اسم الكاتب : عبد الله حبه
” القسم الاول “
في بداية عقد الستينيات من القرن الماضي جاءت الى موسكو طالبة دراسات عليا قادمة من سيبريا لمناقشة رسالة الدكتوراه حول إبداع الكاتب الألماني توماس مان. وشاءت الأقدار أن تلتقي في مكتبة لينين رجلا أصبح من أبرز الروائيين ليس في العراق فقط، بل وفي العالم العربي. وقد أصبحت هذه الطالبة زوجة غائب طعمة فرمان.
د.اينجا بتروفنا فرمان
وكنت قد تعرفت على غائب في مكتب “شينخوا” في بغداد ومن ثم في جريدة “إتحاد الشعب ” لدى العمل في الصفحة الثقافية، ومن ثم إلتقيته في بكين في عام 1959،حينما دعانا نزار سليم الملحق الثقافي في السفارة العراقية آنذاك لتناول وجبة” بطة بكين “الشهيرة. لذا كان من الطبيعي أن أزوره لدى وصولي الى موسكو للدراسة، حيث جئت الى شقته الصغيرة بالقرب من مترو “الجامعة” برفقة الشاعر عبدالوهاب البياتي. علما أنه لم يلتق آنذاك إلا القلائل من المقيمين والدارسين بموسكو ومنهم الفنان محمود صبري والملحن فريد الله ويردي وشلة صغيرة من العراقيين كانت ترتاد مقهى فندق موسكو. وعلمت لاحقا سر إنجذابه إليهم حيث كان يستمع الى أحاديثهم ومشاكلهم وذكرياتهم عن العراق، والشئ الأهم للإستماع الى اللهجة العراقية.
*القول لأبي العلاء المعري.
وقد عانى غائب في البداية كثيرا من عمله كمترجم حيث كانت دار “التقدم ” تنشر الكتب عن الأحداث السوفيتية بالدرجة الأولى، ولم يكن فيها الكثير من الأدب.فوجدته مرة حائرا في ترجمة كتاب عن تربية الضأن في تركمانيا، إذ لم يكن يعرف المصطلحات التي كان يبحث عن معانيها في القواميس بلا فائدة.علاوة على أنه ترجم الكتاب من اللغة الإنكليزية، فهو لم يتعلم الروسية بصورة جيدة إلا بعد مرور حوالي عشر سنوات، ومارست دورا رئيسيا في ذلك قرينته الروسية إينجا.
حاولت مرارا إغراء غائب بالذهاب الى المسرح لكنه كان يرفض بحجة أنه لا يعرف اللغة التي يتكلم بها الممثلون. لكن حدث مرة أن أرتدى بدلة أنيقة وربطة عنق فسألته الى أين ذاهب، فأجابني أنا ذاهب الى المسرح مع ” آنسة روسية “. وروى لي آنذاك قصة تعارفه مع هذه الآنسة في مكتبة لينين حين ضل الطريق في قاعاتها الفسيحة فقدمت له المساعدة. وكانت خاتمة هذه العلاقة أن دعاني في 12 كانون الثاني/يناير عام 1962الى مكتب تسجيل عقود الزواج في شارع جريبويديف بصفة شاهد. وبدأ تعارفي مع إينجا التي عرفت الكثير عنها من أحاديث غائب لاحقا. وكانت الحياة الزوجية لغائب قد شهدت فترات مد وجزر كما في أية اسرة لزوجين ينتميان الى مجتمعات مختلفة.
لقد مارست إينجا بتروفنا دورا هاما في النشاط الإبداعي لغائب سواء في الترجمة أم التأليف. ولهذا لجأت إليها بعد وفاته أن تحدثني عن بعض مراحل هذا النشاط. علما إنها في البداية لم تهتم كثيرا بعمله ككاتب روائي وحتى إقتادتني مرة الى المطبخ في بيتهم بعيدا عن إذن زوجها وسألتني:” هل إن رواية ” النخلة والجيران ” تمثل فعلا حدثا هاما في الأدب العراقي”. وعندما إجبتها بالإيجاب سألتني عن أعماله الأخرى في هذا المجال.
وأبدت إينجا إهتماما كبيرا بكل ما يخص العراق والحركة الثقافية فيه والآثار القديمة وصارت تطالع مراجع كثيرة عن تاريخ العراق وأهله وأحبت العراقيين. كما بدأت بحكم عقليتها الأكاديمية في تكوين أرشيف عن غائب يتضمن مقالاته ومراسلاته وبعض الدراسات والتراجم. وقد حاولت بعد وفاة غائب الإتفاق معها بشأن جمع كل هذه المواد في كتاب لنشره. ووعدتني بالعمل في هذا الإتجاه، وفيما بعد في الذكرى العاشرة لوفاته أعطتني مجموعة من الأوراق ضمنتها توثيق سيرة حياته ورؤيته للأدب الروسي وترجماته. وقد كتبت بإسلوب الباحثين العلميين بحكم كونها تعمل بهذا المجال في معهد الفلسفة التابع لإكاديمية العلوم الروسية. وكنت أنتظر الحصول على مواد الأرشيف الأخرى ولاسيما مقالات ومراسلات غائب مع شخصيات ثقافية عربية وأجنبية. لكن تأجل ذلك. وكانت ترفض الحديث عن ذلك لاحقا كلما فاتحتها في الأمر وكانت غاضبة بسبب نشر أعمال غائب في العراق وإخراج فيلم تلفزيوني عن ” النخلة ” بدون أخذ موافقتها. وتولد لدي إنطباع بأنها تشك في وجود مصلحة شخصية لدى أصدقاء الكاتب في نشر أعماله عموما ومنها ترجمته لرواية الكسي تولستوي ” بطرس الأكبر” والتي أنجزها غائب ولم تنشر بعد وفاته وحتى الآن.
غائب طعمة فرمان وروايته الأولى
علما إن إينجا لا تتطرق في بحثها الى جانب مهم من حياة غائب وهو موقفه من الثقافة العراقية والغربة والمغتربين وكذلك مقالاته حول الأدب الروسي. فقال غائب في حديث أدلى به الى مجلة “المنار ” الصادرة عن نادي 14 تموز(آب/أغسطس 1989) في السويد: ” من الصعب الحكم أو ليست لدي المؤهلات للحكم على الثقافة العراقية في الداخل لأنني لم أعرفها إلا عبر مصادر قليلة تقع قي يدي بين حين وأخر “. بينما قال عن حياته في المنفى لدى سؤاله هل يعتبر المنفى شرا أم له فضائل:” يمكن (أن تكون له فضائل) لحد معين اذا كان النفي لسنة او سنتين او لثلاث. انا كنموذج كتبت رواياتي الثلاث الأولى في المنفى، وقد تكون أكثر إلتصاقا بواقع الحياة العراقية من غيرها،و لكن لا يمكن الحكم عامة على إن الغربة لها فضائل، فإذا كانت الغربة لفترة قصيرة او محدودة يمكن أن تكون لها فضائل ولكن عندما تكون غير محدودة ولا تعرف نهايتها..فإعتقد إن مساوئها أكثر من فضائلها”…”والغربة هي الغربة..ويبقي العراقي عراقيا وتبقى مشاكل الطفولة والصبا التي قضاها في العراق تطغي على مشاعره كلها.. يبقي الحنين للمطبخ العراقي والأغنية العراقية والفولكلور العراقي…».
لقد مضت عدة سنوات ولم يتحقق مشروع إصدار كتاب عن أرشيف غائب والدراسة التي كتبتها إينجا بتروفنا. ولهذا وجدت من واجبي نشر هذه الدراسة بصورة منفصلة، بعد أن فقدت الأمل في إقناع ورثة غائب فرمان في نشرها والموافقة على إعادة نشر بعض أعماله المترجمة ورفضوا طلبات دار” المدى ” ودار “الكلمة” (الإمارات العربية المتحدة) ودور نشر أخرى بهذا الشأن، من دون ذكر الإسباب.