خالد الغريباوي
بين بغداد وأنقرة، تمتد ذاكرة طويلة من الشراكات والتحالفات والاضطرابات. ولكن لا شيء اختزل هذه العلاقة مثل خط أنابيب كركوك–جيهان، الذي بقي لعقود شاهداً على المصالح المتشابكة، رغم العواصف السياسية والحروب الإقليمية. واليوم، بعد أن وقّع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرسوماً بإنهاء الاتفاق التاريخي الموقع عام 1973، فإن العراق يقف أمام لحظة فارقة: هل تكون نهاية لشكل قديم من التعاون، أم بداية لمسار أكثر اتزانًا ونضجًا في التفاهمات؟
إن القرار التركي لم يكن مفاجئًا من حيث التوقيت، لكنه يعكس تحوّلات أعمق في هندسة العلاقات الإقليمية، ويفرض على العراق أن يواكب هذه التحولات بوعي سياسي واقتصادي. نحن أمام مشهد جديد، تُعيد فيه تركيا والعراق تعريف أمنهم الطاقي، بينما العراق لم يعد الحلقة الأضعف في معادلة الطاقة، بل تحول إلى دولة محورية تلعب دور الوسيط والممر، وتملك ثقلاً جغرافياً واقتصادياً لا يُمكن تجاهله.
العراق لم يعد مجرد دولة مصدّرة للنفط، بل مركز توازن يربط الخليج بتركيا، وآسيا بأوروبا، وأسواق الطاقة بالممرات التجارية. وضمن هذا الإطار، فإن العلاقة مع تركيا يجب أن تُبنى على التفاهم المتبادل والرؤية المشتركة، لا على منطق التفوّق أو التبعية. تركيا تبقى دولة مؤثرة وذات عمق استراتيجي، والعراق بدوره يشكل نقطة ارتكاز في استقرار الإقليم، ومن دون استثمار هذه الحقيقة، تفقد العلاقات معناها وقيمتها.
الواقع يؤكد أن تركيا، رغم سعيها لتنويع مصادر الطاقة، لا تزال ترى في العراق شريكاً لا غنى عنه، ليس فقط في مجال الطاقة، بل في الاستقرار الحدودي، والتبادل التجاري، وترتيب أولويات التنمية الإقليمية. ومن هنا، فإن العودة إلى مائدة التفاهمات الاستراتيجية بين بغداد وأنقرة ليست خيارًا، بل ضرورة تمليها المصالح العليا لكلا البلدين، لا سيما في ظل تحولات دولية تعيد رسم خريطة النفوذ والطاقة.
وعلى الصعيد الداخلي، فإن العراق يواجه تحدياً اقتصادياً مزدوجاً. فمن جهة، ما يزال اعتماده على النفط خاماً يجعله عرضة لأي تغيّر في مسارات التصدير، ومن جهة أخرى، تعاني بنيته الاقتصادية من تراكمات إدارية تستوجب إصلاحاً هيكلياً شاملاً. لذا فإن استقرار العلاقة مع تركيا يشكل عاملاً داعماً للاتزان المالي، ولضمان استمرارية الإنفاق العام الذي يلامس حياة الملايين من العراقيين.
وفي سياق أوسع، فإن العراق اليوم يتحرك في بيئة إقليمية متعددة الأقطاب، حيث تلعب تركيا، وإيران، والسعودية أدواراً محورية. لكن ما يجب ترسيخه هو أن العراق ليس هامشاً في هذه الخارطة، بل مركز تلاقي وتوازن، وصانع ممكن للتفاهمات إذا ما أُحسن استخدام موقعه وقدراته. القوة لا تُقاس بالصوت المرتفع، بل بقدرة الدولة على أن تكون جسراً لا ساحة، ومنصة حوار لا ميدان نزاع.
أما ملف المياه، فلا يمكن فصله عن مجمل العلاقة مع تركيا. فالعراق يعاني من تراجع مقلق في موارده المائية بسبب مشاريع السدود، وهو ما يتطلب آلية دائمة تحمي حقوقه وفق القانون الدولي، بعيداً عن لغة المناكفة، وبالاستناد إلى حسن الجوار والمصالح المشتركة.
وإن كنا نتحدث عن مستقبل التفاوض، فإن ما يمنح هذا الملف زخماً وثقة هو وجود قيادة عراقية ذات حنكة، قادرة على رسم معادلة جديدة من التعاون الإقليمي. قيادة تدرك أن استقرار العراق لا ينفصل عن استقرار جواره، وأن السيادة لا تتناقض مع الشراكة، بل تتكامل معها حين تكون مبنية على الاحترام والتوازن.
إن العراق يملك من الأوراق ما يؤهله لأن يكون عنصراً فاعلاً في المعادلة الإقليمية، لا طرفًا هامشيًا. لكنه بحاجة إلى وحدة قرار، ورؤية استراتيجية، ونَفَس طويل يعبر اللحظة الآنية نحو مستقبل يبنى على الفهم العميق للمصالح المشتركة، لا على ردود الفعل أو الرهانات العابرة.