اسم الكاتب : كامل كمال
كثيرًا ما يثير غير المتديّن في عالمنا العربي – متأثرًا ببعض فلاسفة الغرب – أن الدين نشأ في حياة الإنسان القديم بسبب ما أسماه الفيلسوف البريطاني رسل «فتنة الخوف»[1]، فيعتقدون أن الإنسان يختار التديّن بسبب حاجته إلى الشعور بالأمان ودفع الخوف، وبما أن الإنسان القديم كان يخاف من الظواهر الطبيعية، كالرعد والزلازل والبراكين والفياضانات والكوارث والأمراض، اخترع فكرة الدين ووجد في الإيمان بالله كهفًا يلتجئ إليه كقوةٍ عظمى قادرةٍ على حمايته من المخاطر والتهديدات والأزمات، فيرتفع الخوف من داخله، ويحقق الشعور بالأمان النفسي.
يقول رسل: «يقوم الدين، برأيي، بصورةٍ أساسيةٍ وأوليةٍ على الخوف، إنه جزئيًا الخوف من المجهول… إن الخوف هو أساس الأمر كله – الخوف من كل ما هو غامض، الخوف من الهزيمة، والخوف من الموت، إن الخوف هو أبو القسوة وأمها، لذا، لا عجب إذا ما كان الدين والقسوة يسيران يدًا بيد»[2].
ومن أجل أن يشوّهوا صورة الدين بنحو أشد، اعتبروا أن الدين حالةٌ مرضيةٌ تصيب الإنسان، لأنه إذا حلّلنا حقيقة المرض نراها عبارةً عن حدوث انحرافٍ عن الحالة الطبيعية عند الإنسان، وهذا ما يحصل عند المتديّن. لذا يكمل رسل وجهة نظره بقوله:»إنني أعتبره – أي الدين – مرضًا ولد من الخوف ومصدرًا لبؤس العرق الإنساني غير المحدود»[3].
وقد عمّق سيجموند فرويد التشخيص المَرَضي للدين، حيث اعتبر الأفكار الدينية ولدت بفعل حاجة الإنسان إلى الدفاع عن النفس ضد تفوُّق الطبيعة الساحق، ثم صوّرها الإنسان لنفسه على أساس أنها وحيٌ مُنزل[4]، و»أن الدين ما هو إلا عصاب تشكو منه الإنسانية»[5].
وإذا سألناهم عن القوة التي تسـتطـيع أن تخلّصنا من هذا الخوف المرضي، فيجيبون أن الحلّ يكمن في الإيمان بالعلم وقدرته على تغيير حياة الإنسان. يتابع رسل قوله: «العلم يستطيع أن يساعدنا في تجاوز هذا الخوف الذي يصيبنا بالجبن والذي عانى منه الجنس البشري لأجيال عديدة»[6].
ولمناقشة هذا التصور عن طبيعة الدين في حياة الإنسان نطرح عدة نقاط:
أولًا: لا يمكن تصنيف الخوف بحد ذاته كحالةٍ مرضيّة، لأنّ الخوف حالةٌ نفسيةٌ يعيشها كل إنسانٍ سويٍ بشكلٍ طبيعي، نعم، قد يتحوّل الخوف إلى حالةٍ مرضيّةٍ فيما لو تجاوز حدّه، كما هو شأن كل صفةٍ إنسانية، ومؤشر معرفة ذلك بأن يفقد الإنسان بسبب الخوف توازنه الطبيعي في التعامل مع الأشياء.
وبناءً عليه، ما المشكلة في أن يكون الدافع الذي يحرّك الإنسان نحو الدين هو الخوف الطبيعي الذي يعيشه كلّ إنسان سويّ كي يشعر بالأمان، ويدفع عن نفسه الضرر الأخروي والعقاب المحتمل في حياة ما بعد الموت.
فما يذكره غير المتدينين – من أنّ عامل حاجة الإنسان إلى الدين هو الخوف – نسلّم به، ولكنه لا يصلح أن يكون ذريعةً بيدهم، بل على العكس من ذلك هو حجةٌ قويةٌ بيد المتديّن، فإذا كان الإنسان يجد في الله سبحانه وتعالى أمانه، {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[7]، فما المشكلة في أن يسعى الإنسان للوصول إلى الأمان والطمأنينة ودفع الخوف بواسطة التدين والإيمان بالله تعالى؟!
وقد اعترف أغلب علماء النفس أن الإنسان يجد الشعور بالأمان في الدين، فإذا كان الشعور بالأمان والسعادة هو حالةٌ مرضيةٌ وغـير سوية، فماذا تكون الحالة الطبيعية إذًا؟! الحقيقة أن انعدام الشعور الديني هو الحالة المرضية لا العكس، لأنه يسبب الاضطراب ويزرع الشعور بالقلق في الشخصية.
يقول كارل يونج: «انعدام الشعور الديني يسبب كثيرًا من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الأمان والنزوع نحو النزعات المادية البحتة، كما يؤدي إلى فقدان الشعور بمعنى ومغزى هذه الحياة ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع»[8] .
ثانيًا: إنّ الشعور بالخوف هو أحد العوامل التي تدفع الملحد نفسه إلى العودة إلى الدين، كما تفيدنا الكثير من التجارب التي يرويها لنا الراجعون من غرق الإلحاد إلى شاطئ نجاة الإيمان، ففي الكثير من المحطات – خصوصًا تلك التي يمر فيها الإنسان بمواجهة الصعوبات والبلايا – ينجذب القلب إلى قوةٍ كونيةٍ عظيمةٍ ويلتجئ إليها لتحقّق له الأمان، يقول تعالى: {وإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمً}[9]، ويقول تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}[10]، إلخ.
ثالثًا: إن تفسير نشوء الدين بعامل الخوف حصرًا هو تبسيطٌ لطبيعة الحياة الدينية عند الشعوب، وإلا، لو كان الخوف هو السبب الحصري لنشوء الدين، فمن المفترض أن ينتفي التدين عند انتفاء الخوف، وأن نجد أنه كلما ضعف الخوف زادت النزعة الإلحادية، وكلما زاد الخوف زاد الإيمان، في حين أننا نجد التدين يزداد عند المطمئنين والآمنين، كالأنبياء والأولياء، أما الملحد فهو الذي يعيش الخوف والقلق الوجودي.
رابعًا: يدعي الملحدون أيضًا أنه كلما تقدّمت الاكتشافات العلمية ضعف الخوف في حياة الإنسان، في حين أننا جرّبنا أنه كلما تقدّم العلم ازدادت مخاوف الإنسان وشعوره بالقلق والاضطراب، فمحاولة الملحدين والماديين إحلال العلم مكان الدين هي محاولةٌ لتأليه العلم، فهؤلاء سواء شعروا أم لم يشعروا قدموا لنا العلم كإلهٍ منقذٍ للبشرية.
وفي هذا السياق، حاول بعض الملحدين تصوير الدين على أنه وليد الجهل، معتبرين أن الإنسان البدائي بسبب جهله أسند الظواهر الطبيعية إلى إلهٍ يتحكّم بها ويديرها، فكلما تقدّم العلم واكتشف الإنسان الــــــقوانين الفيزيائية والبيولوجية وغيرها تراجع الدين خطوةً إلى الوراء[11].
يقول جورج بولتزر: «إن الديانة لمّا كانت تتولد من الجهل فإنها تُحِل محل التفـسيرات العــلميـة تفسيراتٍ خيالية، فتعمل بذلك على ستر الواقع وإسدال الستار على التفسير الموضوعي للظواهر، ولهذا كان الرجل المتدين مناوئًا لمبادئ العلم التي هي من عمل الشيطان، لأنه حريصٌ على أوهامه»[12].
وهذه الفكرة أيضًا من السخافة بمكان، لأنه لا يوجد أدنى ارتباطٍ وتلازم بين اكتشاف القوانين الحاكمة على الطبيعة وبين نقص الإيمان بالله تعالى، إذ الإيمان بالله تعالى لا يلغي الاعتقاد بأن هذا الكون يعمل على ضوء قوانين يمتلك الإنسان القدرة على اكتشافها والوصول إليها.
ولو كان هناك تناسبٌ عكسيٌ بين العلم والدين، فلماذا نرصد انتشار ظاهرة التديّن بقوة بين العلماء التجربيين والمخترعين والفيزيائيين والأطباء؟!! ولماذا نلاحظ أنّ أكثر العلماء عبر التاريخ هم من المؤمنين بالله تعالى؟!.
بل، هناك تناسبٌ وثيقٌ بين تقدّم العلم وارتفاع نسبة الإيمان بالله تعالى، لأن العلم أداةٌ تكشف لنا دقة هندسة وتصميم هذا الكون، ولذا دعانا القرآن الكريم إلى التأمل والتدبر في الظواهر الكونية والطبيعية المحيطة بنا لأنها آيات وعلامات آفاقية تعمّق معرفة الإنسان بالله تعالى وتربطه به.
فالله تعالى يتجلى في عصر العلم.
والعلم يدعو إلى الإيمان[13].
——————————-
[1]– رسل، برتراند، لماذا لست مسيحيًا؟، ترجمة عبد الكريم ناصيف، دار التكوين، دمشق-بيروت، الطبعة الأولى، 2015م، ص 26.
[2]– المصدر نفسه، ص 35.
[3]– المصدر نفسه، ص 37.
[4]– انظر: فرويد، سيغموند، مستقبل وهم، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط4، 1998م، ص 25-29.
[5]– فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط4، 1986م، ص 78-79.
[6]– رسل، المصدر السابق، ص37.
[7]– سورة الرعد، الآية 28.
[8]– العيسوي، عبد الرحمن، دراسات في تفسير السلوك الإنساني، دار الراتب الجامعية، بيروت، 1419ه، ص 193.
[9]– سورة يونس، الآية 12.
[10]– سورة العنكبوت، الآية 65.
[11]– فويرباخ، لودفيغ، جوهر الدين، ص47. أنجلز، فردريك، لودفيج فورباخ، ص 64.
[12]– بولتزر، جورج، أصول الفلسفة الماركسية، ج 1، ص208.
[13]– يراجع بهذا العنوان كتاب كريسي موريسون، الذي كان رئيسًا لأكاديمية العلوم بنيويورك وعضو المجلس التنفيذي لمجلس البحوث القومي، وزميلًا في المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي.