اسم الكاتب : شذى خليل
مجلس الإعمار العراقي في العهد الملكي يعد من أفضل ما مر على العراق من نهضة اقتصادية حقيقية يوثق انجازاته ومشاريعه بين 1954 و 1957 نتحدى من جاؤوا بعده ان كانت لديهم خطط تنموية للعراق تعادل مشاريع مجلس الاعمار في ظل ميزانية لا تتعدي بضعة ملايين من الدولارات يوم لم يكن يعرف العراق المليارات لكن اموال الشعب كانت مصانة وبأيادٍ امينة .
استمر العهد الملكي 38 عاماً بين 1921 و1958، حيث كان رئيس الوزراء آنذاك، نوري السعيد الذي تولى المنصب 14 مرة، ولا تزال الذاكرة الشعبية تسمي تلك الفترة بـ«عهد نوري السعيد»، وارتبط اسم السعيد بمنجز لا يزال هو الأهم في تاريخ الدولة العراقية الحديثة، وهو «مجلس الإعمار» الذي كانت توضع كل موارد النفط العراقي في صندوق خاص به، بينما يجري تمويل الخزينة العامة لأغراض الرواتب والأجور والتشغيل من مصادر أخرى زراعية وصناعية وضرائب وسياحة.
وخلال سنوات عمل المجلس الثماني منذ تأسيسه في 1950، تم إنشاء مشاريع عمرانية وبنى تحتية كبرى لا تزال شاخصة حتى اليوم.
في 25 شباط/ فبراير 1951 أرسل بنك الإعمار الدولي بعثة إلى العراق ضمت عددا من الخبراء والمستشارين في ميادين الاقتصاد ومجالات الزراعة والصناعة والتعليم والصحة والإسكان، كان هدفها دراسة إمكانات العراق الاقتصادية، ووضع برامج تنمية لإعمار البلد، وبعد أربعة أشهر، أصدرت البعثة توصياتها في تقرير تفصيلي للحكومة العراقية في 27 حزيران/ يونيو 1951.
تميز مجلس الاعمار بافتتاح مشاريعه المنجزة خلال فترة عمله في العهد الملكي في أسبوعين، الأول في نيسان 1956 والثاني في آذار 1957.
وبحسب المؤرخين، ان “البعثة حينها أرادت إقامة هيكلية “اقتصادية” موازية للحكومة العراقية وغير خاضعة لها، تمكنها من العمل باستقلالية ومهنية، ولا ترتبط بالحكومة سوى بإشراف رئيس الوزراء وعضوية وزير المالية”.
فقبل هذا التاريخ، تميز العراق بضعف التنمية خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية وتداعياتها في السنوات التالية، جرت محاولات حكومية حثيثة لإصلاح الأوضاع من خلال إتباع سياسة عمرانية واقتصادية جديدة تعتمد المركزية في التخطيط والتنفيذ، خاصة مع تحسن إيرادات العراق النفطية في عام 1952م.
حيث زادت واردات العراق من النفط المصدر من (3) ملايين دينار عراقي في عام 1949، إلى (50) مليون دينار عراقي في عام 1953، وجاءت تلك الزيادة بعد عقد وزارة نوري السعيد (الحادية عشرة) اتفاقية مناصفة الأرباح مع الشركات الأجنبية العاملة في نفط العراق في عام 1951، ولكن هذه المعاهدة لم يصادق عليها المجلس النيابي العراقي إلا في شباط 1952، ومن حينها أصبح بالإمكان البدء بمشاريع الإعمار والبناء، وتفعيل عمل مجلس الإعمار الذي تأسس بموجب قرار رقم 7 لسنة 1950م وتعديلاته في السنوات اللاحقة، ويترأس المجلس رئيس الوزراء ، وبعضوية وزيري الإعمار والمالية وستة أعضاء آخرين، يشكلون سكرتارية المجلس ، إضافة الى اللجان المختصة والتي ترتبط بوزير الإعمار ، وخلال أسبوعي الإعمار كان نوري السعيد رئيس المجلس كونه رئيس الوزراء ، ووزير الإعمار ضياء جعفر. وتركزت أهداف المجلس بالدرجة الأساس على النهوض بالواقع العمراني والاقتصادي والصناعي في العراق، ورفع مستوى معيشة الشعب من خلال الوظائف وفرص العمل التي ستوفرها المشاريع المنجزة ، ووضع منهاج تنفيذ للمشاريع المتعددة، مع تقديم تقرير سنوي حول ما تم إعماره والمقترحات للمشاريع الجديدة.
وقد تمكن هذا المجلس من إنجاز مشاريع تنموية وخدمية كبيرة لا يزال العراق يحتفظ بقسم كبير منها مثل: (مشروع سد وبحيرة الثرثار، سدة الرمادي وبحيرة الحبانية، مشروعي سد دوكان وسد دربنديخان، جسور في بغداد والموصل ومختلف مدن العراق، معامل ومصانع للأسمنت والسكر والنسيج والنفط والغاز ومحطات للطاقة الكهربائية، إنشاء الطرق البرية وسكك الحديد، إضافة الى مشاريع الإسكان …الخ) .
وقد توزعت تلك المشاريع على جميع محافظات العراق تقريبا، غير أنه ومن المؤسف أن نشاط المجلس ومهامه تراجعت بعد عام 1958م، آخذين بنظر الاعتبار أن الكثير من المشاريع التي أنجزتها ثورة 14 تموز هي من تخطيط مجلس الإعمار.
وتتلخص الأهداف الاقتصادية لمجلس الاعمار بالآتي:
تحقيق المشاريع التي تعود بالخير على الاقتصاد القومي.
تحقيق المشاريع التي ترفع مستوى معيشة الفرد الى طبقة اجتماعية أعلى.
التخفيف من أزمات الشعب في سكناه وفي المياه والشرب والكهرباء.
تكوين الملكيات الصغيرة والتوسع فيها لتخليص الاقتصاد الزراعي من وطأة النظام الاجتماعي والاقتصادي السقيم وتحرير الفلاح مما هو فيه.
إيقاف نظام الاستيلاء غير المشروع على الأراضي الأجرية. واذا ما كان قانون التسوية قد أجاز ذلك، فيجب ان يلغى هذا القانون .
تكوين الخبرة الفنية وإقامة التعليم المهني والفني ليتسنى تنظيم حياتنا الاقتصادية بطريق أفضل.
توجيه مشاريع الاعمار وجهة إنتاجية لتكثر مجالات العمل والإنتاج، الأمر الذي يرفه الفرد ويقلل من اعتماد البلاد على الأسواق الخارجية في سد احتياجاته الاستهلاكية.
تشجيع حركة التصنيع عن طريق المشروعات التي ينهض بها المجلس او عن طريق المصرف الصناعي.
رفع مستوى الفلاح الاجتماعي والاقتصادي وتحسين نوع الحاصلات وتنويعها بتقديم المساعدات الفنية والمالية والمادية.
تحسين وسائل المواصلات البرية بإنشاء الطرق (وهي أساسية وضرورية لكل تقدم وتطور) وأسباب النقل النهرية والبحرية. وما شركة النقل البحري التي وضع قانونها موضع التنفيذ بعد اهمال طويل إلا نتيجة هذه الجهود، وتوسيع السكك الحديدية والموانئ.
تحقيق مشاريع الري الكبرى لاستغلال الأراضي الزراعية الشاسعة.
وبهذا تكون الخطة اقتصادية متكاملة شاملة الانماء الاقتصادي والاعمار.
وتميز مجلس الإعمار بافتتاح مشاريعه المنجزة خلال فترة عمله في العهد الملكي في أسبوعين، الأسبوع الأول في نيسان 1956، والأسبوع الثاني في آذار 1957.
أسبوع الإعمار الأول:
ابتدأ أسبوع الإعمار الأول في الأسبوع الأول من شهر نيسان 1956، وتم افتتاح عدة مشاريع مهمة، من أهمها مشروع الثرثار الذي غير وجه العراق المعاصر بإنهائه مشكلة الفيضان، وأصبحت بغـداد في مأمن من هذه المعاناة التاريخية التي استمرت لعدة عدة قرون، وآخرها كان فيضان 1954.
افتتح الملك فيصل الثاني أسبوع الإعمار الأول بافتتاحه مشروع الثرثار في الثاني من نيسان، والمرتبط بناظم لتصريف مياه الفيضان في حالة حدوثه الى منخفض الثرثار.
وفي الخامس من نيسان افتتح الملك فيصل الثاني مشروع الحبانية في مدنية الرمادي والهدف منه القضاء كليا على خطر الفيضان أما بقية المشاريع التي افتتحت، جسري الحلة والهندية، وطريق الحلة-الكوفة-النجف، وقام بافتتاحها رئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد، وكانت تكلفة المشاريع المفتتحة في هذا الأسبوع، 21 مليون دينار عراقي .
أسبوع الإعمار الثاني:
أمـا أسبوع الإعمار الثاني فقد صادف الأسبوع الأخير من شهر آذار 1957، وابتدأ بافتتاح الملك فيصل الثاني جسر الملكة عالية (الجمهورية الآن) الرابط بين كرادة مريم من جهة الكرخ ، والباب الشرقي من جهة الرصافة ، وصاحبه في الافتتاح ولي العهد آنذاك عبد الإله ورئيس الوزراء نوري السعيد.
وبعدها تم افتتاح جسر الأئمة الرابط بين الكاظمية والاعظمية، ووضع الملك فيصل الثاني حجر الأساس للمتحف العراقي الجديد في منطقة الصالحية ، والذي تم الانتهاء منه في عام 1966، وهو من تصميم المعماري فرانك لويد رايت، وافتتح الملك فيصل الثاني أيضاً معمل الألبان في أبو غريب الذي شيدت مبانيه الحكومة العراقية وقدمت منظمة (اليونيسيف) المكائن والمعدات، كذلك وضع الملك فيصل الثاني حجر الأساس لمشروع إسكان غربي بغداد المتضمن بناء خمسة وعشرين إلف بيت لغاية عام 1960، وهذا المشروع مقترح من قبل شركة دوكسيادس البولندية، والمكلفة من قبل الحكومة العراقية بوضع خطة لحل مشكلة السكن في العراق، وتقضي الخطة ببناء 400 ألف دار بحلول عام 1980 في عموم العراق، وتم افتتاح 120 دار ضمن هذا المشروع في منطقة الوشاش ، وألف دار في منطقة الشالجية لعمال السكك ، وفي نفس الأسبوع أقامت المؤسسة المذكورة معرض الإسكان في مديرية السكك الحديد، بحضور مديرها، وعرضت الشركة رؤيتها لحل ازمة السكن في العراق، وافتتح المعرض نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك.
وفي عام 1957 عهد الى مؤسسة (مونوبريو وشركاؤه) وهي شركة بريطانية للتخطيط الحضري، لتقديم تخطيط أساسي لمدينة بغـداد ينفذ على مدى 20 عاما ، إلا انه استبدل بالتصميم الذي وضعته مؤسسة دوكسيادس سنة 1959م .
وخلال نفس الأسبوع افتتح الملك فيصل الثاني معمل النسيج القطني في الموصل ووضع حجر الأساس لمعمل السكر في الموصل أيضا، وبعدها تحول إلى السليمانية حيث افتتح معمل الإسمنت الحكومي في سرجنار، وآخر يوم كان تفقده لمشروع سد وخزان دوكان العملاق في مدينة السليمانية ، الجاري إنشائه في وقتها ، والذي بدأ العمل فيه عام 1954 واكتمل بنائه سنة 1959.
وخلال الأسبوع الثاني أيضا افتتحت عدة مشاريع أخرى من قبل الأمير عبد الإله ولي العهد آنذاك منها وضع حجر الأساس لمحطة كهرباء المنطقة الوسطى ، وافتتاح محطة الإذاعة الجديدة في أبو غريب ، وطريقي بغداد _المحمودية، وبغداد _ الفلوجة ، وافتتح نوري السعيد أيضاً المكتبة الذرية التي أهدتها الحكومة الأمريكية للعراق ، تزامنا مع إنشاء العراق المختبر المركزي لبحوث الذرة المرتبط باللجنة الذرية في مجلس الاعمار لمواكبة التقدم العالمي الحاصل في هذا المجال، وافتتح وزير الإعمار ضياء جعفر محطة مبزل الصقلاوية، ومشروع مزارع المسيب الكبير الذي يتضمن إنشاء مزارع حديثة للفلاحين ، وقد تجاوزت تكلفة المشاريع المنجزة في أسبوع الإعمار الثاني 27 مليون دينار عراقي.
المشاريع التي أكملت ونفذت بعد ثورة 14 تموز:
وكانت هناك عدة مشاريع قيد الإنشاء أثناء قيام ثورة 14 تموز، مثل بناية البرلمان العراقي في كرادة مريم، ومدينة الطب في باب المعظم ، إضافة الى الكليات المجاورة لها، التي انتهت آخر مراحل تشيدها عام 1970 ، ومستشفيات الكرخ والكاظمية، وبناية جامعة بغداد في الجادرية التي اختار موقعها وصمم بنايتها وبوابتها الحالية المهندس الألماني والتر غروبيوس، كذلك المركز المدني في شارع الجمهورية الذي شيدت بناياته في مطلع الثمانينات والذي يضم مبنى أمانة العاصمة ، ومبنى دائرة إسالة ماء بغـداد، والمركز المدني الذي كان مقررا له من مجلس الأعمار أن تبنى فيه مكتبة عامة ومعرض للفنون للجميلة، وحدائق واسعة ليصبح مركزا ترفيهيا في وسط بغـداد، وهناك عدة سدود ومشاريع إروائية بدأ المجلس بتنفيذها وافتتحت بعد الثورة مثل سد (دربنديخان) في السليمانية الذي بدأ العمل فيه سنة 1956 وافتتح سنة 1961 ، وسد (بطمة) المقام على نهر الزاب الصغير ، وخزان بخمة المقام على نهر الزاب الكبير، وكان مقررا ضمن خطة المجلس التي تنتهي في عام 1960 ، إنشاء معمل الورق في البصرة ، ومعمل الحديد والصلب في جنوب العراق ، واختيرت مدينة البصرة عند إنشاءه، وطالب مجلس الإعمار وقتها بإنشائه لتلبية حاجة المشاريع المتزايدة من الحديد والفولاذ ، وتقليل كلفة الاستيراد.
المشاريع التي لم تنفذ بعد ثورة 14 تموز:
وهناك مشاريع لمجلس الإعمار خطط لتنفيذها وتوقفت بسبب قيام ثورة 14 تموز، ولم تنفذ بعد الثورة، مثل دار الأوبرا المصممة من قبل المعماري الشهير فرانك لويد رايت في كرادة مريم، ومطار بغـداد الجديد في الدورة، وفندق حديث في بغـداد ، وكان هناك اتفاق مع شركة هيلتون الأمريكية الشهيرة لإدارته بعد اكتمال بنائه، إضافة الى فندق كبير في مدينة كربلاء ، وملعب رياضي لكرة القدم يتسع لسبعين ألف متفرج قرب المحطة العالمية في الكرخ.
وفي الخاتمة، في محاولة لإعادة الإعمار.. هل يمكن “لحكومة الكاظمي” استنساخ تجربة مجلس الإعمار في العهد الملكي، ولإكمال ما توقف من المشاريع سابقة الذكر بعد ثورة 14 تموز، للتخطيط الصحيح لكي ينهض البلد، من خلال التعاقد والرقابة والإشراف وتنفيذ وإدارة المشاريع الكبرى بفاعلية، وخلق فرص العمل، وتعظيم استفادة المواطنين العراقيين من موارد الدولة من خلال توزيع أرباح المشاريع وتعظيم الأرباح، وتنفيذ مشاريع التنمية ذات الأهمية الاقتصادية لتنمية وتنويع موارد العراق المادية والبشرية، وإقامة قطاعات ناشطة وطنية قادرة على المنافسة الحرة ودفع عجلة التنمية إلى الأمام.