ديسمبر 3, 2024
download (2)

الكاتب : عبد الخالق حسين

تمر هذه الأيام الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز/يوليو 1958 العراقية المغدورة. وفي مثل هذه المناسبة من كل عام يدخل العراقيون في جدال عنيف فيما بينهم. فالمؤيدون لها يرونها حتمية تاريخية ويسمونها ثورة، وأنها أبنة ثورة العشرين، ومكملة لها في استكمال السيادة الوطنية للدولة العراقية. أما خصومها، وحتى البعض الذين كانوا من المؤيدين لها في عهدها، وساهموا فيها، غيروا مواقفهم منها وتنكروا لها فيما بعد، فسموها إنقلاب عسكري وضع العراق على سكة الانقلابات العسكرية، وفتح شهية العسكر للحكم، و بالتالي جاء بحكم البعث الصدامي الذي أهلك الحرث والنسل. لذلك يحاول هؤلاء تحميل ثورة 14 تموز وقائدها الزعيم عبدالكريم قاسم كل ما حصل من كوارث منذ مؤامرة 8 شباط 1963 الدموي الأسود وإلى اليوم. فكما قال الكاتب د. عامر صالح في مقاله القيم بمناسبة الذكرى 65 للثورة: (ولكن ماهو مضحك مبكي اليوم ومفهوم لكل ذو بصيرة سياسية هو بكاء أيتام بقايا البعث وذيوله وقنواتهم الفضائية على الحقبة الملكية وهم جزء من مسلسل الأنقلابات الدموية في العراق وتاريخه الأسود ما بعد ثورة تموز” شي ما يشبه شي” .)

لم يكن بودي كتابة هذه المداخلة لولا التمادي والمبالغة في هذه الاتهامات الباطالة المتكررة التي يشنها هذا البعض على هذه الثورة الوطنية الأصيلة، و قائدها في مواقع الانترنت، والتواصل الاجتماعي، وأغلبها يدل على الجهل بتاريخ العراق، وطبيعة المجتمع العراقي، إذ كما يقول المثل الإنكليزي:

(After the event every body is clever)، أي (بعد الحدث كل واحد يدعي الذكاء).

لذا رأيت من الضروري جداً أن أخرج من صمتي، وأرد على هذه الاتهامات لحماية تاريخنا من التشويه والتضليل. والجدير بالذكر أن معظم الأفكار الواردة في هذا المقال مكررة ذكرتها في مقالات سابقة، ولكن ما العمل إذا كان خصوم الثورة يعيدون نفس الاعتراضات، لذلك أرى أن هذا التكرار لا يخلو من فائدة، كما في الآية الكريمة (فذكر إن نفعت الذكرى.)

نعم، لقد بدأ الحدث في صبيحة يوم 14 تموز/يوليو 1958 كإنقلاب عسكري، ولكن بعد إذاعة البيان الأول مباشرة، خرجت جموع الشعب من أقصى العراق إلى أقصاه في تظاهرات مليونية، تأييداً للحدث الذي حولوه من إنقلاب عسكري إلى ثورة شعبية عارمة. وهذا التأييد الشعبي الواسع كان عبارة عن تصويت على شرعية الثورة، و خاصة إذا ما أخذنا بنظرالاعتبار التحولات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية في المجتمع العراقي، التي حصلت بعد ذلك اليوم. ويشهد بذلك أكاديوميون أجانب من أمثال الباحث الأمريكي من أصل فلسطيني حنا بطاطو. والمستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسن الذي قال: “إن ثورة 14 تموز العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية.”

قبل أيام نشر الكاتب العراقي الدكتور قاسم حسين صالح على عدد من مواقع الانترنت مقالاً قيماً له بعنوان: (هل سيتم الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟)(1). و قد أنصف الكاتب بحق الزعيم، حيث بدأ بالقول: “كنت تابعت حكومات ما بعد التغيير (2003) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن جميع رؤساء تلك الحكومات لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي، وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف. والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوم واحد استشهد فيه قائد من اجل شعبه.. فلماذا؟!”

ويستطرد: “ثمة حقيقة سياسية، هي: ان الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ، والضدان هنا هما رؤساء وزراء حكومات ما بعد 2003 ، وعبد الكريم قاسم.. رئيس وزراء حكومة 1958”.

ويضيف قائلاً: “ولو انك سألت اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاق عبد الكريم قاسم ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع.”)

ويواصل الكاتب ذكر إيجابيات الزعيم، فيضيف: ((ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين.. ولكن حتى أبغض اعدائه لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله (وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين، فالرجل لم يطل لحية وما لبس عمامة.)) انتهى

كل ذلك صحيح، ورغم ما في المقال من مبالغات في السلبيات التي وصف بها الزعيم ، فقد قمت بتعميمه على مجموعات النقاش، وإعادة نشره على صحيفتي في الفيسبوك.

ولكن الأخ الكاتب، وللأسف الشديد قد بالغ في السلبيات التي وصف بها الزعيم حيث جاء في قوله:

“قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61) واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات.”

أقول، أن ثورة عظيمة مثل ثورة تموز لا بد وأن تحصل فيها أخطاء، بل وحتى كوارث، إذ كما قال لينين: “الثورة هي مهرجان المظطهدين، وهناك مجال للمجرمين أيضاً.” وعن تصرفات الجماهير في الثورات، قال أنجلز: “لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة.” وهناك كتب تبحث في هذا الشأن، مثل كتاب (سايكولوجية الجماهير) لعالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون، جدير بالقراءة.

نعم، لقد بالغ الكاتب في هذه السلبيات، إلى حد أن أحد القراء علق قائلا ما معناه أنه “لو قارنا بين السلبيات الزعيم وإنجازاته لفاقت السلبيات على الإنجازات!!

فهل حقاً إخفاقات أو سلبيات عبدالكريم قاسم فاقت إنجازاته؟

لذلك أود هنا توضيح بعض ما ذكره الكاتب وما يردده خصوم الثورة عن السلبيات المذكورة أعلاه وخاصة القول أن الزعيم قاسم شن حرباً على الكرد.. الخ.

أولاً، هل كانت هناك ضرورة للثورة على النظام الملكي؟

الجواب وفق قوانين حركة التاريخ: نعم، فالنظام الملكي قد تجمد ولم يتغير، بينما حصلت تغييرات كبيرة في المجتمع العراقي اقتضى التغيير. خاصة وأن العهد الملكي لم يكن مستقراً إطلاقاً طوال تاريخه منذ تأسيسه عام 1921 إلى سقوطه في تموز عام 1958.

وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف دركر قائلاً: “أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية [السلطات] التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية.” انتهى

يعني أنه يجب الحكم على الثورة بأسبابها وليس بنتائجها، رغم أن الثورة حققت نتائج باهرة خلال عمرها القصير.

و يؤكد ضرورة وحتمية ثورة 14 تموز العراقية المؤرخ الدكتور كمال مظهر أحمد فيقول: “وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام [الملكي] في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة”.

ثانياً، تهمة أن الزعيم قاسم وضع العراق على الإنقلابات العسكرية

هذه التهمة هي الأخرى لم تصمد أمام أية محاكمة منصفة. لقد نسي هؤلاء أو تناسوا عمداً، أن قبل ثورة تموز حدثت نحو 8 إنقلابات عسكرية، بين ناجحة وفاشلة، وأول هذه الانقلابات هو الانقلاب الذي قاده الفريق بكر صدقي عام 1936، والذي كان أول إنقلاب ليس في العراق فحسب، بل وفي البلاد العربية كلها.

ثالثاً، حول اتهام الزعيم عبداكريم قاسم بشن الحرب على الكرد، والاتهامات الأخرى

حاول الكاتب قاسم حسين صالح أن يلقي اللوم على الزعيم حيث قال أن من أخطائه أنه شن حرباً على الكرد، وسلبيات أخرى حصلت خلال حكم الزعيم. وهذا خطأ، إذ هناك بحوث أكاديمية تؤكد أن الأغوات الإقطاعيين الكرد مثل حسين المنكوري وغيره، هم الذين بدأوا بشن الحرب على الثورة، و بتحريض ودعم من شاه إيران الذي كان خائفاً من وصول عدوى الثورة والإصلاح الزراعي إلى الشعب الإيراني. وكذلك دور بريطانيا حيث الصراع مع الشركات النفطية وقانون رقم 80.

وأفضل رد على هذه الاتهامات جاء من الأستاذ مسعود بارزاني في خصوص من خان من؟ ومن شن حرباً على من؟ وبقية الصراعات الحزبية التي آلت إلى اغتيال الثورة، وإدخال العراق في نفق مظلم لم يخرج منه إلى الآن، فقال:

«كنت في قرارة ضميري أتمنى أن لا تنشب ثورة أيلول في عهد عبد الكريم قاسم، وأنه إذا قُدر لها أن تنشب فلتكن قبل عهده أو بعده، وربَّما عَذرني القارئ عن خيالي هذا حين يدرك أنه نابع عن الإحساس بالفضل العظيم الذي نُدين به لهذه الشخصية التاريخية، وأنا أقصد الشعب الكُردي عموماً، والعشيرة البارزانية بنوع خاص…

«إني أسمح لنفسي أن أبدي ملاحظاتي وأستميح كل مناضلي الحزب الديمقراطي الكردستاني والشعب الكردي الذين مارسوا أدوارهم في تلك الفترة عذراً لأن أقول وبصراحة بأنه كان خطأً كبيراً السماح للسلبيات بالتغلب على الإيجابيات في العلاقة مع عبدالكريم قاسم، مما ساعد على تمرير مؤامرة حلف السنتو وعملائه في الداخل والشوفينيين وإحداث الفجوة الهائلة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وعبدالكريم قاسم. فمهما يقال عن هذا الرجل فإنه كان قائداً فذاً له فضل كبير يجب أن لا ننساه نحن الكرد أبداً. لا شك أنه كان منحازاً إلى طبقة الفقراء والكادحين وكان يكن كل الحب والتقدير للشعب الكردي وكان وطنياً يحب العراق والعراقيين وكان التعامل معه ممكناً لو أحسن التقدير. يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالإنحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط ، وألهبت الجماهير التواقة للحرية والإستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الإتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟ إن بعض الأحزاب سرعان ما عملت من أجل المصالح الحزبية الضيقة على حساب الآخرين وبدلاً من أن تحافظ أحزاب الجبهة على تماسكها الذي كان كفيلاً بمنع عبدالكريم قاسم من كل إنحراف، راحت تتصارع فيما بينها وبعضها تحاول السيطرة على الحكم وتنحية عبدالكريم قاسم ناسية أولويات مهامها الوطنية الكبرى إني أعتبر أن الأحزاب تتحمل مسئولية أكبر من مسئولية عبدالكريم قاسم في ما حصل من انحراف على مسيرة ثورة 14 تموز (يوليو) لأن الأحزاب لو حافظت على تماسكها وكرست جهودها من أجل العراق، كل العراق ووحدته الوطنية الصادقة، لما كان بإمكان عبدالكريم قاسم أو غيره الإنحراف عن مبادئ الثورة. إن عبدالكريم قاسم قد انتقل إلى العالم الآخر، ويكفيه شرفاً أن أعداءه الذين قتلوه بتلك الصفة الغادرة فشلوا في العثور على مستمسك واحد يدينه بالعمالة أو الفساد أو الخيانة. واضطروا إلى أن يشهدوا له بالنزاهة والوطنية رحمه الله. لم أكره عبدالكريم قاسم أبداً حتى عندما كان يرسل أسراب طائراته لتقصفنا، إذ كنت امتلك قناعة بأنه قدم كثيراً لنا، كشعب وكأسرة لا يتحمل لوحده مسئولية ما آلت إليه الأمور. ولا زلت أعتقد أنه أفضل من حكم العراق حتى الآن. »

مسعود البارزاني، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، فصل عن ثورة 14 تموز 1958، من كتاب: البارزاني والحركة التحررية الكردية.)) انتهى.

ولمن يرغب في معرفة المزيد عن هذه الثورة، وقائدها الزعيم عبداكريم قاسم، أدرج في الهامش مجموعة من روابط مقالات كنت قد نشرتها في السنوات السابقة، كلها موثقة بمصادر لا يشك في حياديتها.

abdulkhliq.hussein@btinternet.comm

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

روابط ذات علاقة بالموضوع

1- قاسم حسين صالح: هل سيتم الأحتفاء بذكرى ثورة 14 تموز؟

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=970099&catid=325

2- د.عبدالخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز 1958، (الوضع قبل الثورة)*

https://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=684592

3- د. عبد الخالق حسين:هل ما حدث يوم 14 تموز ثورة أَم انقلاب؟

https://akhbaar.org/home/2012/07/132954.html

4- كتاب د.عبد الخالق حسين: (ثورة وزعيم) عن الزعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958

https://www.akhbaar.org/home/2019/7/260100.html

5- عبد الخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958*

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

6- منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خلال فترة حكمه

http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

رابط صحيفة الكاتب على الفيسبوك

https://www.facebook.com/abdulkhaliq.hussein.1?fref=photo

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *