
رياض سعد
هنالك علاقة وثيقة بين السكان الاوائل والمواطنين القدامى وبين الهوية الوطنية لهذا البلد او تلك الدولة ؛ فايران وعلى الرغم من كونها بلد متعدد القوميات والاعراق الا انها كانت ولا زالت تسمى بلاد فارس , لان الفرس قطنوها قبل مجيء الاتراك والاكراد والاذر وغيرهم اليها ؛ لذلك ارتبطت هويتها بالفرس ارتباطا وثيقا , وكذلك جزيرة العرب سميت بهذا الاسم نسبة الى سكنتها الاوائل من العرب , وهذا الامر ينطبق على روسيا والروس , والمانيا والجرمان , والهند والهنود … الخ .
وبلاد الرافدين لا تختلف عن بقية البلدان , والعراق يجري عليه ما يجري على سائر الاوطان ؛ فهو ينتسب الى سكانه القدامى وبناة حضاراته الاوائل , فقد نشأت حضارة العبيد او الفراتيين ثم السومريين ثم الاكديين والعيلاميين ثم البابليين ثم الاشوريين ثم انصهرت اقوام تلك الحضارات في بوتقة النبط الرافدينية العظيمة , وبعدها نشأة الممالك العربية ( ميسان ,و الحيرة , والحضر ) ثم دخلت البلاد والاقوام في الاسلام كافة , فاعتنقت الاسلام وتحدثت بالعربية ؛ وعندها اصبحت عناصر الهوية الوطنية للعراق والعراقيين تعتمد على ثلاثة ركائز اساسية وهي : العمق الحضاري والعادات والتقاليد والطقوس والاديان والطوائف والاعراق والثقافة العراقية العريقة , والاسلام , والعروبة والعربية ؛ وهذا لا يعني خروج الاخرين عن دائرة الاصالة العراقية والهوية الوطنية ؛ فالصابئي واليهودي والمسيحي والايزيدي وغيرهم , هم عراقيون وان لم يعتنقوا الاسلام , كما فعلت الاغلبية الساحقة من اقوام بلاد الرافدين عندما اعتنقت الاسلام , وهؤلاء وغيرهم من سكان العراق القدامى ايضا هم عراقيون وان لم يتحدثوا باللغة العربية كما تحدث بها اغلبية العراقيين ومن مختلف الاعراق والاديان وقتذاك ؛ ولكن هذا لا يعني ان كل يهودي او مسيحي عراقي , ولا يعني ان كل كردي او فيلي او عجمي او تركي او تركماني او عربي عراقي ؛ فأكراد ايران وتركيا لا يمتون بأية صلة للعراق والعراقيين وكذلك اعراب نجد وسكان اليمن , والامر نفسه ينطبق على الايرانيين والاتراك والمسيحيين وغيرهم .
فمن غير المنطقي والمقبول ان يدعي الكردي التركي او العجمي الايراني او الهجين العثماني او الاثوريين والارمن او بعض القبائل العربية التي هاجرت الى العراق قبل قرن او اكثر من الزمن ؛ الهوية الوطنية والاصالة العراقية ؛ اذ ان هذه الادعاءات تزيف التاريخ وتخلط الاوراق وتقلب الامور رأسا على عقب … ؛ فلا يورث البقاء تحت سماء الوطن للغرباء دماء عراقية تجري في العروق , فالافريقي الذي أمضى عمرا بين الجبال الالمانية لا يصير جزءا من اسطورة سيغفريد , كما ان تراب الهند المقدس لا يذوب في ضباب التايمز لمجرد قرن او قرنين من القرب , ولو عاش الافريقي مئة عام في احضان الغابات التوتونية فلن تتحول بشرته السمراء الى ملحمة نورسية او بشرة شقراء ؛ ولن تصير انغام طبيعته جزءا من سمفونية فاغنر , والهندي الذي يرتمي ظله على ضفاف التايمز لن يمسي سلسل ارثر او حامل لواء السكسون ؛ فالاقامة الطويلة تحت سماء بلاد الرافدين التاريخية لا تعيد صياغة الجينات الوراثية او تغير الطباع المتأصلة لهذه الشخصية او تلك الفئة او هذه القومية , اذ ستبقى تلك الجماعات والفئات والشخصيات تحمل طباع اقوامها الحقيقية وبلادها الاصلية ؛ فالهندي القاطن في لندن لن تتحول ارواح اجداده الى أساطير الفايكنج ؛ نعم الجغرافيا تغير المكان ؛ لكنها لا تخلق الانتماء الاصيل ؛ فالثقافة الاصيلة والهوية الوطنية الحقيقية كالشجرة جذورها لا تقتلع بمجرد نقل الغصون منها الى تربة جديدة ؛ فالأفريقي في برلين يظل ابن الزنجبار حتى لو غنى بالنشيد الجرماني , والهندي في يوركشاير لن يصير ساكسونيا ولو حفظ ملحمة بيوولف عن ظهر قلب .
وكلما كانت هوية الجماعة واضحة المعالم وراسخة في الوجدان ؛ كلما كان افراد الجماعة اكثر قوة وعزة وثقة بالنفس و اعتزازا برموز ورجال الجماعة وثقافتها وامجادها التاريخية ؛ واما اذا كانت الهوية مغيبة او هلامية او مذبذبة … ؛ صار افراد الجماعة اكثر ضعفا وتمزقا وهشاشة وضياعا ؛ مما ينتج بالتالي اضطراب نمط الحياة وبؤس العيش ويدفع بتوالي المناخات السياسية السيئة والمتوترة وتكرار الماسي والازمات والانتكاسات الداخلية … ؛ وبما ان هوية الشعوب والجماعات والمكونات مرتبطة بالتاريخ ؛ لان التاريخ يقدم لنا المعلومات الحقيقية والمحتملة عن الجذور التي ينتمي اليها هذا الشعب او تلك الجماعة ؛ تحتم علينا دراسة تاريخ الأمة العراقية منذ نشأتها القديمة وظهور اقوامها وجماعاتها ومكوناتها في بلاد الرافدين وانبثاق الحضارات الانسانية والامبراطوريات الاولى ؛ وانتشارها وسيطرتها على الاراضي الشاسعة والبقاع البعيدة … ؛ ثم انكماشها رويدًا رويدًا ، وما استتبعه ذلك من سقوط المدن والدول والحضارات والامبراطوريات الرافدينية العظيمة وانتهائها ، واعادة صيرورة العظمة العراقية بأشكال وصور مختلفة ؛ ومنها الخلافة العلوية المجيدة والامبراطورية العباسية العراقية الكبيرة … ؛، وما آل إليه الأمر في النهاية من سيطرة الاحتلال المغولي ؛ ثم العثماني , ثم الانكليزي … ؛ ثم تمزيق جسد الامة العراقية والقضاء على هويتها التاريخية من خلال تسليط عملاء الحكومات الهجينة – من عام 1921 الى 2003 – على العراق ؛ ومن ثم الاحتلال الامريكي الغاشم وتدخله السافر في الشؤون الداخلية ونهبه للثروات الوطنية ؛ ولا زال الصراع مستمرا وقائما بين احرار وغيارى وابطال الاغلبية والامة العراقية مع الامريكان وغيرهم ؛ وبمختلف الطرق وشتى الوسائل ؛ وصولا للاستقلال التام والنهضة العراقية المرتقبة ؛ وتمكين شرفاء الامة العراقية من بناء العراق واسترداد كافة حقوقه التاريخية المسلوبة .
فالتاريخ يمثل الهوية لكل شعب وجماعة ، إذ حينما تختل المفاهيم وتختلط الاوراق لا يبقى غير التأريخ هوية ثابتة لشعب من الشعوب… ؛ والأمة التي تجهل تأريخها، أمة بلا هوية، ومن لا هوية له، يمكن ان يكون ضحية للآخرين ؛ ومطية يمتطيها الغرباء والاجانب والدخلاء ، ويسقط تحت تأثير التحديات المستمرة، وربما اختلت قناعاته وسلك مسلكاً يضر بمصالحه الوطنية ؛ بل ويصير خنجرا في خاصرة ابناء جلدته , وقلما منكوسا يقطر سما زعافا ضد بني قومه ؛ فالتاريخ مرآة الشعوب وحقل تجارب الأمم ، في صفحاته دروس وعبر للمتأملين، لأنه نتاج عقول أجيال كاملة واحداث و وقائع متسلسلة ، والأمة التي تهمل قراءة تاريخها لن تحسن قيادة حاضرها ولا صياغة مستقبلها…؛ وخير دليل على ذلك أن الأمم التي تفتقر إلى تاريخٍ عريق تحاول ابتكار ماضٍ مختَلَقٍ لتثبت وجودها بين الحضارات ؛ وحتى يكون لها ذكر بين الأمم .
عندما نستوعب حضاراتنا المجيدة وتاريخنا الوطني استيعابًا عميقًا، ونستنبط منه الدروس والعبر، نتمكن عندها من تقويم أخطاء الحاضر؛ فالحاضر امتدادٌ للتاريخ، وثمرةٌ لتطوره، والإنسان العراقي المعاصر هو نتاجٌ تراكمي لحضارات متعاقبة، وثقافات متنوعة، واحتلالات متكررة، وأزمات مستمرة، وهجرات متعددة… تفاعل معها إيجابًا تارةً وسلبًا تارةً أخرى.
وعليه لابد لنا من إصلاح المسار وتجديد النهج بما يتلاءم مع تحديات العصر ومتطلبات الحضارة الراهنة , والبحث عن نقاط القوة في تاريخنا وهويتنا وواقعنا وطاقاتنا البشرية، والسمو بذواتنا لنهضَةٍ تمكننا من توظيف هذه المقومات في تحقيق التنمية والتقدم والتطور والازدهار .
إن الفارق الجوهري بين الشعوب الحية وتلك الميتة أو المتعثرة يكمن في أن الأولى تستلهم ماضيها لتبني حاضرها وتخطِّط لمستقبلها، بينما الثانية تئن تحت وطأة أمجادٍ بائدة، منغمسةٍ في رثاء أطلال حضارتها الغابرة، عاجزةٍ عن استشراف المستقبل. إنها شعوبٌ راكدةٌ لا تنتج ولا تبتكر، لا تزرع ولا تصنع، لا تقرأ ولا تكتب، لا تخرج من دائرة الاستهلاك إلى الإبداع، ولا تنتج سوى شعاراتٍ طوباويةٍ وكلماتٍ جوفاء.
إن الأمم الواعية تبني مستقبلها بينما ما زلنا نحن ندور في حلقة مفرغة من الجمود، والفارق بيننا وبينها هو الإنتاج والعمل ؛ ولئلا نندثر، علينا أن ننهض؛ فاندثارنا خسارةٌ فادحة لنا ، لا على المستوى المادي فحسب ، بل على الصعيد المعنوي أيضًا، إذ سنُستَبعَد من دائرة الفاعلية الحضارية، لنصبح أداةً في يد من امتلكوا زمام العلم والقوة… ؛لأننا سنُطرد من دائرة الحياة ونعيش مستعبدين لأولئك الذين عملوا فاستعبدونا بعلمهم وقوتهم ومعرفتهم وإمكانياتهم المادية والمعنوية، كما يحدث الآن في العالم فهناك شعوب مهددة بالانقراض، كما هو الحال في إفريقيا المهددة بالانقراض بسبب المجاعات والحروب الأهلية والجهل والتخلف .
واليوم تواجه الأمة العراقية -في وسطها وجنوبها خاصة- غزوًا ثقافيًا ممنهجًا يستهدف هويتها التاريخية وقيمها الأصيلة، ويعمل على تشويه وعيها السياسي وتحويلها إلى صدى لخطابٍ معادٍ ؛ والحل الجذري في رأيي يكمن في مشروعٍ وطنيٍ جامعٍ يطهِّر المجتمع من العناصر الدخيلة التي ظلت خنجرًا مغروسًا في خاصرة الوطن، فكل الدعوات الطائفية والعنصرية والانفصالية والسلوكيات الاجرامية تصدر عن بيئاتٍ هجينةٍ تفتقر إلى الانتماء الأصيل… ؛ فالعراقي الاصيل مهما انتابته مشاعر الكراهية لا يقسو على أخيه العراقي ؛ نعم إن أبناء الوطن الحقيقيين يتعاملون بروح الأخوة، فالعراقيون الاصلاء الكرماء رحماء فيما بينهم … ؛ وأما الفئات والشخصيات والعوائل الدخيلة والهجينة فهم كالحجارة او اشد قسوة , فهم بؤرة للتوتر والعنف والاجرام والارهاب والفساد تهدد الامن الوطني والسلم الاهلي , ومن هنا تعمل الدول الحريصة على هويتها على سحب الجنسية من ذوي الأصول الأجنبية المعادين لنسيج الوطن، وتمنع تجنيس الغرباء حفاظًا على التماسك الاجتماعي.