فاضل حسن شريف
جاء في كتاب التفسیر الموضوعی و التفسیر التجزیئی فی القرآن الكریم للسيد محمد باقر الصدر: اعوذ باللّه من الشیطان الرجیم بسم اللّه الرحمن الرحیم و أفضل الصلوات علی سید الخلق محمد و علی آله الطیبین الطاهرین. ربنا فقهنا في كتابك واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك و أزح عن بصائرنا غشاوة الدنیا و بریقها الكاذب لكي تملأ نفوسنا بهداك و اجعلنا من حملة قرآنك و سنة نبيك و السائرین علی طریق طاعتك. ندعو بلغة القرآن و بلسان القرآن: “رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّك عَلی كُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ” (التحريم 8)، “رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِینا أَوْ أَخْطَأْنا، رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَیْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَی الَّذِینَ مِنْ قَبْلِنا، رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا، أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَی الْقَوْمِ الْكافِرِینَ” (البقرة 286) “رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِینَ سَبَقُونا بِالْإِیمانِ، وَ لا تَجْعَلْ فِی قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِینَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِیمٌ” (الحشر 10). لا شك فی تنوع التفسیر و اختلاف مذاهبه و تعدد مدارسه و التباین فی كثیر من الاحیان بین اهتماماته و اتجاهاته: فهناك التفسیر الذی یهتم بالجانب اللفظی و الادبی و البلاغی من النص القرآنی. و هناك التفسیر الذی یهتم بجانب المحتوی و المعنی و المضمون. و هناك التفسیر الذی یركز علی الحدیث و یفسر النص القرآنی بالمأثور عنهم علیهم السلام أو بالمأثور عن الصحابة و التابعین. وهناك التفسير الذي یعتلج العقل أيضا كأداة من عمق التفسیر و فهم كتاب اللّه سبحانه و تعالی. و هناك التفسیر المتحيز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة، يحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها. و هناك التفسیر غیر المتحیز الذی یحاول أن یستنطق القرآن نفسه، و یطبق الرأی علی القرآن لا القرآن علی الرأی الی غیر ذلك من الاتجاهات المختلفة في التفسیر الاسلامی. الا ان الذي يهمنا بصورة خاصة و نحن علی أبواب هذه الدراسة القرآنیة، أن نركز علی ابراز اتجاهین رئیسیین لحركة التفسیر فی الفكر الاسلامی و نطلق على أحدهما اسم (الاتجاه التجزیئی فی التفسیر) و علی الآخر اسم (الاتجاه التوحيدي أو الموضوعی فی التفسیر) و نعنی بالاتجاه التجزیئی المنهج الذی یتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقا لتسلسل تدوین الآيات في المصحف الشریف.
وعن رسالة السماء يقول الشهيد السيد الصدر قدس سره: هل قال بأن رسالة السماء خسرت المعركة بعد أن كانت ربحت المعركة؟ لا لأن رسالة السماء فوق مقاييس النصر و الهزیمة بالمعنی المادی، رسالة السماء لا تهزم، و لن تهزم أبدا، و لكن الذي یهزم هو الانسان، الانسان حتی ولو كان هذا الإنسان مجسدا لرسالة السماء، لأن هذا الانسان تتحكم فيه سنن التاریخ، ماذا قال القرآن؟ قال “وَ تِلْكَ الْأَیَّامُ نُداوِلُها بَیْنَ النَّاسِ” (آل عمران 140). هنا أخذ یتكلم عنهم بوصفهم أناسا قال بأن هذه القضیة هی فی الحقیقة ترتبط بسنن التاریخ، المسلمون انتصروا فی بدر حینما كانت الشروط الموضوعية للنصر بحسب منطق سنن التاریخ تفرض أن ینتصروا، و خسروا المعركة فی أحد حينما كانت الشروط الموضوعية في معركة أحد تفرض علیهم أن یخسروا المعركة. “إِنْ یَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَیَّامُ نُداوِلُها بَیْنَ النَّاسِ” (آل عمران 140) لا تتخیلوا أن النصر حق إلهي لكم، و إنما النصر حق طبیعی لكم بقدر ما یمكن أن توفروا الشروط الموضوعیة لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ التی وضعها اللّه سبحانه و تعالی كونیا لا تشریعیا، و حیث انکم في غزوة أحد لم تتوفر لدیكم هذه الشروط و لهذا خسرتم المعركة. فالكلام هنا كلام مع بشر، مع عملیة بشریة لا مع رسالة ربانية. بلّ یذهب القرآن الی اكثر من ذلك، یهدد هذه الجماعة البشریة التی كانت انظف و اطهر جماعة علی مسرح التاریخ، یهددهم بأنهم إذا لم یقوموا بدورهم التاریخی، و إذا لم یكونوا علی مستوی مسئولیة رسالة السماء فإن هذا لا یعنی ان تتعطل رسالة السماء، و لا یعنی أن تسكت سنن التاریخ عنهم بل انهم سوف یستبدلون، سنن التاریخ سوف تعزلهم و سوف تأتی بأمم أخری قد تهیأت لها الظروف الموضوعیة الأفضل لكی تلعب هذا الدور، لكی تكون شهیدة علی الناس إذا لم تتهیأ لهذه الأمة الظروف الموضوعیة لهذه الشهادة إِلَّا تَنْفِرُوا یُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِیماً، وَ یَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَیْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَیْئاً وَ اللَّهُ عَلی كُلِّ شَیْءٍ قَدِیرٌ” (التوبة 39) “یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا مَنْ یَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِینِهِ فَسَوْفَ یَأْتِی اللَّهُ بِقَوْمٍ یُحِبُّهُمْ وَ یُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَی الْكافِرِینَ یُجاهِدُونَ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لا یَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِیمٌ” (المائدة 54) إذن فالقرآن الكريم إنما یتحدث مع الجانب الثاني من عملیة التغییر، یتحدث مع البشر فی ضعفه و قوته، فی استقامته و انحرافه، في توفر الشروط الموضوعية له و عدم توفرها. من هنا یظهر بان البحث فی سنن التاریخ مرتبط ارتباطا عضویا شدیدا بكتاب اللّه بوصفه كتاب هدی، بوصفه إخراج للناس من الظلمات إلى النور لأن الجانب العملی من هذه العملیة، الجانب البشری و التطبیقی من جانب هذه العملیة جانب يخضع لسنن التاریخ، فلا بد اذن ان نستلهم، و لا بد اذن ان یكون للقرآن الكریم تصورات و عطاءات فی هذا المجال لتكوین إطار عام للنظرة القرآنیة و الاسلامیة عن سنن التاریخ.
وعن الفكرة القرآنیة عن سنن التاريخ يقول آية الله السيد محمد باقر الصدر: قلنا أن هذه الفكرة القرآنیة عن سنن التاریخ، بلورت فی عدد کثیر من الآیات باشكال مختلفة و ألسنة متعددة فی بعض هذه الآیات أعطيت الفكرة بصیغتها الكلیة، و فی بعض الآیات اعطیت علی مستوی التطبیق علی مصادیق و نماذج، فی بعض الآيات وقع الحث علی الاستقراء و علی الفحص الاستقرائي للشواهد التاریخیة، من اجل الوصول الى السنة التاریخیة. و هناك عدد كثير من الآيات الكريمة استعرضت هذه الفكرة بشكل و آخر، وسوف نقرأ جملة من هذه الآیات الكریمة، و بعض هذه الآيات التي سوف نستعرضها واضح الدلالة على المقصود، و البعض الآخر له نحو دلالة بشكل و آخر أو یكون معززا و مؤیدا للروح العامة لهذه الفكرة القرآنیة. “قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۗ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” (يونس 49) فمن الآيات الكريمة التي أعطيت فیها الفكرة الكلیة، فكرة أن التاريخ له سنن و له ضوابط ما یلی: “لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا یَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا یَسْتَقْدِمُونَ” (الأعراف 34). نلاحظ فی هاتین الآیتین الكریمتین، أن الأجل أضیف إلی الأمة، إلى الوجود المجموعی للناس، لا إلى هذا الفرد بالذات أو هذا الفرد بالذات، إذن هناك وراء الأجل المحدود المحتوم لكل إنسان بوصفه الفردی، هناك أجل آخر و میقات آخر للوجود الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، للأمة بوصفها مجتمعا ینشئ ما بين أفراده العلاقات والصلات القائمة علی أساس مجموعة من الأفكار والمبادئ المسندة بمجموعة من القوی و القابلیات، هذا المجتمع الذی یعبر عنه القرآن الكریم بالأمة، هذا له أجل، له موت، له حیاة، له حركة، كما أن الفرد یتحرك فيكون حیا ثم يموت كذلك الأمة تكون حیة ثم تموت، و كما أن موت الفرد یخضع لأجل و لقانون و لناموس كذلك الأمم ایضا لها آجالها المضبوطة. و هناك نوامیس تحدد لكل أمة هذا الأجل، إذن هاتان الآیتان الكریمتان فیهما عطاء واضح للفكرة الكلیة، فكرة أن التاریخ له سنن تتحكم به وراء السنن الشخصیة التی تتحكم فی الأفراد، بهویاتهم الشخصیة: “وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْیَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ * ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما یَسْتَأْخِرُونَ” (الحجر 4-5). “ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما یَسْتَأْخِرُونَ” (المؤمنون 43). أَ وَ لَمْ یَنْظُرُوا فِی مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَیْءٍ وَ أَنْ عَسی أَنْ یَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَیِّ حَدِیثٍ بَعْدَهُ یُؤْمِنُونَ” (الأعراف 185). ظاهرة الآية الكريمة أن الأجل الذی یترقب أن یكون قریبا أو یهدد هؤلاء بأن یكون قریبا، هو الأجل الجماعي لا الأجل الفردی، لأن قوما بمجموعهم لا يموتون عادة في وقت واحد وإنما الجماعة بوجودها المعنوی الكلی هو الذي یمكن ان یكون قد اقترب أجله.