اسم الكاتب : هيفاء زنكنة
عشرات الكتب تنشر سنويا عن العراق، معظمها لمؤلفين أمريكيين كانوا أو لا يزالون يخدمون في الجيش الأمريكي. شاركوا، لفترات متفاوتة، أما بشكل مباشر في الغزو والقتال أو بشكل غير مباشر في فرهود (نهب) «الإعمار وبناء المجتمع المدني». هذه «التجارب» يتم تقديمها إلى العالم، باللغة الإنجليزية، من منظور المحتل كمحرر يحمل عبء القيام بـ « مهمة أنسانية» أو مغامرة يرتبط أفرادها بصداقة غير عادية لايفهمها أهل البلد المحتل، تدفعهم إلى مقاتلة «متمردين وإرهابيين»، أو كدرس عسكري في محاربة التمرد، يستحق التدريس لأجيال مقبلة من قوات التوسع الامبريالي.
ما يستدعي الملاحظة عند إجراء إحصائية بسيطة لعدد الكتب المنشورة هو كثرة الكتب المنشورة منذ الغزو عام 2003، وحتى اليوم، مقابل ندرة أو انعدام النشر عن المرحلة السابقة للغزو والتي هيأت الأرضية لأكبر عدوان عسكري تشنه أمريكا، منذ اندحارها في فيتنام في سبعينيات القرن الماضي. ينطبق الأمر على النشر عربيا وعراقيا. حيث لا يتجاوز عدد الكتب المنشورة، بأقلام عراقيين مستقلين، عن الفترة التالية للهجوم الثلاثيني الذي أعقب احتلال الكويت وإخضاع العراق للحصار القاتل ( 1991 / 2003)، أصابع اليد الواحدة. لعل أقربها إلى نفوس القراء، عابرا حدود العراق إلى العالم، عمل الفنانة الراحلة نهى الراضي «يوميات بغداد»، الذي بات توثيقا، يوميا، إنسانيا، لجريمة شاملة ضد شعب، جريمة يراد نسيانها وسترها بحجاب فولاذي، خشية المساءلة ذات يوم.
هذا الحجاب يتم اختراقه بين الحين والآخر، بواسطة أصبع ديناميت يسمى كتابا. فالكتب، وهي المصنوعة من ورق، قدرة هائلة على كسر القيود، مهما كانت مادة صنعها، وتزداد قوتها متجاوزة حدود المكان والزمان، إذا ما كانت كتبا فكرية، إبداعية، أدبية وفنية، لمؤلفين تفشل الأيديولوجيا في قولبتهم، لتبقى كلماتهم، وألوانهم، حرة طليقة، مثل البلابل التي لا يمكن تدجينها. والألوان هنا بمعناها العادي البصري وليس المجازي. في روايته «درس الماني»، المنشورة في 1968، يتناول المؤلف الألماني زيجفريد ليز، خطر اللون على النظام النازي. بطل الرواية شرطي يسكن في قرية المانية نائية، همه الوحيد تأدية واجبه حتى حين يصله أمر بمراقبة ومنع صديق طفولته الرسام من الرسم. لا يفهم الشرطي سبب المنع وما هو مصدر الخطر، فصديقه لا يرسم غير اللوحات التجريدية. يستفسر من صديقه الفنان قبل إلقاء القبض عليه. «إنها الألوان… إنها الألوان»، يجيبه الفنان.
عن قوة اللون ومسيرة حياة حافلة بالإبداع الفني والحب، أقرأ أحد الكتب القليلة، القادرة على إضاءة حقبة زمنية عن العراق يريد البعض ركنها في زاوية مظلمة، لا تذكر. «دفاتر فنان».
يتميز الكتاب بأنه نتاج حياة فريق كامل مكون من أثنين يجمعهما ( استخدم الفعل المضارع متعمدة) حب دائم يتبدى إبداعا عراقيا صادقا فنا وشعرا، هما الفنان الراحل رافع الناصري ورفيقة عمره الشاعرة والناقدة الفنية مي مظفر التي أشرفت مع صونيا مشجر على إعداد الكتاب، وكتابة مقدمته ونشره، باللغة الانجليزية، بطباعة فاخرة تليق بحرص رافع على قيمة كل تدرج لوني يمنحه الحياة. في مقدمة الكتاب، تبقى مي مظفر أمينة لفكرة التواصل الفني التي عالجتها في كتابها «الفن الحديث في العراق : التواصل والتمايز». هذه المرة، في سردية رحلة عمر رافع الناصري، بمحطاتها المختلفة، و»دفاتره» التي تضمنت يومياته اللونية والفكرية، على مدى عقود. رحلة بدأت واستمرت، بالنسبة إليهما معا، على أرض صلبة «ترسبت عليها سلسلة من الحضارات العظيمة… يبدو أن كل هذه الحضارات قد تجذرت في وجدان الفنان العراقي، وحفرت عميقا في تاريخ ذاكرته البصرية. كما أعانته على اتخاذ موقف فكري واضح إزاء الفن ووظائفه المتعددة»، كما وصفها رافع في كتابه «آفاق ومرايا مقالات في الفن التشكيلي».
عن الدفاتر يقول رافع: «عام 1989 اقتنيت من بكين مجموعة من الدفاتر المطوية بقياس 625 X 35 سنتيمترا، تقريبا. وبعد عودتي إلى بغداد رسمت بعض هذه المطويات بطريقة الرسم بالأصابع، وهي طريقة صينية للرسم بالحبر، وقد استخدمت الاكريليك بدلا من الحبر. وكل دفتر مكرس لمكان أحببته ومنها دفتر تكريت ودفتر بكين ودفتر لشبونة ودفتر أصيلة».
على مدى السنوات كثرت الدفاتر ـ المطويات المشابهة للمنحوتات التي يتوجب على المشاهد الدوران حولها لرؤيتها كاملة. تضمنت المطويات أعمالا للاحتفاء بالشعر والفن من المتنبي والواسطي إلى الجواهري ومحمود درويش وإتيل عدنان ومي مظفر. ويبقى لبغداد الشعر والفن، دفترها. « في عام 1991، رسمت أثناء الحرب دفترا بالحجم نفسه وهو عبارة عن أكف رافضة أو محتجة باللونين الأسود والبني وهي طبعا أكفي وأصابعي التي كنت أغمسها باللون وأضرب بها الورق بحركة سريعة وانفعالية». مع الألوان الغاضبة، المشحونة بعواطف جعلته لا يعرف النوم، ظهرت كلمات. نكاد نسمعها. إنها صوت الفنان صارخا وسط ذهول الأحياء. مع الكف الأسود والأصابع المنفصلة عن الكف بلونها الأحمر، نرى: « لا.. إنها لحرب قذرة». مع انفجار الأكف باللونين الأسود والرمادي وتطاير الألوان الحمراء، نرى: «بغداد تئن من جراحها». ويمتزج اللون البنفسجي بحافة سوداء أو يلطخه كما تأثير استخدام اليورانيوم المنضب، فنرى: « بغداد تعيش الهول والرعب والفزع والخوف والغضب والحقد… منذ الساعة الحادية عشرة مساء وحتى الرابعة فجرا. خمس ساعات من القصف والحديد والبارود بين أصوات مرعبة لطائرات وصواريخ».
وتضمن يوم 2 مارس/ آذار، في دفتر بغداد، الرقم 43 مكتوبا بخط طفولي كبير، بحبر يكاد ينفذ، وأربع نقاط سود شبه مصطفة على فضاء فارغ. في الزاوية اليمنى قطرة حبر أحمر بجانبها الرقم: 91.
نقرأ: « ثلاثة وأربعون يوما من الحرب… الحرب… ليست كالأولى ولا الثانية.. بل إنها الحرب الفريدة. هي ليست الثالثة ولكنها…الحرب ( THE WAR).
انتهت… وبدأ الأسوأ والأظلم». ما ندركه جيدا، الآن، أن 1991 هو العام الذي استهل الخراب الذي يعيش العراق في ظله اليوم. فهل هو الفنان يرى أبعد مما يراه الآخرون؟