إغتصاب بغداد 

ادهم شبيب

لو كانت بغداد محتلة لما رضي العراقيون بكبريائهم المعروف وشجاعتهم ولهبّوا لتحريرها بالدماء و قد فعلوا من قبل ، ولو كانت بغداد حرّة لما رضي الأحرار القاطنون بها العاشقون لترابها وأزقتها ومحلّاتها ان يُفعل برموزها وتماثيلها وتراثها ومقاماتها واشجارها وانهارها ما يُفعل اليوم ، ولو كان سكّان بغداد الأصليون فيها ، يرشّون طرقاتها بالماء ويعطّرون أزقتها بروائح القدّاح المنتشر من حدائق البيوت الهادئة الا من نداءات الامّهات إلى العشاء وضحكات الأطفال المهرولين والراكبين في الأزقة الواسعة دراجاتهم الجميلة كما كانوا لما قبلوا ، ولكنّهم هاجروا بصمت ، لم يكن أحد ليقبل ان تُهدم مدينته وأن تُغيّر ملامحها ويبعثر تاريخها وتهمل بناياتها العتيقة وأنفاقها ومسارحها العابقة بالذكريات إلا ان يكون عاجزا او مغيّبا او مخدوعا ،

 اما أهالي بغداد اليوم وسكوتهم على ما يفعل بمدينتهم فهم حالة اخرى فريدة وغريبة ، ممّن مكث فيها من البغداديين ولم يهرب وممّن نزح اليها عشقا او عملا من مدن العراق البعيدة والمحيطة ، سكوتهم على تجريف الحدائق بالآلات وتشويه الأزقة بالتقطيعات وتخريب الأرصفة والجزرات بالمقرنصات ، سكوتهم على غلق مساحات المركز بالمجمّعات وإخفاء السماء بالفوضويات الشاهقات وحشو الشوارع بالمولات وتبديل المتنزهات بالمكعبات ، وتخريب الأحياء الراقية بالعشوائيات وتعتيم ضفاف النهر بالمجسرات ، 

كل هذا لا يقبل به حرّ ولا يرضى به مخلص ولا يتقبله عاقل يربطه بهذه المدينة الخالدة اي حنين ، بغداد لا يجب ان تكون مدينة حديثة خرساء مثل أربيل او منسلخة عجماء مثل دبي لأن بغداد عبق التاريخ والحضارات والثقافات والفن والأدب ، من يطمح ان يحوّلها الى مدينة ابراج وثكنة كونكريت وزجاج فهو إما غريب منتفع بالاستثمار أو مغيب او طارئ على بغداد لا يعرف أصلها وصورتها ورمزيتها ، يجب ان تمزج بغداد بين العصور وتحافظ بين جنباتها على توالي القرون التي شهدتها فهي ليست أقل شأنا من روما أو اسطنبول بل هي اعرق وأعتق ، كل المدن اذا رُصدت لها ميزانية يمكن ان تكون مدججة بالناطحات والجسور والطرقات ولكن لا يمكن صناعة التاريخ ولا بناء الحقب الماضية ولا استيراد العلوم الغابرة ولا بناء الشناشيل القديمة ولا إنشاء ما انشئ قبل عشرات القرون ، 

لو انتبه أهل بغداد المحبون لما يجري حولهم من تبديل لملامح المدينة وتهديم لإصولها وإزالة معالمها والاجتهاد بمحاصرتها وبيعها وتقسيمها ححصا بين السرّاق السياسيين وقطّاع الطرق “المستثمرين” لثاروا وانتفضوا وأوقفوا هذه المجازر التاريخية والمذابح الجغرافية والإبادة التراثية ولو بالقوّة ، ولكنّ بغداد مغتصبة “بالتراضي”!.

أدهم الشبيب  تموز 2025