أبريل 14, 2025
B72314F2-F50E-4FC2-993C-8B6D98EFB5EE

رياض الفرطوسي

في عالمٍ لم تعد الحروب تُخاض فيه بالدبابات بقدر ما تُدار من خلف الشاشات، وفي زمنٍ أصبحت فيه الفوضى والتضليل الإعلامي أدوات أكثر فتكاً من الصواريخ، تجد دول مثل لبنان، سوريا، والعراق نفسها وسط معركة غير تقليدية تُعرف بـ”حروب الجيل الخامس”. إنها حروبٌ لا تستهدف الجيوش فحسب، بل تضرب المجتمعات في عمقها الاجتماعي والاقتصادي، وتعيد تشكيل وعي الشعوب وفق أجندات خفية، حيث يصبح العدو غير مرئي، والهزيمة تأتي من الداخل قبل أن تفرضها أي قوة خارجية.

لعبة الأمم: من سايكس-بيكو إلى حروب الوعي

لم تكن مشاريع تقسيم العالم العربي وليدة اللحظة، بل امتداداً لمخططات استعمارية قديمة صاغها الغرب للحفاظ على تفوقه، بدءاً من اتفاقية سايكس-بيكو عام 1916، التي قسمت المنطقة العربية بين بريطانيا وفرنسا، وصولًا إلى مشروع كامبل-بانرمان (Campbell-Bannerman Report) في أوائل القرن العشرين، الذي اعتبر أن بقاء المنطقة العربية متحدة يشكل تهديداً للغرب، ولذلك دعا إلى إبقائها في حالة ضعف وانقسام دائم.

أما في العقود الأخيرة، فقد برزت مخططات جديدة تعيد إحياء الفكرة ذاتها، وأشهرها رؤية برنارد لويس، المستشرق البريطاني-الأمريكي، الذي اقترح تفكيك الدول العربية والإسلامية إلى كيانات صغيرة قائمة على أسس طائفية وعرقية، لضمان استمرار سيطرة القوى الغربية وإضعاف أي تهديد محتمل لها.

لبنان: مختبر الفوضى الدائمة

لبنان، هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير بتعقيداته الطائفية والسياسية، بات نموذجاً مثالياً لحروب الجيل الخامس. من انهيار اقتصادي ممنهج، إلى تحريض إعلامي متواصل، وصولًا إلى فراغ سياسي يفتح الباب أمام التدخلات الخارجية، كل ذلك يُدار وفق استراتيجية تجعل اللبنانيين غارقين في أزماتهم، غير قادرين على رؤية الصورة الكبرى.

ليس من قبيل المصادفة أن يعيش لبنان واحدة من أسوأ الأزمات المالية في تاريخه، بالتزامن مع ضغوط سياسية تُمارَس عليه لفرض خيارات تخدم مصالح الخارج أكثر مما تخدم مصلحة شعبه. والمفارقة أن اللبنانيين، بدلاً من التكاتف لمواجهة هذه الحرب الخفية، يجدون أنفسهم أسرى لانقساماتهم الداخلية، وهو بالضبط ما تريده الجهات التي تحرك اللعبة.

سوريا: من كامبل إلى برنارد لويس – تفتيت الدولة باسم الحرية

سوريا اليوم ليست مجرد ساحة صراع إقليمي، بل مختبر مفتوح لحروب الجيل الخامس التي تهدف إلى تفتيتها من الداخل. فمنذ اندلاع الأزمة عام 2011، تحولت البلاد من دولة ذات مركزية قوية إلى مناطق نفوذ متعددة، تتصارع فيها قوى داخلية وخارجية، كلٌّ وفق أجندته الخاصة.

تعود جذور هذا التفتيت إلى مشروع كامبل، الذي رأى أن وحدة العالم العربي والإسلامي تشكل خطراً على الحضارة الغربية، ولذلك أوصى بدعم الأقليات الدينية والإثنية، وتشجيع النزاعات الداخلية لضمان بقاء المنطقة في حالة فوضى دائمة. هذا ما نراه اليوم في سوريا من خلال دعم جماعات متطرفة وفصائل متناحرة، مما أدى إلى ظهور مناطق نفوذ متباينة: كردية بدعم أمريكي، وأخرى تحت السيطرة التركية أو الإيرانية، وأجزاء تابعة للحكومة المركزية.

أما برنارد لويس، فقد كرس هذه الرؤية بترويج فكرة “تفكيك العالم الإسلامي”، حيث دعا إلى تحويل ( الدول الإسلامية الـ 56 إلى 90 كياناً صغيراً ) قائماً على الهويات الطائفية والعرقية، لضمان عدم تشكل أي قوة عربية أو إسلامية تهدد المصالح الغربية والإسرائيلية.

في سوريا، تجلى هذا المخطط بوضوح، حيث غذّى التدخل الخارجي النزعات الطائفية، ما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وتحويل الثورة من مطالب شعبية إلى صراع دموي يخدم أجندات خارجية. ومع استمرار الحرب، تحوّلت أدوات المواجهة من المدافع إلى العقوبات الاقتصادية، ومن المعارك الميدانية إلى التضليل الإعلامي، بحيث يتم تشكيل وعي جديد يجعل فكرة “التقسيم” أمراً مقبولًا، أو حتى مطلوباً لدى بعض الفئات التي أُرهقت بالحرب والحصار. وهكذا، تحولت سوريا من دولة موحدة إلى فسيفساء متصارعة، تخدم أجندات غربية وإسرائيلية، في تكرار دقيق لمشاريع كامبل ولويس التي وضعت حجر الأساس لحروب اليوم.

العراق:

لم يخرج العراق من دائرة الاستهداف الأمني والاقتصادي، حيث تُستخدم أدوات سياسية واقتصادية لإبقائه في حالة من عدم الاستقرار. فمحاولات تأجيج الفتن والصراعات بين مراكز القوى ليست عشوائية، بل تهدف إلى ضمان ألا يعود العراق لاعباً إقليمياً مؤثراً. فأي دولة تمتلك هذا الكم من الموارد البشرية والثروات، يجب أن تبقى، وفق منظور القوى الاستعمارية، غارقة في الصراعات والتنازعات، حتى لو كان ذلك عبر وكلاء محليين ينفذون المهمة نيابة عن القوى الخارجية.

إسرائيل: المستفيد الأول من الفوضى

في قلب كل هذه الأزمات، تبقى إسرائيل المستفيد الأكبر، فهي لا تحتاج إلى شنّ حروبٍ مباشرة طالما أن الدول العربية تُستنزف من الداخل. فكل ضعف في سوريا، وكل انقسام في العراق، وكل انهيار في لبنان، هو مكسب استراتيجي لها، حيث يضمن أنها ستبقى القوة الوحيدة المستقرة في منطقة تغرق في الفوضى.

بل إن الحديث عن دخول إسرائيل إلى دمشق ليس مجرد افتراضات نظرية، بل سيناريو يُدرس بجدية في بعض الدوائر الاستراتيجية، خصوصاً إذا استمر الوضع السوري في حالة من الهشاشة السياسية والعسكرية. فالاحتلال لم يعد بحاجة إلى جيوش جرّارة، ما دام يمكن تحقيق الأهداف نفسها عبر أدوات أخرى.

كيف نواجه هذه الحروب؟

إذا كانت حروب الجيل الخامس تُراهن على تغييب الوعي، فإن المواجهة تبدأ من إعادة الوعي إلى الشعوب. إن كشف هذه المخططات، ورفض الانجرار خلف الحملات الإعلامية المُضللة، وتعزيز التكاتف الداخلي، كلها خطوات ضرورية لمواجهة هذا الاستهداف المنهجي.

فالمعركة اليوم ليست فقط معركة عسكرية، بل هي حرب على العقول، على الاقتصاد، وعلى الهوية. ومن يدرك ذلك مبكراً، سيكون قادراً على كسر الحلقة المفرغة التي أُدخلت فيها دول المنطقة منذ عقود.

في النهاية، لا تُهزم الأمم بالمدافع فقط، بل يمكن أن تنهار عندما تفقد ثقتها بنفسها، وتُسلّم مصيرها لأعدائها دون مقاومة. والخيار اليوم بيد الشعوب: إما أن تبقى في حالة التيه، أو أن تستعيد زمام المبادرة قبل فوات الأوان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *