
اسم الكاتب : نصرت مردان
فتح المسلمون العراق في سنة ۱۲ هجرية بعد واقعة (نهاوند)،واستوطن التركمان العراق في شخص أربعة آلاف مقاتل في ٥٤ هجرية كما سيأتي ذكره. وإذا كان أول دخول لهم لا يتجاوز أربعة آلاف مقاتل،فقد تتابعت بعد ذلك هجراتهم إلى العراق في فترات تاريخية متعاقبة. لقد استوطن التركمان شمال العراق ووسطه وجنوبه واختلطوا مع العرب نسبا وصهرا بحيث أصبح كما يقول المؤرخ شاكر صابر الضابط ” في كل دار من دور العرب على اتساع بلادهم عربي يمت إلى الترك بخؤولة،وفي كل دهر من دور الترك،تركي يمت إلى العرب بعمومة. .”
التركمان والاستعمار البريطاني
حاول الاستعمار البريطاني بعد احتلاله العراق تشجيع التركمان الذين كان يراهم مبررا لمطالبة تركيا بشمال العراق (ولاية الموصل) أثناء إعلان وقف إطلاق النار بعد انتهاء،وقد جرت بين تركيا وبريطانيا التي كانت تحتل العراق آنذاك، مفاوضات طويلة انتهت بالتوقيع على معاهدة لوزان في ۲٤ تموز ۱٩۲۳ اعتبر بموجبها شمال العراق أرضا عراقية. وقد تركت بريطانيا الباب أمام التركمان مفتوحا في اختيار الدولة التي يودون أن يصبحوا من مواطنيها حسب المواد ۳۰،۳۱،۳۲،۳۳،۳٥ من المعاهدة المذكورة. وكان المستعمر البريطاني يخطط ويراهن على أن التركمان سيختارون الدخول في التبعية التركية. من خلال أحكام المواد التالية:
المادة ۳۰ ـ إن تبعية الترك الساكنين هذه البلاد التي انفصلت عن تركية سيكونون بمقتضى أحكام هذه المادة من تبعة الدولة التي انتقلت إليها تلك البلاد.
المادة ۳۱ ـ كل من تجاوز الثامنة عشرة من العمر،من الذين فقدوا الجنسية التركية،واكتسبوا تبعية جديدة بمقتضى المادة الثلاثين،فأنه يكون له الخيار في اختيار التبعية التركية خلال سنتين اعتبارا من وضع هذه المعاهدة موضع التنفيذ.
المادة ۳٥ ـ إن الدول المتعاقدة تتعهد بأنها لا تمنع بوجه من الوجوه استعمال حق الخيار الذي يمنح أصحابه إحراز أية تبعية أخرى ممكنة لهم،والذي جاء بيانه في هذه المعاهدة أو معاهدات الصلح مع ألمانيا والبلغار أو المجر أو في المعاهدات المعقودة بين الدول المتعاقدة المذكورة من غير تركيا أو بين أوربا وبين روسيا. وفي ۱۲ حزيران ۱٩۲٦ أبرمت اتفاقية بين الحكومة التركية والحكومة العراقية وقد نصت مادتها الرابعة على ما يلي :
((إن جنسية سكان الأراضي المتروكة للعراق بموجب أحكام المادة الأولى تعين بموجب المواد ۳۰ و۳٦ من معاهدة لوزان،يوافق المتعاقدون السامون على استمرار حق الخيار الوارد في المواد ۳۱،۳۲ و۳۳ من المعاهدة المذكورة مدة أثنى عشر شهرا من دخول هذه المعاهدة حيز التنفيذ،على أن تحتفظ تركيا بحرية العمل في الاعتراف باختيار من يختار الجنسية التركية من الأهالي المشار إليهم أعلاه))
كما يبدو من نص هذه المادة أعطيت حرية كاملة لمن يرغب من التركمان،ترك العراق و اختيار الانتماء إلى تركيا أو أي دولة أخرى. لكن التركمان خيبوا فأل البريطانيين وكل من كان يحاول الرهان على عراقيتهم في بقائهم أمناء على الانتماء للوطن،معتزين بهويتهم العراقية.
ناضل التركمان كغيرهم من أبناء الشعب العراق ضد الاستعمار البريطاني وشاركوا في كل انتفاضاته. فقد ساهمت جموع التركمان إخوانهم في جنوب العراق في ثورة ۱٩۲۰. فبرزت العديد من الشخصيات في كركوك لمقاومة الاستعمار البريطاني والتي شدت من أزر إخوانهم العرب. ولا يسع المجال لذكر جميع الشخصيات التركمانية البارزة التي كان لها شرف المساهمة في أول ثورة ضد الوجود البريطاني من أهم تلك الشخصيات : ملا رضا الواعظ،عزت باشا صاري كهيه،صديق بك آرسلان،عمر آغا ترجيللي،عاكف الهرمزي،قاسم بك نفطجي،فهمي عرب آغا،أسعد كتانه،أحمد مدني قدسي أحمد ناظم آل شهيد ومئات غيرهم. وكان السيد محمد أمين صديق القابل هو همزة الوصل حيث كان ينقل رسائل يوسف أفندي السويدي والسيد طالب النقيب إلى كركوك. شارك التركمان في كل المناطق التي ينتشرون بها في الثورة على سبيل المثال من منطقة ديالى : محمد آغا حسن سفر،إبراهيم صفان،الحاج علي رشيد،سمين علي نعمان ومن خانقين: محمود أفندي شابندر،طاهر دايي زاده،نوري مردان بياتلي ومن منطقة طوزخورماتو:علي ملا ولي،نجم محمد جابر،قنبر حسين آغا،رشيد خليفة الداقوقي،عباس كهيه. وكان يؤازرهم فارس بك رئيس عشيرة البيات ومن آلتون كوبري : كريم أحمد بك،حسن آغا،يوسف آغا عبدالصمد،،حاجي ولي علي مولود.
وقد أعطت المعركة الحاسمة التي دارت في منطقة تلعفر بين التركمان من عشائر سيدلر،فرحنليلر،بير نزار،الخانليلر،قصابلية وقوات المستعمر البريطاني التي تلقت على أيدي المقاتلين التركمان درسا قاسيا، لا يزال موضوع فخر واعتزاز للكثير من الباحثين العراقيين في ثورة العشرين.
التركمان في العهد الملكي
نصت المادة السادسة عشرة من الدستور العراقي في العهد الملي على ما يلي :
)(للطوائف المختلفة حق تأسيس المدارس لتعليم أفرادها بلغاتها الخاصة والاحتفاظ بها على أن يكون ذلك موافقا للمناهج العامة التي تعين قانونا)(.
بموجب هذا القرار تم إقرار التدريس باللغة التركمانية في المدارس الابتدائية في المناطق التي ينتشر فيها التركمان ،واستمر العمل بهذه المادة حتى السنة الدراسية ۱٩۳۰ ـ ۱٩۳۱ حيث تم إلغاءها من مدارس مدينة أربيل أولا بينما استمر العمل فيها حتى عام ۱٩۳٧ في مدينة كركوك. رغم أن المادة السادسة من (قانون اللغات المحلية رقم ٧٤ لسنة ۱٩۳۱) كانت تنص على :
)(في جميع المدارس الأولية الواردة ذكرها في هذا القانون (دهوك ـ شيخان (لواء الموصل)،اربيل ـ مخمور (لواء أربيل)،كركوك ـ كفري (لواء كركوك) تكون اللغة البيتية لأكثرية طلاب تلك المدارس سواء أكانت عربية أو تركية أو كردية)
والغريب أن قرار الإلغاء شمل المناطق التركمانية فقط، بينما استمر العمل بمضمون القانون المذكور بالنسبة للمناطق الكردية.
يقول الدكتور مصطفى جواد عن التركمان في المقدمة التي كتبها لكتاب (موجز تاريخ التركمان في العراق) لمؤلفه شاكر صابر الضابط ((. . قوم شاركوا أهل الإسلام في جميع ما رفع مقامه في العلوم والآداب والفقه والكلام والفلسفة والسياسة والإدارة،والحروب والملاحم والغزوات والدفاع. . ))
يقول المستشرق و. بارتولد في كتابه (تاريخ الترك في آسيا الوسطى :
((إن مؤسسي أكبر إمبراطوريتين تركيتين خرج من هؤلاء التركمان وهما الإمبراطورية السلجوقية والإمبراطورية العثمانية))
تقرير عصبة الأمم عن تركمان العراق
جاء في التقرير الذي رفعته عصبة الأمم في ۳۰ أيلول ۱٩۲٤والمعنون ” تقرير الهيئة الخاصة التي ندبتها عصبة الأمم للإشراف على الاستفتاء حول مسألة الحدود بين العراق وتركية :
. . ((انه في القرن الحادي عشر للميلاد للميلاد عندما اجتاز جميع الترك نهر ـ جيحون ـ واعتنقوا الإسلام،صاروا يدعون ـ تركمان ـ أو ـ تركومان ـ، ولما كان جميع هذه الأقوام تنسب إلى عشيرة ” اوغوز ” فيكون اسم التركمان قد حل محل اسم ” اوغوز “. ومعنى كلمة تركمان مبهم،ولكن يراد به جميع الترك الذين استوطنوا فارس وأذربيجان والعراق وآسيا الصغرى وسورية ومصر. وان أسلاف الترك من العثمانيين كسائر الشعوب التركية في آسيا الصغرى الذين يؤلفون جزءا من الدولة السلجوقية في ـ قونية ـ كانوا في القرن الثالث عشر يعرفون باسم التركمان. وقد انقسم هؤلاء التركمان بالتدريج إلى جماعات وانتحلوا أسماء جديدة لجنسياتهم،استمدوها من موقفهم السياسي وموقعهم الجغرافي،فهؤلاء الذين استوطنوا أذربيجان يدعون الآن ” أذربيجانيين “. وهؤلاء الذين استوطنوا آسيا الصغرى صاروا حينما أصبحوا تحت حكم الدولة العثمانية يدعون بـ ” العثمانيين “،ولا سيما المتحضرين منهم إذ أن بعض القبائل البدوية أو شبه البدوية في آسيا الصغرى لا يزالون يعرفون باسم (التركمان)أما الجماعات التي لم تتخذ لها أسماء جديدة فقد ظلت محتفظة باسم ـ التركمان ـ القاطنين في البلدان الواقعة شرقي بحر قزوين. وكذلك الحال بالنسبة للترك في العراق فانهم لم ينتحلوا لهم اسما خاصا لأنه مضى عليهم زمن طويل قبل أن يصبحوا تحت حكم الدولة العثمانية فيجوز والحالة هذه أن نسميهم ” تركمان)) (تقرير الاستفتاء لمسالة الحدود بين العراق وتركيا (النسخة العربية) ص٥٥ و٥٦. وجاء في الصفحة ٥٧ من التقرير نفسه ((ونرى أن الحكومة البريطانية مصيبة في قولها بان اغلب هؤلاء ـ أي التركمان ـ من سلالة عساكر طغرول،ومن سلالة جنود الخلفاء العباسيين وجنود آتابك،كما أن قسما منهم من سلالة جنود آل عثمان وضباطهم))
ورغم أن تاريخ التركمان في العراق يبدأ منذ سنة ٤٥ هجرية حيث يقول الطبري في صفحة ۲۲۱ الجزء الرابع من كتابه الشهير (تاريخ الأمم والملوك): ” إن عبيدالله (عبيدالله بن زياد) قام في شهر ربيع الأول سنة ٥٤ هـ (٦٧۳ م) بهجماته عبر (جيحون) على (بخارى) ثم على (بيكند) فقاومه الجيش التركي تحت إمرة الملكة (قبج خاتون) مقاومة شديدة جدا،جلبت انتباهه وإعجابه لما لمسه فيهم من شجاعة فائقة وحسن استعمال الأسلحة،فاختار منهم ألفي مقاتل يحسنون الرماية بالنشاب فبعثهم في العراق وأسكنهم البصرة “
كما يذكر الطبري في الجزء التاسع من كتابه المذكور،الصفحة ۱٤٤ ما يلي ((انه عندما استسلم يزيد بن هبيرة بمدينة (واسط) إلى جعفر المنصور سنة ۱۳۲ للهجرة بعد حصار دام عدة أشهر،كان معه ألفان وثلاثمائة رجل من الأتراك البخاريين ” نسبة إلى بخارى “كما يؤيد هذه الواقعة العديد من المؤرخين ومنهم الهمداني والبلاذري.
ويذكر الدكتور مصطفى جواد في مقال له نشره بمجلة (الدليل) العدد ۲،۱٩٤٦ ما يلي ((كما اجتذب قواد بني أمية الترك وجندوهم،كذلك اجتذبتهم بنو العباس،فقد كانت دعاياتهم بلغت بلاد الترك في تركستان وآسيا الوسطى،وثاروا على بني أمية واستنهضوهم داعين إلى عيش رفيع جديد وأحياء العدل والسنة،ودفع ظلم بني أمية عنهم والانتصار لأهل البيت. فتوافدت إليهم جموع غفيرة من الأتراك من طامع في مال وراغب في تبديل حال ومتطوع يظن طاعته لوجه الله))
أن مئات الشهادات التاريخية التي لا نرى ضرورة لتثبيتها إنما تؤكد حقيقة مهمة وهي : عراقة وأصالة الوجود التركماني في العراق. وبأن التركمان جزء لا يتجزأ من تاريخ العراق،وهم عراقيون بالأصالة،هاجروا إلى العراق على شكل موجات في ظروف تاريخية مختلفة من أواسط آسيا وتركستان ومن البلاد المناطق الشرقية المجاورة للعراق،ومن أتراك بخارى وسمرقند وأذربيجان وخراسان والسلاجقة وأوزبكستان وخوارزم والصغد وفرغانة والشبك والصارولية والماولية والقبجاقية وقرة قويونلية وأق قويونلية وقزلباش الصوفية. وهم استوطنوا القسم الجنوبي من العراق وشماله ووسطه،وامتزجوا مع أهله وأبنائه،منصهرين في بودقة الشعب العراقي وأصبحوا على مر التاريخ جزءا من نسيجه الأساسي،وهويته الوطنية. بدليل لأنهم لم يرضوا لهم بلد أخر غير العراق، رغم أن المواد المشار إليها أعلاه من معاهدة لوزان منحتهم مثل هذا الخيار في ترك العراق والتجنس بالجنسية التركية أو غيرها منذ ۱٩۲٦.
أن تاريخ أربعة عشر قرنا من الانتماء إلى تراب العراق يؤكد بما لا يقبل أدنى شك عراقية التركمان، بحكم الروابط التاريخية والدينية والاجتماعية ورابطة المصير المشترك، وهو الأمر الذي يمنحهم الحق في التمتع بحقوقهم القومية والثقافية والإنسانية والسياسية في عراق ما بعد صدام.