رياض سعد
في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بعدد الشهادات المعلّقة على الجدران، ودرجات التحصيل التي تُختزل في كلمات “بكالوريوس، ماجستير، دكتوراه”، يغيب السؤال الأهم: هل الشهادة دليل على الذكاء؟ وهل التعليم الأكاديمي مرادف حتمي للفهم والإبداع؟
تتواتر في الخطاب التربوي والنقد الاجتماعي مقولاتٌ لطالما نبهت إلى الفارق الجوهري بين التعليم والذكاء، من أبرزها المقولة الشهيرة للفيزيائي العبقري ريتشارد فاينمان , فهي من بين المقولات التي ما تزال تتردد بصوت الحقيقة وسط ضجيج الشهادات والدرجات، تلك المقولة الشهيرة للعالم الفيزيائي ريتشارد فاينمان، الحائز على جائزة نوبل، والذي قال :”لا تخلط أبداً بين التعليم والذكاء، فقد تحصل على درجة الدكتوراه وتظل أحمق.”
في هذا القول الصادم تتجلى المفارقة العميقة بين ما يُحصّل وما يُفهم، بين ما يُلقّن وما يُستوعب، بين أن تكون متعلّماً شكليًا وبين أن تكون فَهِمًا واعيًا.
فالتعليم، كما تشير هذه المقولة، لا يعني بالضرورة الذكاء، بل قد يكون أحيانًا مجرد دليل على القدرة على الاجتهاد والالتزام بالنظام الأكاديمي والجهد المتواصل وموهبة الحفظ … ؛ دون أن يكون مؤشرًا على القدرة النقدية، أو الفهم العميق، أو حل المشكلات المعقدة التي يواجهها الإنسان في حياته العلمية أو الاجتماعية أو الأخلاقية.
وقد عزز هذا المعنى رجل الأعمال والمبتكر العالمي إيلون ماسك، حين قال بوضوح لا يقل صراحة :”أكره الخلط بين التعليم والذكاء، إذ يمكنك أن تحمل شهادة بكالوريوس وتظل أحمق.”
وفي هذا القول أيضًا نكتشف كيف أن الذكاء الفطري، والقدرة على الابتكار، والرؤية النافذة إلى عمق الأشياء، لا تمنحها الشهادات، بل تحتاج إلى تكوين ذاتي، وتفكير نقدي، وتجربة حياتية عميقة.
***الذكاء ليس ما تحفظه بل ما تحله!
الكثيرون اليوم يقيسون الذكاء بعدد السنوات التي قضاها الإنسان في مقاعد الدراسة، أو بعدد الشهادات المعلّقة على الجدران، بينما الذكاء الحقيقي هو كيف تفكر، وكيف تسأل، وكيف تتفاعل مع الواقع، وكيف تتخذ القرار في لحظات الاضطراب الأخلاقي أو الفوضى المعرفية… ؛ لهذا، فليست كل شهادة علمية دليلاً على الذكاء، بل قد تكون مجرد تأشيرة مرور في نظام تعليمي متهالك، يعتمد على الحفظ والتلقين بدل التحليل والفهم… ؛ فالتعليم هو ما تتعلمه في المدارس والجامعات، بينما الذكاء هو قدرتك على الفهم والتحليل واتخاذ القرار وحل المشكلات … ؛ كثيرون يتعلمون لكنهم لا يفكرون لا يبدعون لا يبتكرون … , فكثيرون ممن نالوا أعلى الدرجات الأكاديمية ظلوا عاجزين عن اتخاذ قرار عقلاني، أو تحليل موقف أخلاقي، أو إبداع فكرة جديدة … ؛ فالشهادة الاكاديمية لا تمنحك بالضرورة وعيًا أو حكمة … ؛ إن الفرق بين الذكاء والتعليم يُشبه الفرق بين من يحفظ خريطة الطريق، وبين من يعرف كيف ينجو حين تضيع الخريطة.
*** سخرية الفن من خراب الأكاديمية : من قبعة التخرج الى ذيل الحمار … حين ينهار المعنى تحت وطأة الشهادة
هذا النقد لم يأت من المفكرين فقط، بل وجده الفن الكاريكاتيري طريقًا لتجسيد الانحدار المؤلم في المعنى الأكاديمي.
ففي هذا السياق، يلفت النظر ما أنجزه الفنان الأوكراني الشهير يوريكوسوبوكين، أحد أبرز رسامي الكاريكاتير في العالم، حين فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان “ماركو بياسوني”، عبر رسم ساخر مؤلم، يُشبّه “شرابة قبعة التخرج” — ذلك الرمز الأكاديمي المرموق — بـ “ذيل الحمار”.
هذا التشبيه لم يأتِ من فراغ، بل جاء كصرخة فنية تعبّر عن تدهور المعنى الحقيقي للتعليم الجامعي، وتحوله في بعض الأحيان إلى مجرد مظهر اجتماعي فارغ من المحتوى، بل وربما إلى وسيلة فساد وانحطاط .
في هذا التشبيه الفج والموجع، لا يسخر الفنان من قبعة التخرج بحد ذاتها، بل من فراغها الرمزي، حين تتحول من تمثيلٍ للمعرفة إلى قشرة مظهرية لا تعني شيئًا.
لقد أصبح التعليم العالي، في كثير من الحالات، واجهة مشروخة تخفي وراءها فضائح لا علاقة لها بالعلم: تحرّش جنسي، رشاوى، تزوير، بيع شهادات، وسوق سوداء للتفوق الزائف — والأخطر من ذلك أن بعض هذه الكوارث تُدار من داخل أسوار الجامعات نفسها وبأيدي من يفترض أنهم “حماة المعرفة”.
والسؤال الذي يطرحه الكاريكاتير بجرأة هو : هل أصبح التعليم اليوم أقرب إلى التهريج منه إلى التنوير؟ وهل باتت الجامعات اليوم تفرّخ فضائح أكثر مما تفرّخ أفكارًا؟
***منابر للمعرفة أم أسواق للفساد؟
لقد أصبح من المألوف أن نسمع عن فضائح الجامعات، لا من حيث فشلها في الإنتاج العلمي فقط، بل في انخراطها أحيانًا في التحرش، الرشوة، بيع الشهادات، وتجارة المؤهلات في السوق السوداء.
والأدهى أن بعض هذه الممارسات تتم بيد من يفترض بهم أن يكونوا “حراس العلم” و”رهبان المعرفة” — أي الأساتذة أنفسهم!
في هذا السياق المأساوي، لم يعد مستغربًا أن تتساوى “قبعة التخرج” — ذلك الرمز الأكاديمي العريق — بـ “ذيل الحمار” في المخيال الكاريكاتيري، لا لأن التعليم لا قيمة له، بل لأن القيم ذاتها تآكلت، والمعايير انقلبت، والجامعات اختارت أحيانًا أن تكون جزءًا من السوق بدل أن تكون صوتًا للضمير.
*** لا تكن ذيلًا مغطّى بقبعة
إن قبعة التخرج ليست تاجًا، بل عهدًا أخلاقيًا بالمسؤولية والمعرفة والنزاهة… ؛ وإذا تحولت إلى مجرّد “شرابة” تُلوّح في حفلة صاخبة، دون وعي أو فهم أو نقد، فهي لا تختلف كثيرًا عن ذيل الحمار الذي يرفرف دون أن يعلم لماذا.
*** شهادة بلا روح… فكر بلا جسد
لقد أصبح من المؤلم أن نرى آلاف الخريجين يحملون الشهادات، لكنهم يفتقرون إلى المبادرة، وإلى روح البحث، وإلى التفكير النقدي، وإلى الحسّ الاجتماعي والأخلاقي.
وبات من المعتاد أن نسمع: “فلان يحمل شهادة عليا، لكنه لا يُحسن إدارة موقف بسيط في الحياة” — وهذه الجملة، وإن بدت قاسية، إلا أنها مرآة حقيقية لانفصال التعليم عن الواقع، والعقل عن الورق.
***الخلاصة: التربية قبل التعليم، والوعي قبل الشهادة
وفي هذا السياق، لا بد من إعادة النظر في منظومة التعليم بأكملها، لا من باب التحديث الإداري أو الهيكلي فقط، بل من باب إعادة ربط الشهادة بالقيمة، وربط العلم بالضمير، وربط الجامعة بالمجتمع لا بالأسواق والوظائف فحسب .
إن ما نحتاجه اليوم في مجتمعاتنا ليس مجرد إصلاح نظام التعليم، بل إعادة تعريف الذكاء، وإعادة بناء القيم التربوية، وإعادة ربط التعليم بالواقع لا بالرتب، وبالضمير لا بالدرجات… ؛ فالشهادة لا تصنع الإنسان، بل يصنعه وعيه، وحسه النقدي، واستقلاله العقلي، ونزاهته الأخلاقية.
ولا تفرح كثيرًا بالدرجات واللقب، وقبعة التخرج ؛ إن لم تكن قادرًا على أن تكون إنسانًا يَفهم، لا مجرد طالبٍ “فهمه متروك للمصادفة والحفظ والتكرار .”… ؛ فقد تكون تلك الشرابة أحيانًا أقرب إلى الذيل، إن لم يكن في رأسك فكرٌ، وفي قلبك ضمير، وفي جعبتك ابداع وانجاز وابتكار … .
فلنعد للتعليم روحه، وللشهادة قيمتها، وللجامعة دورها التنويري الحقيقي.