اسم الكاتب : قاسم الفرطوسي
في نهاية الثلاثينيات لجأ اكثر من ثلاثين عائلة فلاحية من قرية العدل التابعة الى قضاء المجر الكبير في العمارة الى عمق الاهوار تخلصا من بطش الاقطاع واضطهاده لهم .
الجدي او الجدية واصلها (الكدية) ولكن عرب الاهوار يقلبون الكاف الى (جيم) لتصبح الجدي وتعني الجزرة او الدار المحاطة بالمياه والتي تؤسس لاول مرة في الاهوار وفي احيان معينة تسمى (الشجة) ومن مجموع الشجات تتكون القرى العائمة كما في قرى (الصحين ، الكبيبة ، العويدية ، والصيكل) وعشرات القرى التي يسكنها عرب الاهوار .
اما كيفية تأسيس (الشجة) لاول مرة داخل المياه العميقة وذلك لعدم وجود مناطق يابسة وبعد اختيار المكان فعلى من يروم بناءها أي (الشجة) احضار مئات الحزم (الباقات) من القصب الجيد والطويل وبعدها تنزل مجموعة من شباب القرية داخل الماء وغرز القصب في الارض أي في الطين ثم تنيه وكسره مع مستوى الماء ويكون على شكل رقم ستة وهكذا تغرز الحزم كلها حتى تتكون المساحة المطلوبة من القصب المغروز وقد تصل الى اكثر من ١٠٠ متر مربع وعلى شكل مستطيل وتسمى (سكفة) يمر الماء من تحتها ثم يوضع فوقها القصب والبردي حتى تصبح مرتفعة ارتفاعا كبيرا وتسمى (الشجة) ومن ثم احاطتها بسياج قوي من القصب ويسمى (واشي) للحفاظ عليها من الانجراف ، فيتخذ القسم الامام معلفا للجاموس والخلفي بيت سكن للعائلة وان يكون باتجاه القبلة حتى تصبح بيوت القرية ذات نسق واحد وعلى مر السنين ونتيجة الادامة المستمرة تتحول (الشجة) هذه الى جزرة ثابتة وينتقل اهل القرية من بيت الى اخر بواسطة المشحوف.
وفي نهاية الثلاثينيات لجأ اكثر من ثلاثين عائلة فلاحية من قرية العدل التابعة الى قضاء المجر الكبير في العمارة الى عمق الاهوار تخلصا من بطش الاقطاع واضطهاده لهم ، فاختاروا مكانا لتأسيس قريتهم في وسط بحيرة كبيرة تسمى (بركة الصيكل) الواقعة بين قريتنا (الصحين) وبين الصيكل فبنوا قريتهم بطريقة الاكلاك والشجات وبنوا فوقها بيوتا لهم واعتمدوا في حياتهم المعاشية على تربية الجاموس وصيد الاسماك والطيور وصناعة الحصران واطلقوا على هذه القرية الجديدة (الحصنى) لانها بعيدة عن سلطة الاقطاع وظلمه.
وفي عام ١٩٤٠ وبينما كانت القرية غافية على سطح مياه البحيرة هبت عليها عاصفة شمالية هوجاء ومن سرعة الريح وجريان الماء وتلاطم الامواج انجرفت بيوت القرية تماما وقلعت الاكلاك والشجات من مكانها وسارت القرية بأهلها وحيواناتهم معا اصبحت بيوتهم وكأنها سفن في لجاج البحر فدب الهلع والخوف بأهلها فسارعوا لانقاذ الاطفال والمرضى وكبار السن والاثاث والامتعة وحملوها بالمشاحيف الكبيرة (البلام) وبعد ان هدأت العاصفة استقرت القرية في الضفة الجنوبية للبحيرة وبمسافة اكثر من كيلو مترين بعد ان تحطمت جميع البيوت وتطايرت الحصران وغرق المشاحيف الصغيرة وبعد ان استقروا قاموا بترميم شجاتهم وبيوتهم فاطلقوا عليها اسم قرية الجدي ثم اتسعت واصبحت تضم اكثر من ١٥٠ عائلة.
وفي عام ١٩٦٥ راجع وفدا من اهالي القرية مديرية معارف لواء العمارة انذاك وقدموا طلبا بفتح مدرسة لاولادهم كباقي القرى المجاورة لهم وبعد وصول لجنة الكشف اصيبت بالذهول والتعجب بشأن مكان المدرسة والقرية طافية على سطح الماء، ولكن اهل القرية تعهدوا ببناء (الشجة) أي ارض المدرسة والصفوف (الصرايف) وعلى حسابهم الخاص فبنوا ثلاث صرائف من القصب والبردي فوق ارض المدرسة وبعد ذلك تم تنسيب الاستاذ(سيد شنون) مديرا لها وهو من ملاك مدرستنا (مدرسة الصحين الريفية) وانا كنت احد اعضاء ملاكها التدريسي، انذاك فراجع السيد المدير المنسب مخزن المديرية في العمارة وتسلم ثلاثين رحلة وخزان ماء وسبورتين وكرسي ومنضدة وقطعة خشبية مكتوب عليها اسم المدرسة (مدرسة ابن الهيثم الريفية) وهكذا انهى الاستاذ شنون وابن الهيثم والطلاب عامهم الدراسي على كلك من القصب والبردي يهتز كل ما هب الريح عليه وتلاطمته الامواج. وقرية الجدي شملتها جريمة تجفيف الاهوار عام ١٩٩٢ واصبحت صحراء قاحلة وهاجر اهلها الى المدن القريبة وعندما عادت اهوارنا الجميلة ضمن خطة مديرية انعاش الاهوار الحضارية والعلمية ستعود قرية الجدي بحلة جديدة كقرية عصرية وبقربها احواض الاسماك ومعامل الحليب وتربية الجاموس وتسمى قرية الجدي العصرية.