافقة على الاتفاق تعكس تحولًا نحو تقليص التزاماتها العسكرية في سوريا، مع الاعتماد على حلفاء مثل تركيا وقطر لإدارة الملف.
نحن نعتقد بان في النهاية، نجحت تركيا وقطر في تحويل أزمة وشيكة إلى فرصة لإعادة ترتيب الأولويات الإقليمية. الاتفاق لم يُنهِ التوترات فحسب، بل وضع حجر الأساس لسوريا موحدة تُقاوم طموحات إيران في محاولة إعادة نفوذها الذي فقدته بعد سقوط نظام الأسد وتحجيم دور حزب الله في لبنان، وهو ما قد يُعيد صياغة التحالفات في الشرق الأوسط لسنوات قادمة.
بالنسبة لنا وفي ظل متابعتنا التطورات الأخيرة، يبقى أن نطرح السؤال المحوري ومعلقًا في الأذهان: هل نحن أمام سلام دائم يرسي أسس استقرار حقيقي، أم أنها مجرد هدنة مؤقتة تحمل في طياتها بذور انفجار أعظم قد يهز أركان المنطقة؟ هذا ما ستكشفه لنا الأيام والأسابيع والأشهر المقبلة، وهو ما سوف سنظل نرصده بدقة وعمق ومن خلال متابعة حثيثة لمسار الأحداث. ونرسم اليوم ملامح صورة أولية استنادًا إلى ما تكشّف من تفاصيل حتى الآن وقراءتنا وتحليلنا للوضع، وبينما نترقب ما ستجود به الساعات والأيام القادمة من مستجدات حول توقيع الاتفاق المرتقب بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) والحكومة الانتقالية السورية الجديدة. ومع ذلك، تبقى الأنظار متجهة نحو ما سيترتب على هذا الاتفاق من تحديات عملية، ومدى قدرة الأطراف على ترجمة بنوده من حبر على ورق إلى واقع ملموس يمهد لسوريا جديدة، تترسخ فيها دعائم الاستقرار، وتنعم بظلال الأمان، وتتطلع إلى آفاق التقدم والازدهار.
تم النشر مساء يوم الاثنين المصادف 10 أذار 2025 بتوقيت العاصمة العراقية/ بغداد