رياض سعد
بعد عام 1914، ومع الاحتلال البريطاني للعراق، تجلّى الدور الاستخباري بصورة صريحة… ؛ اذ كانت المخابرات البريطانية (MI6) تدير العراق فعليًا، عبر ضباط سياسيين مثل جيرترود بيل وبيرسي كوكس، الذين لم يكونوا مجرد دبلوماسيين بل مهندسي هندسة اجتماعية وسياسية كاملة.
عملت المخابرات البريطانية على “تصنيع” هوية سياسية جديدة للعراق، عبر تكوين نخبة اجنبية وهجينة موالية لها، وتأسيس نظام ملكي هش يقوده الملك الغريب فيصل الأول تحت الوصاية… ؛ كما أنشأت ما يُعرف بـ”الجيش العراقي”، ليس كقوة وطنية مستقلة، بل كأداة لحماية المصالح البريطانية وكبح أي تمرد داخلي.
صناعة النخب والتلاعب بالانقسامات
لم تكن المخابرات البريطانية بحاجة لاحتلال مباشر دائم طالما كانت تسيطر على نخب القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والديني … ؛ فخلف كل زعيم عشيرة، ووجهاء المدن، وممثلي الطوائف، كانت هناك يد بريطانية تموّل أو تلوّح بالعصا والتهديدات أو تقايض بالمناصب والامتيازات .
كما دعمت وجود نخب “علمانية” ليبرالية في الظاهر لكنها مرتبطة بسفارة لندن في العمق، واستخدمتهم لتكريس الطابع المديني على حساب الريف، والسنّي على حساب الشيعي، والدخيل على حساب الاصيل , والطبقي على حساب الاغلبية المعدمة ، تمهيدًا لإدامة الانقسام الداخلي الذي يُسهّل التحكم بالبلاد.
المخابرات في زمن الانقلابات
حتى بعد خروج القوات البريطانية عام 1958، لم تغادر المخابرات البريطانية الساحة… ؛ بل كانت حاضرة عبر دعم أو إسقاط الانقلابات، والتلاعب بالقوى اليسارية والبعثية والناصرية.
ففي انقلاب 1963 مثلاً، أُثير الكثير من الشكوك حول صلة المخابرات البريطانية والأمريكية في تصفية قادة الحزب الشيوعي، وتسهيل صعود البعثيين والحرس القومي سيء الصيت … ؛ لقد تحوّل العراق آنذاك إلى رقعة شطرنج باردة، تتحرك فيها القطع وفق مصالح لندن وواشنطن.
حقبة ما بعد 2003: بعث الروح القديمة
حين سقط نظام المجرم صدام عام 2003، عاد البريطانيون هذه المرة لا كقوة استعمارية، بل كـ”حلفاء في تحرير العراق”… ؛ لكن الحقيقة أنهم عادوا لممارسة اللعبة ذاتها:
تجنيد نخب جديدة، دعم شخصيات طائفية، التلاعب بالسلطة القضائية، والإشراف غير المباشر على كتابة الدستور، عبر مستشارين ومراكز بحوث ظاهرها مدني وباطنها استخباري.
وقد كشفت وثائق ويكيليكس وأرشيف المخابرات البريطانية عن أدوار عميقة لعناصر استخبارية بريطانية في إعادة تشكيل المشهد العراقي، خصوصًا في الجنوب والبصرة والمناطق النفطية.
الخلاصة: دولة تدار من خلف الستار
إن تاريخ المخابرات البريطانية في العراق ليس مجرد سردية عن الماضي، بل هو دليل على أن العراق كان – وما يزال – ساحة لنفوذ خفي، يُدار من خلف الستار، حيث تتبدل الأسماء والواجهات، لكن “اليد التي تكتب السيناريو” لا تتغير.
إن فهم هذا التاريخ ضرورة وطنية لتحصين القرار العراقي من التبعية، ولتفكيك البُنى التي زرعها الاستعمار الاستخباري منذ عقود وما زالت تؤتي أُكُلها حتى اليوم.