الشخصية المُتدنّية

اسلام سالم

الشخصية المُتدنّية

                           تجلّيات الشرّ الهادئ في الحياة اليومية

بقلم د. إسلام سالم

ثمّة نوع من النفوس لا يُمارس الشرّ كفعل استثنائي، بل يعيشه كحالة وجود.

 إنه لا يرتكب القبح بقرار، بل بتلقائية؛ لا عن صراع بين الخير والشر، بل عن غيابٍ كامل لهذا الصراع

. هذه هي الشخصية المتدنّية هي ذلك  الكائن الذي وُلد ليكون أدنى، وظل وفيًا لانحداره دون أن يشعر بتناقض مع ذاته.

ويعد  أول ما يُميّز هذه الشخصية هو غياب الوعي الأخلاقي. لا لأنها تنكر القيم، بل لأنها ببساطة لم تدخل أفقها قط.

 هو لا يدرك  أنه مُخادع، لأنه لم يتعلم يومًا أن الأمانة فضيلة.

 لم يختر الكذب، بل لم ير في الصدق معنى أصيلًا يستحق الالتزام.

 إنه، بتعبير سارتر، (( كائن يعيش في سوء نية))، لأنه يهرب من مواجهة ذاته بحقائقها، ويُعيد تشكيل الواقع ليبرّر به سقوطه.

وهو أيضًا لا يُعاتَب. فكيف تُعاتب من لم يرتقِ إلى مقام الشعور بالذنب؟ فالعتاب لا يُثمر إلا عند من لا يزال ضميره حيًّا بما يكفي ليشعر بوخزة الألم الأخلاقي.

أما هذا الكائن، فقد استراح من ثقل الضمير منذ زمن.

 لا تأنيب،

لا مراجعة،

لا ندم. وهذا ما يجعله مرتاحًا في حياته، منتشيًا بهدوئه، قادرًا على غرس أنيابه فيك وهو يبتسم بلطف.

اما عن ثقافة الاعتراف عنده فلا تأتي من تطهير حقيقي، بل من فائض داخلي يُفرغه ليواصل الانحدار بعده براحة ضمير.

هي توبة متخيلة، بلا أثر ولا تبعات. وبهذا يتحول الاعتراف إلى طقس نرجسي، لا أخلاقي. إنه يقول: (( أنا سيء ))، لا لكي يُصلح نفسه، بل ليُشعرك بالذنب لأنك قسوْت عليه!

وهو لا يكتفي بممارسة القبح، بل يحرص على الإحاطة بالأبرياء؛

أولئك الذين لم تُخدش رؤيتهم للعالم بعد. وجودهم يُعزز شعوره الكاذب بأنه بخير، لأنه يختبئ خلف طيبتهم.

 وهنا يظهر بعد خطير من المسألة: أن الشخصية المتدنية لا تنحدر وحدها، بل تجرّ معها من لا يعرفون أنها منحدرة.

أما أخطر تمثلات هذه الشخصية، فهو ((القناع المُحب))؛ ذاك الذي لا يُظهر وساخته من البداية، بل يُراوغ، ويُقنعك أنه طيّب، دافئ، نقيّ القلب.

لكنه في الحقيقة يُمثّل أقسى درجات التدني: من يخدعك بمحبته، لا لشيء، إلا ليؤجل اكتشافك أنه لا يحب إلا ذاته.

هذه الشخصية ليست فقط أزمة أخلاق، بل هي أزمة وجود. تمثل حالة ((الشرّ العادي))

 كما وصفته حنة آرندت؛ حيث قالت ان الشر الذي لا ينبع من دافع إجرامي واعٍ،

بل من الغفلة، من السطحية، من غياب التفكير الأخلاقي. هو شرّ يمشي بيننا، يلبس ملابسنا، يبتسم لنا، وربما يُحبّنا. لكنه لا يرى في الحب إلا ملعبًا إضافيًا للأنانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *