الجناس التام لكلمة بمعنيين (ح 1) (برقه يذهب بالأبصار، لعبرة لأولي الأبصار)‎

فاضل حسن شريف

جاء في موقع أون لاين عن الجناس التام في القرآن الكريم للكاتب محمد أحمد الغمراوي: ذكر صاحب الإتقان وتابعه صاحب الوسيلة الأدبية: الجناس التام: قوله تعالى من سورة الروم: 55 ” ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا إلا ساعة” ومن سورة النور 43 – 44 “يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار * يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار”. وقولهم هذا إن صدق فليس بذي خطر، فليس يهم أن يكون في القرآن جناس تام أو لا يكون، فما الجناس التام إلا نوع ضئيل من الجناس، وما الجناس إلا نوع واحد من المحاسن البديعية، وما هذه إلا باب من الأبواب التي تتحقق بها موسيقى التعبير في فصيح الكلام، وهي الموسيقى التي بلغت كمالها وتمامها في القرآن. لكن القضية من حيث هي جديرة بالتمحيص لاتصالها بالقرآن الكريم من ناحية، ولبعد فيها من ناحية أخرى فمن البعيد أن لا يحوي القرآن على سعته إلا مثالين اثنين من الجناس التام. إن المحاسن اللفظية وجدت في فصيح كلام العرب وفي القرآن العزيز قبل أن تسمى بأسمائها في علم البيان أو البديع. فالعلم يستقري الموجود ويصنفه ويضع لأصنافه الأسماء. وما أظن العلمين أحاطا بكل الموجود من أصناف تلك المحاسن. وموضع اللطف في الجناس التام إذا لم يفسده التكلف أنه يلفت الذهن إلى معنيين مختلفين بلفظ واحد يذكر بمعنى ويتكرر بمعنى.فهو من حيث المعنى كلمتان مختلفتان، ومن حيث المنطق كلمة واحدة. ومن الواضح أن السليم العفو منه لا يكون في الغالب إلا في المشترك من الألفاظ. وليس لما اشترطه بعضهم في الجناس التام من ألا يكون أحد المعنيين مجازياً محل ولا حكمة ما دام موضع الحسن هو اتفاق اللفظ مع اختلاف المعنى؛ فاللفتة الذهنية هي سواء أكان المعنيان حقيقيين كلاهما، أم كان أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً. ولعل هذا الشرط الذي اشترطوه هو الذي ضيق عليهم الواسع من أمثلة الجناس في القرآن.

عن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ” (النور 43ـ 44) الازجاء هو الدفع، والركام المتراكم بعضه على بعض، والودق هو المطر، والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، والمعنى: ألم تر أنت وكل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله وفرجه فينزل على الأرض. وقوله: ” وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ” السماء جهة العلو، وقوله: ” من جبال فيها ” بيان للسماء، والجبال جمع جبل وهو معروف، وقوله: ” من برد ” بيان للجبال، والبرد قطعات الجمد النازل من السماء، وكونه جبالا فيها كناية عن كثرته وتراكمه، والسنا بالقصر الضوء. والكلام معطوف على قوله: ” يزجي “، والمعنى: ألم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع والبساتين وربما قتل النفوس والمواشي ويصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالأبصار. والآية – على ما يعطيه السياق – مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، والمعنى: أن الامر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم ومواشيهم ومزارعهم وبساتينهم، و إذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. قوله تعالى: ” يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار ” بيان آخر الرجوع الأمر إلى مشيته تعالى فقط. وتقليب الليل والنهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، ومعنى الآية ظاهر.

جاء في موقع راديو النجاح عن القرآن والذائقة اللغويّة: سحر الدلالات السياقيَّة للكاتب بليغ حمدي إسماعيل: من الألفاظ القرآنية التي جاءت في كتاب الله بمعنيين مختلفين لفظة ( الأبصار ) في قوله تعالى: “وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ” (النور 43ـ 44) إذ الأبصار الأولى جاءت بمعنى النظر، بينما الثانية جاءت بمعنى العقول.

وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ” (النور 43ـ 44) يرسل سبحانه الرياح، فتثير سحابا يسوقه من بلد إلى بلد، ثم يجمع بعضه فوق بعض على هيئة الجبال، وفي هذا السحاب ماء سائل، ومتجمد في قطع ثلجية تسمى بردا يخرج من السحاب ” فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ ويَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ “. يتصرف سبحانه في البرد على موجب حكمته، فان اقتضت إهلاك زرع أو أي شيء أرسل عليه البرد، والا صرفه عنه. وتقدم مثله في الآية 12 من سورة الرعد ج 4 ص 388 وقلنا هناك وفي مناسبات شتى: ان الظواهر الكونية تستند إلى أسبابها الطبيعية مباشرة، وتنتهي إليه تعالى بالواسطة لأنه خالق الكون بما فيه. ” يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصارِ “. ضمير برقه يعود إلى السحاب، ويذهب بها يخطفها، قال تعالى: “يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ” [البقرة: 20] ” يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ والنَّهارَ ” طولا وقصرا ” إِنَّ فِي ذلِكَ ” التقلب ” لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصارِ ” (النور 44) الذين لا يقفون عند الأسباب الظاهرة، ويدركون مبدعها وموجدها.

جاء في موقع الألوكة الأدبية واللغوية عن دروس في النقد والبلاغة: الجناس للدكتور عمر بن محمد عمر عبدالرحمن: (1) قال تعالي: “ويومَ تقومُ الساعةُ يُقسمُ المجرمونَ ما لبِثوا غيرَ ساعَةٍ”. (2) قالَ تعالي: “وجئتُّكَ مِن سبأٍ بنبأٍ يقينٍ”. (3) قالَ تعالي:” ذلكم بما كنتم تفرحونَ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتم تمرحونَ”. (4) قالت الخنساء: إِنَّ البكاء هو الشفا  * ءُ من الجوي بينَ الجوانح. (5) قالَ الشاعر: نسيم الروض في ريحِ شمال * وصوب المزن في راحٍ شَمول. (6) قال الشاعر: ولم أر كالمعروفِ تُدْعَى حقوقُه * مغارِمَ في الأقوامِ وهي مغانِم. نُلاحظِ في المثال الأوَّل أَنَّ كلمة (الساعة) استعملت مرتين بمعنيين مختلفين، وإيراد الكلام على هذا الوجهِ يُسمي (جِناسًا). وللجِناس صورة أخري واضحة في الأمثلة الأخرى، حيث يختلف اللفظان اختلافًا مَا في عدد الحروف (الجوي – الجوانح)، ونوعها (سبأ – نبأ، تفرحونَ – تمرحونَ، ريح – راح، شَمال – شَمول، مغارم – مغانم)، وإِذَا اختلفت الكلمتان في نوعِ الحروفِ أو عددها سُمّى الجِناس (ناقصًا). وَإِذَا استعملت كلمة في معنيين متغايرينِ سُمّي ذلكَ جناسًا (تامًّا). ولنتأمل في بعضِ النماذج السالفةِ: في المثال الأوَّل يُقصد بالساعةِ الأولي: البعث المفاجئ، والساعة الثانية: زمنًا قصيرًا. والبعث صورة هائلة مفزعة مفاجئة تخيل إلى المجرم لما يشغله من أهوالها أَنَّه لم يقض في حياتهِ الدنيا إِلَّا زمنًا قصيرًا. لذلكَ نتجَ عَن استعمال لفظ الساعة في كل من المعنيين أثرَ المفاجأة، وهو لا يتم لو أخذ التعبير صورة أخري مثل: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمونَ مَا لبثوا لحظة). وفى النموذج الثاني: تري كلمة (النبأ) مستقرة متمكنة، وهي بلا ريب أشد ملائمة من كلمة (الخبر)، فالنبأ خبر ذو شأنٍ وله قوة وفيه غرابة، ومن المؤكد أَنَّ الجناس يذكي هذه المعاني، فهذا الرنين الصوتي ذو وقعٍ ملائم لحالِ قائلهِ، بل يكاد يفصح عن لهجة القائل ونبراتهِ الدالة على انفعالهِ بالخبر العظيم، فالجناس دَلَّ على نوع الخبر ومانتهِ من نفس صاحبهِ. وهذان الجانبان يغذوانِ المعني. أَمَّا الجناس في النموذج الثالث فيعبر عَن عجب المفسدين ورضاهم عن فسادهم ويصور غلوهم وإسرافهم. والخنساء في النموذج الرابع تحكي حزنها وآلامها، وفى مجال الحزن تنساق كلمتا (الجوي – والجوانح) كما تتابع المفاجأة وآثارها في وصف البعثِ، وفى التشابه بينَ (الجوي – الجوانح) إيحاء بتغلغل الحزن وتعمّقه في نفسها وجسدها، وقد أعطي تقارب الكلمتين المتجانستين خاصّة للحزن صفة الغلبة على الجوانح واستبدادهِ بها. والخلاصة أَنَّ الجناس كالسجعِ يزيد أداء الكلام لمعناه حسنًا، وخبره ما عبر عن معني لا يتم دونه.