اسم الكاتب : حميد الكفائي
تأسست الدولة العراقية عام 1921، وتُوِّج الأمير فيصل ملكاً على العراق، وهو الشخص الذي أراده الشيعة، شيوخاً ورجال دين ومدنيين، وذهبوا إلى مكة وأقنعوا أباه، الشريف حسين، بأن يسمح له بالمجيء إلى العراق، بينما كان قلقاً بأن يكون مصير ابنه كمصير الإمام الحسين، لكن الشيخ علي البازركان طمأنه قائلاً: “يا سيدي لقد تغير الزمن، وأن أهل العراق ليسوا كأسلافهم في زمن الحسين وأبيه علي (ع)، فهم الآن يقومون بإكرام الضيف وخدمة ملكهم”، (علي البازركان – “الوقائع الحقيقية” – ص 229/230).
وقبل الموافقة، تحدث الشريف حسين مع نور الياسري قائلاً: “يا سيد نور إني أعتبرك أخي الأكبر وإني أودعت ولدي فيصل عند جدتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ثم أودعته عندكم”. فأجابه الياسري: “سنرحب بفيصل وسيكون محل احترامنا ومحبتنا وسوف نضحي في سبيله بكل ما نملك”، (عبد الشهيد الياسري – “البطولة في ثورة العشرين”، ص 240/241).
لكن الغريب أن رجال الدين الشيعة قرروا مقاطعة الدولة التي أسسوها، وحرّموا المشاركة في حكوماتها، والتوظف في دوائرها، بل وحتى الدراسة في مدارسها، ما أدى إلى بقاء شريحة كبيرة من الشيعة أميين، والمحظوظون منهم درسوا في المدارس البدائية (الكُتّاب)، ومن هنا جاءت مظلوميتهم، وليس لأن الحاكمين (السُنّة) ظلموهم أو ميَّزوا ضدهم، خصوصاً أن أبناء الطائفتين ينتمون إلى القبائل العربية نفسها، أي أنهم أبناء عمومة وثقافة واحدة، بل إن الكثير من شيوخ القبائل العراقية المختلطة، مثل ربيعة وعبادة وآلبو دراج وبني زيد وشمر والجبور وبني تميم هم شيعة.
أخبرني الدكتور الشاعر حميد الخاقاني أن والده منعه من الذهاب إلى المدرسة قائلاً له: “ما الذي ستحصل عليه من المدرسة؟ هل تريد أن تصبح معلماً وتأخذ راتباً من هذه الدولة الظالمة؟”. بعبارة أخرى، أن التوظف في الدولة غير جائز شرعاً في نظره، والرجل كان متديناً ويؤدي الفرائض ويذهب إلى النجف لدفع الخمس، ولا بد أنه سمع هذا الرأي من رجال الدين الذين التقاهم. وقد كان هذا الرأي سائداً عند عامة الشيعة في تلك الفترة، إذ سمعته من آخرين كثيرين، وقد ساهم في تخلف كثيرين منهم عن ركب التقدم المهني والتطور المعرفي في العراق، وأدى إلى إفقارهم، وترك أثراً سلبياً في طريقة تفكير كثيرين منهم.
غير أن الخاقاني لم يمتثل لأمر أبيه، فذهب وتسجل في المدرسة الابتدائية المسائية من دون علمه، وأبقى الأمر سراً، كي لا يُغضِب أباه، لكنه عندما قرر الانتقال إلى الدراسة النهارية، اكتشف الوالد السر، فعاقبه لمخالفته أمره، واشتد الخلاف بينهما لاحقاً، ما اضطره إلى ترك البيت والعيش منفرداً.
لم يلتزم الشيعة جميعاً تلك الفتاوى أو الآراء الدينية الضارة والمدمرة، فكثيرون تحدوها وذهبوا إلى المدارس والجامعات، وصاروا أطباء ومهندسين ومعلمين ومديرين وأساتذة ومفكرين وفنانين وشعراء وكتاباً وتجاراً كباراً. لم يكن التمييز بين المواطنين في الدولة العراقية في عصورها المختلفة على أسس دينية أو طائفية أو عرقية، إلا في فترات قصيرة جداً، وقد مارسه أفراد متنفذون ولم يكن ظاهرة عامة، فقد درس الجميع وتعلموا في مدارس الدولة، ودرس الأكراد بلغتهم الكردية في مناطقهم منذ بداية تأسيس الدولة، ولم يُجبر أحد على اعتناق أي دينٍ أو مذهب.
أتذكر عندما كنت في المدرسة، كان المعلم يطلب من الطالب المسيحي الوحيد في صفنا أن يغادر الصف أثناء درس الدين، فسألناه لماذا يا أستاذ تطلب من فلان المغادرة في هذا الدرس تحديداً، ولم نكن حينها نعرف بأن له ديناً مختلفاً عنا، فقال إنه مسيحي وليس صحيحاً أن نفرض عليه أن يتعلم دين الإسلام. هذا المبدأ، احترام دين الآخر، هو الذي سارت عليه الدولة والمجتمع قبل حلول ليل التطرف الديني والطائفي.
كان وزراء الحكومة العراقية من كل الطوائف والأعراق، يهوداً ومسيحيين وأكراداً وعرباً، وسنة وشيعة. وكان وزراء المعارف تحديداً من الشيعة في العصر الملكي، وكان بعضهم لا يصلح لأي منصب، ناهيك بأن يصير وزيراً، ولكن جيء بهم لتمثيل الطائفة، وكان هذا خطأ جسيماً ارتكبته الحكومة حينها، وارتكبته حكومات ما بعد 2003، فلا يجوز أن توكل إدارة التعليم والصحة والخدمات أو إدارة الاقتصاد بشكل عام إلى غير المتخصصين. تمثيل الطوائف سيحصل في البرلمان، في ظل النظام الديموقراطي، أما الحكومة، فيجب أن تأتي بالأكفياء والأكثر خبرة كي تكون ناجحة في خدمة الشعب بكل تنوعاته.
الوزير عبد المهدي المنتفجي مثلاً، فصل أستاذاً سوريّاً في الجامعة، أنيس النصولي، لأنه كتب كتاباً في التاريخ أهداه إلى الدولة الأموية! كان بحثاً أكاديمياً لأستاذ أجنبي، والآراء الواردة فيه تخص المؤلف وحده، لكن المنتفجي جعل منه قضية سياسية! وعندما احتج الطلاب والأساتذة، سنة وشيعة، على فصل النصولي، أقال المنتفجي الأساتذة وفصل الطلاب، كما روى حسين جميل في كتابه “العراق: شهادات سياسية”، وحسين جميل كان أحد الطلاب المحتجين، ومعظمهم من الشيعة.
ويضيف جميل، وهو الخبير الذي يتمتع باحترام واسع وقد كتب دستور العراق الموقت عام 1958، أن الطلاب شكلوا وفداً لمقابلة الوزير، وكان أعضاؤه جميعاً من الشيعة كي لا تبدو القضية طائفية. هكذا كان يتصرف الشيعة، بوطنية وحرص شديدين على الدولة العراقية والتماسك الوطني. ويذكر علي ظريف عبد المجيد، في كتابه “تاريخ بغداد الحديث والقديم” أن أولئك الطلاب تبوأوا لاحقاً مناصب رفيعة. نعم، هكذا تتصرف الدولة الناجحة، تضع الشخص المناسب في المكان المناسب، من دون النظر إلى دينه أو عرقه أو منطقته. وعلى هذا الأساس، صار اليهودي ساسون حسقيل وزيراً للمالية، والمسيحي متي عقراوي رئيساً لجامعة بغداد، وتلاه في المنصب الصابئي عبد الجبار عبد الله، بينما جيء بوزير التعليم السوري السابق، ساطع الحصري، ليتولى إدارة التعليم العام في العراق.
أما دولة الجماعات المتشدقة بالدين الحالية، فهي تضع الطائفيين في المناصب الحساسة مثل التربية والتعليم والداخلية والتخطيط، والعنصريين والبلهاء في الخارجية، والفاسدين والسراق في النفط والمالية والكهرباء، وفيها يجبر الوزير على أن يؤدي قَسَماً آخر، غير القسم الرسمي، بأن يكون موالياً لرئيس الكتلة النيابية الذي أتى به إلى المنصب!
أما حزب “البعث”، “الذي ظلم الشيعة” كما يدعي بعضهم، فأول زعيم له في العراق هو فؤاد الركابي، شيعي من الناصرية وابن عمومة القيادي في “حزب الدعوة” صادق الركابي، وهو أول وزير “بعثي” في حكومة الجمهورية الأولى برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم. ومن قادة “البعث” الشيعة الأوائل، طالب حسين الشبيب، وحسين الصافي، وحازم جواد، وفاتك الصافي ومحسن الشيخ راضي، وهاني الفكيكي، وعلي صالح السعدي، وسعدون حمادي، وجاسم الركابي، ونعيم حداد، وعشرات غيرهم. أما مدير الأمن العام الرهيب، ناظم كزار، فلم يكن مسؤولاً عن الأمن فقط، بل كان مسؤولاً حزبياً لوزيري الداخلية والدفاع! أي أن سلطاته تتجاوز سلطات الرئيس، ما شجعه على قيادة انقلاب عام 1973 كان قاب قوسين أو أدنى من النجاح.
كان هناك تمييز بين المواطنين في بعض الفترات، لكنه كان على أسس سياسية، أو أمنية، وليست دينية أو طائفية أو عرقية. فمن يعارض الحكومة يعاقب بالفصل أو السجن وربما بالإعدام، وكان المعارضون من كل الأديان والمذاهب والقوميات والأعراق. ارتُكبت جرائم فظيعة في ظل نظام صدام حسين، ومنها مثلاً حبس أقارب المعارضين الأبرياء وإعدامهم، سواء من السنة أم من الشيعة، خصوصا أولئك الذين أيدوا الثورة الإيرانية وانخرطوا في دعمها، أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، إذ اعتبرهم النظام خونة، يؤيدون دولة تحارب دولتهم.
بعض الجرائم كانت لأسباب عنصرية، كتسفير ذوي الأصول الإيرانية والأكراد الفيلية إلى إيران، رغم أنهم من أهل البلد، ويتمتعون بجنسيته منذ تأسيس الدولة. ولا شك في أن تلك الجرائم كانت سبباً مباشراً في إضعاف النظام، وأدت في النهاية إلى انهياره بسهولة على أيدي القوات الأميركية عام 2003.
يمكن القول إن معظم السياسيين الذين أبعدوا أو سجنوا أو أعدموا في عهد البعث، كانوا من الطائفة والمنطقة اللتين ينتمي إليهما الرئيسان صدام حسين وأحمد حسن البكر، ولا مجال هنا لذكر الأسماء، لأنها كثيرة، فهي تبدأ بحردان التكريتي وعبد الرزاق النايف، ولا تنتهي بفاضل البراك التكريتي وعبد الخالق السامرائي، أحد مؤسسي حزب “البعث” ومنظّريه، ومحمد عايش الدليمي، ومحمد محجوب الدوري وخالد عبد عثمان الكبيسي وغانم عبد الجليل.
ولم تسلم عائلة صدام حسين المباشرة من القتل، فقد أُعدِم علاء المجيد، ابن عم الرئيس، وأُجبِر أخوتُه على قتله، وهناك مقابلة مع أخوته أجراها الصحافي اللبناني إيلي ناكوزي، لقناة “العربية” عام 2003، والفيديو متوافر على يوتيوب! وقد قُتل صهرا الرئيس ووالدهما مع نساء وأطفال في “صولة عشائرية” على منزلهما في بغداد، إثر انشقاقهما عن النظام وهروبهما إلى الأردن ثم عودتهما إلى بغداد. معظم الجرائم المرتكبة في العراق هي بدوافع إجرامية، سياسية وأمنية، وهي بالتأكيد بشعة ومدانة، بل تنم عن إجرام نادر تحفزه نوازع شريرة وأمراض نفسية خطيرة.
شيعة اليوم الذين تجاوزت أعمارهم الخامسة والعشرين كلهم درسوا في مدارس الدولة العراقية “السُنِّية” وجامعاتها، وبُعث كثيرون منهم إلى الخارج لإكمال دراساتهم العليا، وتوظف كثيرون منهم في دوائرها ومؤسساتها. وقد تولى قيادة الدولة العراقية شيعة كثيرون، منهم صالح جبر ومحمد الصدر وعبد الوهاب مرجان وفاضل الجمالي وناجي طالب وسعدون حمادي ومحمد حمزة، وقاد جيشها في زمن صدام عبد الواحد شنان آل رباط، الذي صار محافظا لنينوى “السنِّية”.
محاولة تزوير التاريخ من أجل خداع الناس وإيهامهم بأنهم كانوا مظلومين وأن صادق الركابي ورفاقه في الحركة الإسلامية، ومن خلفهم إيران، هم الذين أنقذوهم وجعلوهم يتنفسون الهواء ويشربون الماء ويدرسون الطب والهندسة، هي محاولة بائسة ويائسة لتزوير التاريخ، ودليل إفلاس ونكوص، بل هي محاولة لخداع الشيعة والنصب عليهم، ودفعهم لأن يكونوا أتباعاً لدولة أخرى، لم تكترث يوماً لمصلحتهم، بل أصرت على محاربة العراق لثماني سنوات، وهي تعلم أن معظم ضحاياها من الشيعة باعتبارهم غالبية الشعب العراقي.
أن يكون صدام قد بدأ الحرب لا يبرر الإصرار على مواصلتها من دون الاكتراث لحياة ملايين الناس من الجانبين، الذين قتلوا وجرحوا وأعيقوا وأسروا فيها وتشردوا ودمرت حياتهم. إيران تسعى لتحويل الشيعة في الدول الأخرى إلى مرتزقة وقتلة وسراق وعملاء وأعضاء في ميليشيات تحارب نيابة عنها، وتسعى الى تخريب البلدان الأخرى من أجل تطبيق فكرة طوباوية تعشش في رؤوس قادتها، وإيران تناصب الدول الشيعية العداء، والدليل هو موقفها العدائي من العراق وأذربيجان والبحرين. ليس في مصلحة الشيعة العرب أن يتخندقوا إلى جانب إيران، ضد دولهم وأبناء أوطانهم، فهذا الموقف عبثي وسوف يكبدهم خسائر فادحة ويجعلهم منبوذين ومطاردين في معظم دول العالم.
إيران دولة فاشلة ومحاصرة دولياً ومعادية لمعظم دول العالم، خصوصا البلدان العربية، لذلك فإن السعي الى تلميع صورتها ومحاولة ربط العراق بها، لمصلحة قلة ممن اختاروا أن يربطوا أنفسهم بنظام قروسطي متخلف لا يمت الى العالم المعاصر بصلة، هو عمل موغل في الأنانية والجحود والعقوق والغدر والخيانة، لبلد وهبهم كل ما لديهم، ولشعب نشأوا في كنفه ومنحهم ثقافته وهويته.
لا تبنى الدول عبر التمييز والتنابز والهمز واللمز والخداع والكذب، ولا يطاع الله من حيث يعصى. والدولة التي لا تنصف مواطنيها ولا تعدل بينهم إنما هي دولة هشة واهنة، مصيرها الهزال ثم الزوال في هذا العصر تحديداً، الذي انتشرت فيه المعارف وصار بإمكان الجميع أن يعرفوا الحقيقة بسهولة، وبوجود المجتمع الدولي الحديث الذي لا يستسيغ الدول التي تضطهد مواطنيها أو تميز بينهم، بل لا يتعاون معها، ومستعد لفرض العقوبات عليها.
الشيعة هم غالبية سكان العراق، أكثر من 20 مليون نسمة، وعليهم ألا يخشوا أحداً، فهم أقوياء ليس بعددهم فقط، بل بدولتهم وكفاءاتهم وانتمائهم لبلد هو مهد الحضارات، ومنطقتهم العربية الثرية الواسعة، ولا يحتاجون لأن يتبعوا دولة منبوذة تسعى الى استخدامهم أدواتٍ في مشروعها التوسعي الذي يعادي معظم دول العالم.