نوفمبر 22, 2024

هذا البحث يتقّوم أساسا على (الازماتية)، التي أصبحت أشبه ما يكون بالزاد الذهني للفرد العراقي. وننشئ هنا مقاربة سوسيولوجية متواضعة في محاولة لفهم أحد شخوص المجتمع العراقي وهو (أو هي) الذات المثقفة في واقعها وموقعها في ضوء مرتكزات علم الاجتماع.

وينقسم طرحنا إلى جزئيتين الأول هو الواقع المأزوم الذي يعيش فيه المثقف العراقي والثاني موقع المثقف ودوره في مواجهة هذا الواقع.

الراهن العراقي مُشكل بكل مفاصل وتفاصيل الحياة الاجتماعية العراقية بما يشمله ذلك بالتأكيد ما يواجههُ الفرد على المستويين العقلي والسلوكي والاتجاهات النابعة منه إلى غيره.

والمثقف العراقي كفرد وكعضو في المجتمع لا ينسلخ من مناخ هذا الواقع المرير ولا يملك الابتعاد عنه وهو قابع فيه. وجماع ما يمكن الحديث عنه حول الواقع الاجتماعي العراقي المعاصر إن العراق لا يزال تحت مظلة القمع والبؤس بشقيه المادي والمعنوي ولأسباب معروفة للجميع منها :

1- حالة العنف الدموي والإرهاب الذي تفشى بعد سقوط النظام بتبريرات من قبل جهات أصولية لم تجد لها مؤيدا سوى من ذواتها ومن أطراف تجد ملاذها في سفك الدماء وإشاعة الخراب كبقايا حزب البعث المنحل والجماعات الدينية المتشددة الهوية؟! ويرتبط على نفس الخط القتل العشوائي من قبل قوات الاحتلال والاغتيالات والأخذ بالثأر وغيرها من تداعيات انعدام الآمن وضعف أجهزته.

2- نقص الخدمات والبنى التحتية التي أثرت بشكل مباشر على يوميات الإنسان العراقي المتعطش لهذه الخدمات كتعطشه للحرية التي نالها بعد أربعة عقود من البطش.

3- الخلل والضعف في القيادات الإدارية ما نتج عنه الفساد الإداري والمالي التي وجدت لها أرضا خصبة بعد ضياع أنظمة الضبط في المؤسسات والدوائر الحكومية.

4- نشوء تكتلات عشائرية وأخرى حزبية وسياسية وثالثة عقائدية بشكلها المسلح– المليشيات– بررت تواجدها على الساحة العراقية بحب الوطن تارة! وحماية الإسلام تارة أخرى. مما نشأ عنه سلوكيات لاعقلانية تخاطب العقل الجمعي عوضا عن الاجتماعي لحماس طارئ أثر مواقف استفزازية من قبل قوات الاحتلال على وجه الخصوص.

 هذا غيض من فيض ما يجب ذكره على راهن العراق المعاصر. ويزيد الحالة بؤسا دخول أحزاب وتكتلات سياسية إلى العراق بعد سقوط النظام بشكل غير مألوف سابقا. فلم يكن المواطن العادي على دراية بهذا الكم الهائل من الأحزاب والأسماء المعارضة للنظام وكلها كان يطمح بإسقاطه والحلول محله. وبسبب دخول هذه التكوينات الحزبية إلى حلبة المراهنات السياسية بما تقدمه من عطايا ومكافآت (للشعب) العراقي، اصبح الإنسان العراقي يعيش في صدع أو انقسام بسبب رغبته في تحقيق ما تصبو إليه هذه الأحزاب من ناحية وارتيابه في مقاصد النخب السياسية في أدائها العملي للوعود والتعهدات من ناحية أخرى.

هذا الشك والارتياب يتولد نتيجة قلة الوعي السياسي للفرد العراقي لاعتياده الطويل على وعي مركزي ينطلق من القائد الضرورة! وكذلك للدخول المفاجئ للتكوينات السياسية التي لم يألفها هذا الإنسان طيلة العهد البائد.

بشكل إجمالي يمكن تحديد صعوبات عمل الفئات الثقافية العراقية (في مجال هذه الورقة تحديداً) بالمسائل الآتية:

1- الأزمة الفكرية أو الأيديولوجية. وتشتمل بدورها على قسمين: أزمة الخطاب وأزمة التخاطب. فهل أن الفئات الثقافية في مجتمعنا العراقي لديها من الوعي الثقافي الكافي لتشكيل خطاب ثقافي عراقي يتسم بالمباشرة وبنية الخطاب بشقيه (المرسِل والمستقِبل)، أم أن موانع ذلك تتشكل من خلال صعوبة التخاطب بين الأفراد المكونين للفئة الثقافية أنفسهم أو بينهم وبين المجتمع العراقي المتكون من ملل وطوائف وشرائح وعرقيات مختلفة بحيث يتعذر أثرها تكوين بنية خطاب ثقافي متمايز.

أولا: وجود ثقافة غير منتجة أو قلة الثقافة المنتجة (أي الإبداع): على الرغم من أن الفرد العراقي معروف باستهلاكه للقراءة وهذه الأزمة كما يشير (مناف ب، ص4) لا تتشكل من خلال المداورة بين المفردات المادية والفكرية للثقافة والمكونة لمنظوماتها المعرفية. لأنها إنما تبرز كناتج لتشظي ثقافة غير التي حاولت اختراق ما نسميه بثقافة الذات أو الهوية. فالأزمة في الثقافة غير المنتجة إنما ترتبط بمجمل الكينونة أو الوجود الثقافي.

وكل ذلك قد يتأتى من سرعة الحكم على الثقافات الوافدة أو المستعارة بأنها (غزو) يهدد ثقافة الذات – الأصالة متشبثين بإمكانية الإبداع دون الاستعانة بالآخر. وقد تتطور مثل هذه الحالة إلى حد أن الإنتاج الثقافي سيكون صورة تحويرية عن نسخة الأصل (الماضي) للسلف الصالح!.

فالعديد من المثقفين لا يزال يعاني بشكل شعوري أو لا شعوري من عقدة الماضي واجترار النصوص والأحداث والمواقف بشكل سافر أو ضمني لأسباب منها: إننا كأفراد ومجتمع تستفحل عندنا ظاهرة التهويل (amplifying) في اللغة والثقافة والسلوك ومنها قطعا تهويل وتضخيم الشخصيات التاريخية والنصوص التراثية باستدعاء (ليس بالإمكان أبدع مما كان).

ويستوطن هذا الداء عندنا إلى حد الإفراط بهذا الماضي أو التهويل بـ (الأنا و النحن) وصولاً إلى مستوى التفريط بالحاضر (الآخر). وربما كان من الأجدى أن نصف المثقف عندنا (بل والإنسان العراقي أيضا) كمن يمشي إلى الأمام وينظر إلى الخلف.

وهناك من يتعامل بشكل عكسي تجاه المسألة الثقافية ويستعير ثقافة الآخر بشكل مطلق رافضاً العودة إلى الوراء. يلخص (جعيط، ص21) هذه الإشكالية بقوله: أن المثقفين العرب لا يعرفون تراثهم كما يجب ويتعاملون معه تعاملاً غير سليم.. إما برفضه رفضاً تاماً بأسم الحداثة وإما بتقبله التقبل المطلق حتى يصبح الفكر خاضعاً لقوانين الماضي (أو ما يسميه بمرجعية الماضي والحافظة الجماعية).

وهناك تهويل جمعي collective تراكمي- تاريخي لدور المثقف وقدرته الإنتاجية على التغير والتأثير الجماعي أو القرارات السياسية. فرغم أن صورة المثقف قد تكون مهلهلة في العقل الشعبي إلا أن هذه الصورة تكون زاهية في أوساط وعقول اجتماعية أخرى تصل المثقف إلى البناء الفوقي مؤملة في تأثيراته.

هذا التهويل لدور المثقف في إمكانية التأثير ينبع من تركة بعض المثقفين الذين اصبحوا فيما بعد إبطالا بالمعنى التراثي والتاريخي متناسين أن ظهور البطل هو مرحلة تاريخية وضرورة لموقف. هذا من جهة ومن جهة أخرى ليس كل من امتلك الذهنية المفكرة يمتلك بالضرورة عنصر الجرأة ومواجهة المواقف الصعبة التي تتطلب نقدها والتأثير عليها. ينصحنا (بو قمرة، ص121) بإعادة المثقف إلى حجمه الطبيعي وإخراجه من حجم الكائن الخرافي الذي وضع فيه وبالتالي إعطاءه البعد الاجتماعي والإنساني … وسوف نكتشف أن المثقف يتحمل نفس الضغوط التي يتحملها الآخرون ويواجه نفس الأزمات من نفس الموقع الذي يوجد فيه الأناس العاديون. وهناك زاوية أخرى تتمثل في تخليص المثقف من ذلك البعد التاريخي الذي علق به نتيجة الدور الفعلي الذي اضطلع به المثقفون أوائل القرن العشرين في عملية النهضة وانتقال هذا الدور إلى فئات اجتماعية أخرى.

المثقف بهذا المعنى عضو من الكل الاجتماعي الذي يحتويه مع أعضاء آخرين منهم الفاعل وغير الفاعل. عضو يملك من الدور وشروط الانتماء للمجتمع ما يؤهله للتأثير وفقاً لآلية اشتراطية وهي مساهمة الأعضاء الآخرين في عملية التغيير والتنمية.

ثانياً: بقاء رواسب القمع السياسي للفئات المثقفة والعلمية على الرغم من زوال النظام القمعي. إلا أن طول فترة الاستبداد وسطوته في عدم إبراز الفئات العلمية إلى السطح وتهميشها سياسياً لتخوفه من فعلها التغييري أدى إلى إحاطات نفسية في زمن النظام أثرت فيما بعد على قلة الإنتاج (الإبداع) الذي ظهر بعد سقوط النظام بشكل تكاسل وترهل ذهني وربما عقد وأمراض نفسية زائداً على الحسرات في فوات فرص الإبداع أثناء فترة الخصوبة من عمر الإنسان المثقف.

ثالثاً: وبُني على التهميش السياسي السلطوي تهميش اجتماعي لدور الفئات الفنية والثقافية في صنع الحياة أو تغييرها نحو الأفضل. لان المجتمع قد اعتاد على أن السياسة هي المحور الأساسي في التغير أو التغيير الاجتماعي. وبذا اعُتبر الحاكم هو المركز وما سواه هو الهامش أو الأطراف، واعتقد إننا لازلنا محكومين في التغير الاجتماعي بفعل النخب السياسية لا العلمية التي بنى عليها “اوكست كومت” أمله في المرحلة الأخيرة من مراحل الإنسانية. وعلى الرغم من أن النخب العلمية والثقافية تُعد نخبة غير حاكمة ولكنها فاعلة مؤثرة في الوسط الاجتماعي حسب نظرية باريتو، إلا أن ضوءها الفاعل والمؤثر لازال خافتاً في مجريات التغيرات الحاصلة في المجتمع العراقي.

لذا فأن هذه الفئات تبحث عن مركز اجتماعي– إداري– سياسي مؤثر يساعدها على إنجاز الوظيفة الخطيرة التي يتطلبها المجتمع منها وهي قيادة التقدم في العلاقات الاجتماعية والسياسية والحضارية، فالتهميش الاجتماعي يعني وجود ارتباك حضاري لفئة المثقفين والمفكرين بالنظر لمعيشتهم وفق مجموعتين من القيم الاجتماعية إحداها نابعة من الحضارة الأم والأخرى من الحضارة التي يجمع فيها نفر كبير من رجال الفكر والمعرفة حصائلهم الثقافية (مناف، 76).

رابعاً: ويترتب على التهميش الاجتماعي لحملة المعرفة تأسيس قناعة لدى جزء غير يسير منهم بإشباع الحاجات الأساسية وتوفير كفايتها لمجرد البقاء الحياتي فيما تتم إحالتهم اجتماعياً وإدارياً إلى مجرد موظفين يتلقون مخصصاتهم المادية من الدولة. وعادة ما تفرز مثل هذه المسالة كوادر كسولة توضع تحت يافطة البطالة المقنعة التي ترضى بالتراتب البيروقراطي والسلوكيات الوظيفية الروتينية بدون إحداث أي تأثير ذي معنى في الحياة الفردية والاجتماعية. وبذا فأن هذا القسم من الفئة العلمية يصح ما يطلق عليه بالمتخصص الامي (أي الفرد الذي اكتسب تعليماً من أجل أن يعمل كمجرد جزء صغير جداً في الماكنة الإنتاجية ومن ثم ينال حق تذوق ثمرات الاستهلاك. ومثل هذه التربية لن تخلق وعياً اعمق بالذات وبالمجتمع) (كاميليري، 76). وهم يعانون من شيخوخة مبكرة من الناحية العلمية والعملية مقابل النشاط الإنتاجي المبدع لقسم آخر من الفئات المثقفة بغض النظر عن عامل العمر.

خامساً: تتزامن صعوبات تشكيل الخطاب الثقافي بشكل عام مع صعوبة أخرى تتمثل في تكوين هوية المثقف في مجتمع متآكل سياسياً وغير متجانس اجتماعياً. ففي ظل الفوضى السياسية والإرهاب والتدمير والتضييع لمجتمع برمته يعود إنتاج ذوات ثقافية ناطقة وتتمتع بخطابية مؤثرة ومباشرة ضعيفاً بسبب فقدانها للقوة من جانب ولعدم تجانسها من جانب آخر وذلك لانتماءاتها المختلفة إلى طبقات وعرقيات واديان مختلفة، وأخيراً إلى عدم احتوائها لنفسها في تكتل فئوي بشكل جماعات ضغط ذات قيم وأهداف مشتركة تساهم في الحدث السياسي الذي يؤول إلى التغير المنشود من قِبلها.

وبذا فأن العقل الشعبي يستغل الفرصة في ظل غياب الهوية الثقافية لترسيخ العادات والتقاليد القائمة على فهم اجتراري أو وعي أسطوري لأزمنة فائتة وتكريس ثقافة مدجنة تنساب في قنوات اللاشعور ابتداء من الطفولة وانتهاء بالمؤسسات العلمية.

سادساً: وترجع صعوبة الخطاب الثقافي العراقي إلى تعدد الأصول الاجتماعية لهذه الفئات وهنا تنقسم المشكلة إلى قسمين: الأول هو مشكلة التخاطب الثقافي الداخلي بين أعضاء يقتسمون التحصيل العلمي ويفترقون في انتماءاتهم وولاءاتهم الدينية والعرقية والاجتماعية (طبقة، عشيرة… ). فمنهايم رأى في (المثقفين المتجردين اجتماعياً)(1) فئة لا طبقية نسبياً، تأتي بصورة متزايدة من منطقة شاملة من الحياة الاجتماعية تربطها التربية بعضها إلى بعض وتشمل كل تلك المصالح التي تتخلل الحياة الاجتماعية. وبسبب هذه الخصائص، فالمفكرون قادرون على الحصول على نظرة موضوعية وكاملة نسبياً عن مجتمعهم وبخاصة عن الفئات المختلفة المصالح فيه. وعلى العمل باستقلال على ترقية عدد أكبر من المصالح الاجتماعية الشاملة. ويرى (بوتومور، ص 75-76) أن الجامعات والمهن الفكرية شكلت وسيلة رئيسية يستطيع بها الأفراد الموهوبون من الطبقات الدنيا الارتفاع إلى مراكز أكثر أهمية. لذا فإن التركيب الاجتماعي للنخبة الفكرية تختلف اختلافا بيناً عن غيرها من النخب. إذ يمكنها أن تتحالف مع الحركات الاجتماعية والثورية للطبقة الأدنى. فعوضاً من أن يكون لها مصالحها المهنية الخاصة، فأنها تشترك أو تقسم ولائها بين الطبقات الاجتماعية الكبرى.

وإذا كانت النظرة الموضوعية سائدة في المجتمع الغربي بعيداً عن التأثيرات الاجتماعية فأنها في مجتمع غير متجانس وتعددي كالمجتمع العراقي تأخذ طابعاً آخر. فالموضوعية تتستر ورائها عواطف وميول نحو العشيرة والطائفية والطبقة وفق نمط لطبيعة العقل البشري هو التحيز.

والمشكلة الثانية هي عدم قدرة هؤلاء الأفراد غير المتجانسين على تشكيل اتجاه واحد يمثلهم لضعف إمكانية التنازل عن ولائهم وانتماءاتهم المختلفة، ونتج عن ذلك فقدان فاعليتهم كجماعة ضغط تمارس دورها كباقي الجماعات التأثيرية كالحزب أو العشيرة، وهنا تعامل الفئة المثقفة كأقلية ليس لها دور فاعل ولا يجمعها سوى رابط واحد هو التحصيل العلمي.

إن الفئات المثقفة في مجتمعنا تجد نفسها في مواقف حرجة عند محاولتها تغيير الواقع الذي تتفاعل معه أو محاولتها إبراز الهوية والخطاب الثقافيين. فهم أمام طريقين:

الأول أن يرفعوا المجتمع إلى مستواهم، والثاني أن ينزلوا هم إلى المستوى الفكري والاجتماعي للبيئات التي يعيشون فيها، وهنا تقع الإشكالية حول طريقين أحلاهما مرّ.

الطريق الأول: ثقافي بحت يبحث عن النضوج الفكري دون الاصطدام بالمجتمع، وربما أدت هذه الطريقة بالمثقفين إلى الاعتزال لابتكار مفاهيمهم الخاصة التي تحتاج إلى شروحات وفقا لطقوسية سمجة لا تلائم إلا أزمنة القرون الوسطى، حيث يُخبأ المفهوم العلمي– الثقافي– الديني في طيات الكتب للنخب العارفة ويحاط بشعائر التفسير وتفسير التفسير والعمل بالنهاية كلام في كلام كما يقول زكي نجيب محمود.

وعموما فإن طريق التصوف الثقافي هذا شائك جدا بالنسبة لعملية إدخال المفاهيم إلى العقلية الشعبية بسبب عزوف المثقف عن مجتمعه ويمكن عده من هذه الناحية فاعلا سلبيا.

أما الطريق الثاني: فهو ثقافي اجتماعي حيث يتنازل السيد المثقف ليمشي في الشارع والسوق ويتحدث إلى الشريف والوضيع ليشارك العوام في حياتهم ويتفهم معيشتهم بالملاحظة المباشرة أو ما أطلق عليه الأنثروبولوجيون بالتعايش أو المعايشة، وهنا على المثقف أن يتحمل عبئين: الأول: انه سيتعايش مع القيم والأعراف والعادات غير الملائمة التي تحتاج إليه كي يستأصلها؛ والثاني: سيكون في موقف المجابهة مع المجتمع الذي ينتقد مكوناته التي دأب عليها.

والمجتمع العراقي وخاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا بأمس الحاجة إلى مثل هذا المثقف الملتزم بقضية (فاعل إيجابي) رافضا إحاطة نفسه بنسيج من نظريات ومصطلحات هشة يحوكها له الآخرون ويرددها كالببغاء. ويبتعد عن الخوض في جدليات عقيمة قد تضر ولا تنفع.

وتواجه هذه الفئات صعوبات تنشا بين المجددين والمجترين– الحداثيين والمقلدين- مما يحدث فجوة أو مسافة نفسية بين الطرفين يسهم في أزمة التحاور أو التخاطب، واصل هذه المشكلة هو النزعة التغييرية لدى الفئات المثقفة تقابلها النزعة المحافظة ضمن الفئة نفسها أو من شرائح اجتماعية أخرى.

ويتصل بما ذكر من صعوبات في عمل المثقفين وتحديدا التكنوقراط هي صعوبة مشوبة بالتخوف من تحول التكنوقراط إلى إدارة بيروقراطية احتكارية تمهد لمصادرة الموضوعية التي يتسمون بها جرياً وراء نزعات للمكانة والقوة والتعسف في استعمالها والاستبداد بالرأي، فلا يعتقد فيبر أن قوة البيروقراطية يمكن أن تحصرها وتحدها السلطات السياسية حتى في النظام الديموقراطي، إن مركز بيروقراطية تامة النمو من القوة في الأحوال العادية هو أمر ساحق لا يقاوم. فالسيد السياسي يجد نفسه في موقف الهاوي المواجه للخبير، في مواجهته للموظف المدرب الذي يقف داخل الإدارة (كاميليري، 38).

وبسبب قوة البيروقراطية التي قد لا تقاوم حتى في الأنظمة الديمقراطية كما يشير فيبر فأنها قد تتحول إلى ما اسماه الناقد اليوغسلافي دبيلاس بالطبقة الجديدة حيث تتحول إلى بيروقراطية سياسية تتميز بكل خصائص وصفات الطبقات الحاكمة السابقة بالإضافة إلى بعض الصفات الجديدة الخاصة بها، وتتألف الطبقة من الذين يتمتعون بامتيازات خاصة وافضليات اقتصادية بسبب الاحتكار الإداري الذين يتقوون به (دبيلاس، 60).

إن ميل بعض المثقفين للتسامي بذواتهم عن طريق العمل الإداري البيروقراطي يمكن أن يؤدي كثيرا إلى اهتزاز صورة المثقف في وسطه بسبب ابتعاده عما خلق لأجله وهو العمل بالعقل وتوعية الجمهور، وتحول المثقف إلى متاجر بالفكر عن طريق الوصولية واحتكار السلطة يبين زيف مثل هذا المثقف أصلا باستثناء من يسخرون مثل هذه السلطة للخدمة العامة. وربما كان عمل بعض المثقفين التفاف على مهنتهم وطريقا للوصول إلى المركز البيروقراطي والممارسة السلطوية أو الطغيان في اسوأ الأحوال، ومن المؤسف حقا أن نرى مثل هذه الحالة تطال ليس مستوى المؤسسات العامة على المستويين السياسي والاجتماعي فقط بل أيضا تخترق الوسط الثقافي نفسه ما يمكن أن نسميه البيروقراطية الثقافية حيث البحث عن المنزلة – المركز في الهرم الإداري لمؤسسات الثقافة دون أداء الاستحقاق الثقافي على الوجه المطلوب. وعموما فإن اغلب المنتجين في الثقافة أبدعوا وهم بعيدون عن البحث وراء المراكز والأدوار وبالتأكيد فإن انخراط المثقف في العمل الإداري البيروقراطي يقلص كثيرا من إنتاجه الفكري.

سأطرح مشكلة التنوير بوصفة قد تثير اشمئزاز بعض المثقفين، فأتناولها بوصفها (عملية) تتضمن الآتي:

1- إنها تشمل المجتمع وخاصة القاعدة العريضة منه ممن دأبنا أن نصفهم بـ (العوام، المواطنين، الشعب… ) لا حصرها في النخبة الأرستقراطية أو الثرية أو حتى المثقفة موضوعة الطرح، فلا خير في تنوير يشمل فئة دون أخرى تدجن حصارها الأرثوذوكسي على الفئات الفاعلة والعاملة من المجتمع.

2- وهي طريقة استخدام العقل من قبل فئات المجتمع– القاعدة- كي تجد طريقها نحو وعي الواقع وفهم الماضي وتوقع الآتي والأعداد له، وهذا الكسب النفس– اجتماعي يفتح لغة الحوار مع الآخر عوضاً عن إلغائه أو تهميشه وخاصة في مجتمع غير متجانس وتعددي بأطيافه كما العراق.

3- والأمر الثالث يشمل عملية Process إدخال المفاهيم الثقافية (بشكلها التجريدي المبسط) إلى عقل الفرد العراقي بما يشمل مصطلح عملية من (أدوات، تنظيم، إدارة، فن العمل، وضع الأهداف الأساسية والثانوية– البعيدة والقريبة– والتغذية الاسترجاعية Feed back)وما إلى ذلك. وقطعا فان العملية هذه ستتضمن إدخال مفاهيم جديدة وإزاحة أخرى قديمة أو تصحيحها في أسوأ الأحوال.

وإذا كانت المرحلة الثانية (استخدام العقل) إعلامية توعوية يمكن أن يقوم بها نشطاء من خارج مسرح الثقافة– مع الدعم الخطابي من قبل المثقفين– إلا أن المرحلة الثالثة تكشف عن دور المثقف الفعلي في التنوير الثقافي، وهو العبء الأكبر في مرحلتنا الراهنة أي مرحلة الخطاب الثقافي الموجه لا المنكفئ على الذات المفكرة.

إن إدخال (وحتى إستدخال) المفاهيم الثقافية إلى العقلية العراقية وخاصة إلى عقلية الـ (تحت) الاجتماعي العراقي وإزاحة المفاهيم القبلية والعشائرية سيكون جزءاً من عملية تخطيط وتنمية شاملة لابد أن تضطلع بها جهات ذات رساميل ضخمة من أجل تحقيق الهدف– الحلم وهو (تغيير) شخصية الفرد العراقي.

ولابد أن لا تقتصر عملية التنمية على الأجزاء الاقتصادية من الخطط التنموية السنوية والبعيدة المدى والتي تبذل من ورائها ولأجلها أرصدة طائلة من أموال (الشعب)، بل إن الترافق مع توعية– تنوير العقل بإجراء الممارسات الفكرية وتعليمها وبذل قسم من الناتج القومي لسد هذا الغرض سيكون فرصتنا لتقليل الهدر من الموارد في المستقبل وردم الثغرات التي تتسع بتقدم التخلف!

فتنوير العقل يطمح بالتأكيد إلى خلق الإنسان الاقتصادي (أو الرشيد كما يفهمه بعض الاقتصاديين) بينما يغوص المجتمع الجاهل في الفقر والضياع لسوء استخدام الموارد البشرية منها والطبيعية. ولربما كانت الإعلانات المتكررة في شوارع العاصمة المنادية بالاقتصاد في استعمال الطاقة الكهربائية مثالاً صارخاً على ذلك. فعلى الرغم من حشد أموال طائلة للمادة الإعلانية ووجود (بعض)النيات الحسنة من وراء القصد إلا إننا نرى الفرد العراقي لا يأبه بمثل هذه- الترهات– لعدم تناوله وتفاعله العقلي معها سعياً وراء ملذاته واستخدام ما في اليد لقضاء اكبر شطر من السعادة حسب المفهوم النفعي لبنتام.

لماذا اهتزت صورة المثقف عند سارتر بعد الثورة الطلابية 1968 ولماذا نعى فوكو المثقف الكوني مالك الحقيقة وممثل الكل معتبرا انه ولى الزمن الذي كان يقول فيه المثقف الحقيقة للناس. ولماذا يعبر ريجيه دوبريه بعد اعتزاله النضالي عن إحساسه بعدم الجدوى من وجود المثقفين كسحرة يصنعون المعاني ويبيعون الأوهام مشككا في قدرة المثقف على تنوير العقول والتأثير في الرأي العام أو تنوير المجتمع؟ (حرب،22).

يمكن النظر إلى هذا اليأس من دور المثقف بأنه في محط المواجهة أمام قوتين أو سلطتين إحداهما السلطة الحاكمة وأجهزتها الأخطبوطية التي تحيط نفسها بـ (سور الصين العظيم) (2)!

والثانية هي سلطة المجتمع الذي يحيط نفسه بالأعراف والعقائد التي يحاول المثقف نسخها بإمكانياته المتواضعة.

يحاول المثقف إمام كلتا القوتين أن يسلك الطريقين: طريق المواجهة (المباشرة وغير المباشرة) وطريق التغير وصولا إلى التغيير. فمنهم من يفشل في كليهما ومنهم من ينال إحدى الحسنيين ومنهم من يسعفه الحظ للنجاح في الطريقين. إلا أن مسالة النجاح والفشل تعتمد على نوع المثقف. فهناك مثقف يخطط بشكل علمي للمواجهة والتغيير وهناك من يخطط بعقلية العجائز والأسلاف وهناك من لا يخطط أصلا ويرمي نفسه في أتون المحرقة. وهناك أخيرا من يخطط ولكن سلطتي السياسة والمجتمع أقوى عليه من المجابهة.

علينا إذن أن نرسل بلاغاً لعله يصل إلى أرواح سارتر وفوكو بعدم الياس من كل المثقفين وشطب أسمائهم من صفحات التاريخ أو تهوين دورهم وعدم الجدوى من وجودهم لدى تفهمنا للأدوار التنويرية للشهيدين الصدرين والتي هي قطعا امتداد لتنوير سالف من قبل نقاط مفصلية مضيئة لأوتاد حوزوية (وإن لم يكن اغلبها في موقف المواجهة)أمثال المجدد محمد رضا المظفر والحبوبي والشيرازي وإسلامية أزهرية كعبدة والأفغاني.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

– أبو قمرة، هشام (1996): لقاء في حوارات فكرية، في الحداثة والتقدم، تحرير رضا الملولي، نقوش عربية.

– بوتومور، ت (1972): النخبة والمجتمع,ترجمة جورج حنا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

– دبيلاس، ميلوفان (..): الطبقة الجديدة، ترجمة مروان الجابري، المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر.

– حرب، علي (1996): أوهام النخبة أو نقد المثقف، ط1، المركز الثقافي العربي، بيروت.

– كاميليري، جوزيف (1984):ازمة الحضارة، ترجمة فيصل السامر، دار الشؤون الثقافية، بغداد.

– مناف، متعب أ (1965): ثورة على القيم، ط1، مطبعة التلغراف، بغداد.

– مناف، متعب ب (2004): ازمة الخطاب الثقافي العراقي، جريدة الاديب، بغداد.

– جعيط، هشام (1996): لقاء في حوارات فكرية، في الحداثة والتقدم.

 1- تجرد اجتماعي: أي النظر الموضوعي للأشياء والقضايا مجردة عن العلاقات الاجتماعية والانتماءات والولاءات.

2- رمز لقوة أجهزة الدولة وستارها الحديدي. فلضخامة سور الصين العظيم فانه يُشاهد من القمر. ولفخامة (سور)الدولة فان الفرد يشاهده أينما ذهب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *