NB-37998-635417167703043042

اسم الكاتب : د. غانم المحبوبي

ليس ألغرض من هذا ألمقال ألرابع وألأخير أن أُقَدِمَ وصفة جاهزة وطريقة عمل مفصلة عنما يجب ألقيام به فعلاً لوضع ألعراق على سلم ألتحضر، لأن ألعراق بحاجة إلى حلول كثيرة وجذرية في جميع أصعدة ألدولة ألمتهالكة ولكل صعيد من هذه مَن هو متخصص ومؤهل في مجاله. ولكن من ألأفضل أن أوضح ألفكرة بإعطاء بعض ألأمثلة ألعملية ألتالية وخصوصاً فيما يهم مجال ألتعليم ألعالي وألبحث ألعلمي حيث هو مجالي ألتخصصي وألمهني ولسنين طويلة. 

إعتادت أنظمة ألحكم في ألدول ألغير متحضرة ومنها ألعراق وفي أحسن أدائها أن تعالج ألأمور ألمرحلية وألطارئة وألإحتياجات أليومية ألضرورية بدون خطط ممنهجة إستراتيجياً لتحضر شعوبها في ألمستقبل وخصوصاً في ألدول ألريعية وألتي تعتمد إعتماداً كلياً أو شبه كلياً على بيع مورد طبيعي كألنفط في ألعراق. فبينما تحاول ألأنظمة ألسلطوية أن تُبينَ للشعب ولائها وحرصها عن طريق دفع ألرواتب وإستيراد كل ما يحتاجه ألمواطن بألعملة ألصعبة، ترى ألشعب في مثل هذه ألأنظمة يتطلع إلى “مكرمات” ألدولة وألمطالبة بألعيش ألرغيد بدون جهد وعناء. قد يؤدي مثلَ هذا ألمفهوم ألخاطىء وألسلوك ألساذج من قبل ألشعب، وفي أحسن ألظروف، إلى ألتمدن وليس ألتحضر أي ألبقاء خارج قطار ألزمن نحو مستقبل متحضر. لو نظرنا إلى ألعراق ألحالي لوجدناه يستهلك أغلب دخله ألوطني، وألناتج من بيع ألنفط، ظمن ميزانية سنوية ضخمة جُلها تُصرف بشكل رواتب لأكثر من خمسة ملايين موظف حكومي (ألبطالة ألمقنعة) ومتقاعد ومُنَح غير مبررة “للمتضررين” وغيرهم وتسهيلات للفاسدين وألسارقين وألمختلسين مع شيء قليل من ألخدمات ألبائسة للمواطنين. لست متخصصاً بألعلوم ألإقتصادية أو إدارة ألأعمال ولكني أعتقد إستناداً إلى ألمنطق وألإطلاع على حالة ألشعوب ألمتحضرة ومقارنتها بألعراق ذي ألبُنية ألتحتية ألمتهالكة منها وألمدمرة وألأمية وألبطالة ألمتزايدة وألتردي ألمستمر في ألتعليم وألصحة وغيرها ألكثير، يتطلب وقفة جادة من ألشعب وألسلطة لوضع حداً لهذا ألتدهور عن طريق برامج إستثمارية إستراتيجية عملاقة على أمد بعيد لظمان حياة متحضرة ومزدهرة لمستقبل ألأجيال ألقادمة. وكجزء من هكذا توجه جاد وجذري يجب إعادة تأهيل أكثر موظفي ومستخدمي ألدولة إلى مهن وحرف أخرى وتحصيل دراسي جديد يتناسب مع إحتياجات ألمشاريع ألجديدة ألإستراتيجية وتنسيبهم على دوائر جديدة متخصصة أوعلى شركات أهلية عالمية جميعها تصب في هذه ألمشاريع ألإستثمارية. فعلى سبيل ألمثال، إن وجود فريقاً هندسياً في إحدى وزارات ألدولة مشغولاً في تصليح وترقيع وتوسيع وإعادة كساء شوارع مدن ألعراق ألقديمة، هو نفس ألفريق وبعد تأهيله من جديد وتحت إشراف خبراء مهنيين من دول رائدة في هذا ألمجال سوف يستطيع ألمشاركة بإنشاء شبكة جديدة متكاملة من طرق وجسور وسكك حديد داخل وخارج ألمدن. في نفس ألوقت، يتم توجيه ألأطفال وألشباب وحثهم على ألدراسات ألعلمية للحصول على مؤهلات مهنية بدون ألحاجة إلى ألتحصيل ألجامعي وألدراسات ألعليا بل حصر ألأخيرة على ألطلبة ألمتفوقين فقط. في هذا ألصدد، ولحسن حظ ألعراق في تحقيق مثل هذا ألهدف وحسب إحصائية ٢٠١٢، إن ٤٨٪ من سكان ألعراق هم أقل من ١٨ سنة من ألعمر (ألمهندس حازم إسماعيل كاظم، ألأخبار، ١٨ كانون ألثاني ٢٠٢٠). ودعماً لما أقول، يقول ألبروفسور محمد ألربيعي في مقال له حول خصوصية ألتعليم ألعالي ألأمريكي “إن نسبة ألمؤسسات ألجامعية ألتي تمنح شهادة ألبكلوريوس لا تتجاوز أكثر من ١٨٪ من مجموع مؤسسات ألتعليم ألعالي ألأمريكي و ٦٪ فقط من هذه ألمؤسسات تمنح شهادة ألدكتوراه”. هذا يعني إن ألأغلبية ألكبرى من مؤسسات ألتعليم ألعالي هو معاهد مهنية متخصصة تمنح ألشهادات ألبسيطة وألوسطى وهي ألأهم جداً للضرورة ألعملية في ألمجتمعات ألمتحضرة. أما من ألناحية ألتمويلية فيتم تخصيص ما يقارب نصف ميزانية ألدولة إلى مثل هذه ألمشاريع ألإستراتيجية وألباقي إلى ألخدمات ورواتب ألمتقاعدين ومساعدات ألظمان ألإجتماعي.

وكمثال آخر وبشيء أكثر من ألمعلومات ألإحصائية وأكثر خصوصية وواقعية هو ما عليه ألآن من حالٍ يخص ألتعليم ألعالي وألبحث ألعلمي وألذي يعتبر ألمصدر ألرئيسي لتطور وتحضر ألشعوب. مع كل ألأسف يعتبر ألعراق مثالاً واضحاً للدولة ألمترهلة في كل مؤسساتها (ومنها مؤسسات ألتعليم ألعالي)، وذات ألمجتمع ألإستهلاكي بأعلى صورهِ. وبمجرد مقارنة بسيطة بين ألعراق ودولة متحضرة مثل أستراليا يتضح لنا سعة ألهوة بين واقع ألحال في ألعراق وما يجب أن يكون في هذا ألقطاع ألمهم. فبينما يوجد في ألعراق ضعف عدد ألجامعات ( ٩٠ جامعة حكومية وأهلية) مقارنة بما يوجد في أستراليا (٤٥ جامعة)، نرى عدد ألطلاب أللذين يدرسون في جامعات ألعراق في سنة ٢٠١٧ هو ١٥٠،٠٠٠ طالب مقارنة بعشرة أضعاف عدد ألطلاب (١،٥٠٠،٠٠٠) في ألجامعات ألإسترالية (حسب منشورات وزارة ألتعليم ألعالي ألعراقية لسنة ٢٠١٧ وألمكتب ألإسترالي للإحصاء لسنة ٢٠١٨). فبينما توضح هذه ألأرقام ألترهل ألضخم في عدد ألجامعات ألعراقية وألمبالغ ألعالية ألمُبَذَرة في حجم بنيتها ألتحتية ورواتب منتسبيها تؤكد في نفس ألوقت هزالة إنتاجيتها وعدم تحقيقها لأغراضها. بألإضافة إلى ذلك وبألرغم من أن قطاع ألتعليم ألعالي وبشكل عام هو قطاع إستهلاكي في جميع دول ألعالم نرى إستراليا كدولة متحضرة إستطاعت أن تحول ألجانب ألتدريسي لهذا ألقطاع إلى مؤسسة إنتاجية من ألطراز ألأول وذلك بوجود حوالي ٤٠٠،٠٠٠ طالب أجنبي يَضيفونَ إلى ألدخل ألقومي ألإسترالي ثروة وصلت إلى ٣٢.٨ بليون دولار في سنة ٢٠١٨، أي ما يعادل حوالي ثلث ألدخل ألقومي ألعراقي (ألميزانية ألسنوية) آخذين بنظر ألإعتبار أن عدد سكان أستراليا هو حوالي نصف سكان ألعراق فقط. وكمثال آخر وبخصوصية أكثر، إن ما يدعوا إلى ألإستغراب هو عدد كليات ألطب ألبيطري ألإسترالية هو سبعة فقط يقابله حوالي إثنا عشر كلية في ألعراق. ولو أخذنا بنظر ألإعتبار أن عدد ألثروة ألحيوانية من ألأبقار وألأغنام فقط في أستراليا يفوق بحوالي عشرين مرة من عددها في ألعراق لعلمنا لماذا يعاني جمهور كبير من ألأطباء ألبيطريين ألجدد من ألبطالة وألضياع وكيف تضَيع موارد ألعراق في ألمجالات ألإستهلاكية ألمتهورة.

وفي ألختام وكمثال على ألتغير ألجذري وألجريء في هيكلية مؤسسات ألدولة ألعراقية أقترح مبادرة ٣ في ٣ وألمعنية بقطاع ألتربية وألتعليم ألعالي. هذه ألمبادرة ترتكز على ثلاثة محاور أقترح في كلِ محورٍ منها ثلاثة تغييرات جذرية كأول خطوة نحو نظام تدريسي متحضر وبحثي علمي واعد. ألتغيرات ألثلاثة ألأولى تدعوا إلى: ١) برنامج شامل لمحو ألأمية وألتعليم ألإبتدائي ألإلزامي. ٢) إعادة كتابة جميع ألمناهج ألدراسية بروح مهنية خالصة بعيداً عن كل ما يوحي للعنصرية وألدينية وألطائفية. ٣) تحديث ألمدارس ألصالحة وبناء ألمزيد من ألجديد منها وعلى ألمواصفات ألعصرية ألمهنية. أما ألتغير ألثلاثي ألثاني فيستدعي: ١) وضع خطة زمنية لغلق نصف ألجامعات ألحالية في ألعراق وحسب مستواها وإختصاصاتها. ٢) تخفيض نوعي وواضح لعدد وكليات ومعاهد ألدراسات ألإنسانية. ٣) زيادة كبيرة في عدد ألمعاهد ذات ألإختصاصات ألعلمية وألمهنية. وأخيراً تستوجب ألتغيرات ألثلاثة ألثالثة: ١) خفض ملحوض لعدد ألدراسات ألعليا في ألداخل وإبدالها بألبعثات ألعلمية إلى ألدول ألرائدة وحسب ألحاجة للإختصاص. ٢) إنشاء جامعة حكومية نموذجية في تخصص علمي ذو أهمية ملحة بطريقة ألتوئمة مع واحدة من أرقى جامعات ألعالم لتكون إنموذجاً يُحتدى بها مستقبلاً لإنشاء جامعات أخرى. وأخيراً، ٣) إنشاء مؤسسات بحثية نموذجية وبألتعاون مع أرقى مراكز ألبحث ألعلمي في ألعالم لتأخذ على عاتقها وضع وتطبيق سياسات وبرامج وتمويل ألبحث ألعلمي في أنحاء ألعراق. وفي ألختام، وكما إبتدأنا في شرح مقومات ألحضارة في ألجزء ألثاني من هذا ألموضوع، يجب أن تُعطى أولوية ألبحث ألعلمي لبرامج بحثية تعني وترتكز على تطوير وتحديث وزيادة إنتاج كل ما هو يبت بصلة بموارد ألعراق ألطبيعية وإقتصاده وثقافته ألمجتمعية.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *