ديسمبر 3, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

يتكون الرأي العام والخطاب السياسي الاعلامي السائد في العراق من خلال ثلاث مراحل :
المرحلة الاولى : يقوم الاعلام الطائفي والعنصري والارهابي والقومي العربي والظلامي بترويج اراء ومفاهيم وتصورات واكاذيب واخبار من خلال اعلامها وفضائياتها ومواقعها بالانترنت والفيس بوك او اليوتوب والتوك تك وتيوتر وغيرها , والتركيز على مفهوم العدوى الوجدانية والتكرار (والتكرار سلطة كما يقول رولان بارت) ومخاطبة الغرائز واللاشعور والمتخيل القومي والطائفي والدونية والخصاء والاستلاب والنقص المنتشرة عند اوساط كثيرة في المجتمع العراقي . والكلام هنا لايكون عن فضائيات معددوة او محدودة الانتشار , وانما عن الالاف من الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي بالانترنت التي تنشر عشرات الالاف من الاكاذيب والمقالات والاخبار , خصص لها المليارات من اموال البترو دولار الخليجي , استطاعت كسب الالاف من الكتاب والمثقفين من العرب والعراقيين المخصيين والمأجورين .
المرحلة الثانية : يقوم العقل الجمعي والعامة من الناس والقطيع والسديم الثقافي بتصديق اغلب تلك الاكاذيب والتصورات والمفاهيم بسرعة البرق لانها – كما قلنا – تخطاب غرائزهم المكبوتة ودونيتهم المزمنة ونقصهم الاجتماعي واستلابهم الوطني وقاعهم المظلم , وياخذون بنشرها وترويجها بدل تلك الفضائيات والاعلام والمواقع العربية والطائفية بين ابناء جلدتهم ومجتمعهم واهلهم ومناطقهم – وخاصة الجنوبية منها – حتى تصبح تلك الاراء والاكاذيب من المسلمات والبديهيات واليقينيات والحقائق المؤكدة التي لايرتقي اليها الشك او الجدل او النقاش , وتتحول تدريجيا الى رأي عام شامل في المجتمع (المتعلم منه والجاهل) . لايستطيع اي انسان الوقوف بوجهها او نقدها او نفيها او مراجعتها , لانه سيعاني من الاغتراب والغربة والانفصام عن المجتمع اولا ويتهم بالمفاهيم والتصورات التي روج لها ذلك الاعلام من قبيل التبعية والعمالة والذيلية ثانيا .
المرحلة الثالثة : (وهى الاخطر) لانها تظهر موقف المثقفين والنخبة الاكاديمية والانتلجنسيا العصرية في العراق التي من المفترض منها ان تقف بوجه تلك الاكاذيب والتدليسات بحزم , وتعريتها ونقدها وتفكيكها , لان هذا يعد ابسط وظائفها ومهاهما كانتلجنسيا ونخبة تنويرية واصلاحية مثقفة في المجتمع . الا اننا في العراق لايوجد عندنا مثل هذا الالتزام والموقف البديهي والمتوقع – ان لم يكن العكس – فالاغلبية منهم لايقف على الحياد امام ذلك القطيع فحسب (وان كان هذا يشكل جريمة وخيانة) بل يجاري الرأي العام والسديم الاعلامي , ويتبنى اغلب تلك التصورات والمفاهيم والمقولات , ويخضع كليا للخطاب السائد ويدغدغ مشاعر العامة ويطرح نفسه قائدا لهم بمختلف الدعاوي والتبريرات الزائفة . وهو مصداق عبارة لينين الشهيرة (المثقفين اقدر الناس على الخيانة لانهم الاقدر على التبرير) . واذا اطلعت على المواقع الطائفية والقومية والارهابية التي تنشر التزييف والتدليس والاكاذيب في الفيس بوك وغيرها , لاتجد فيها اي موقف مضاد او نفي او نقد من المثقفين العراقيين – ان لم يكن العكس – فالكثير منهم يبرر تلك الاكاذيب والتدليسات بدعوى انها اخطاء حكومية وغيرها . وعند هذه المرحلة الاخيرة ياخذ الخطاب الاعلامي انتشارا شاملا ويتحول الى حقيقة بعد ان كان مجرد اراء عند العامة والسديم والقطيع .
وقد يطرح احدهم السؤال الاتي : لماذا لايقف المثقفون والنخبة بوجه العامة والسديم ؟؟ ولماذا الانسياق لطروحاتهم وافكارهم وتوجهاتهم ؟ في الواقع ان هذه القضية تشكل جدلا غير محسوم عند الكثيرين , ولكن يمكن الخروج بالمقاربات الاتية :
1 – ماذكره علي الوردي وهو (ان المثففين عندنا هم عوام بداخلهم) , وان قشرة الثقافة لم تنفذ الى اعماقهم الحقيقية , ولم تشكل جزء من سلوكهم ومشاعرهم ,ولاتعدو ان تكون مظاهر زائفة وبراقة هدفها السمعة والمظاهر والرياء .
2 – ماذكره الكاتب خضير ميري بان النخبة المثقفة في العراق لاترجع في اصولها الاجتماعية الى الطبقة الوسطى (البرجوازية) العريقة بالثقافة والالتزام , وانما اغلبهم يرجع الى اوساط عائلية فقيرة وبيئات اجتماعية مقصية ومحافظات مستهدفة طائفيا وسياسيا وعنصريا من قبل الانظمة البعثية والقومية السابقة , وبالتالي فانهم حملوا في كيانهم ودواخلهم ونفوسهم جميع تلك العقد والاستلابات والنواقص والاختلالات ,واظهروها في ارائهم الثقافية ومتبنياتهم الفكرية .
3 – الرغبة بكسب العامة والبحث عن الشهرة والجمهور , واظهار انفسهم بمظهر القائد والمتبني لطروحاتهم وافكارهم , وكما قال نيتشة (لابد للكاتب من معجبين حتى لو من البقر) .
4 – الهدف السياسي والايديولوجي . هو من الاسباب الرئيسة لهذا الخضوع , فالكثير من المثقفين يعرفون تلك الاكاذيب والتدليسات والتضليلات , ولكنهم يروجون لها من اجل الاستفادة منها سياسيا وحزبيا وايديولوجيا , وهو جزء من موروث طويل من الانتهازية والخضوع والخيانة عند الانتلجنسيا العراقية التي سبق ان باعت نفسها للديكتاتورية والايديولوجيا والارهاب والسكوت عنه والتعمية عليه .
وقد يطرح احدهم السؤال الاتي : لماذا لم يبادر الاعلام الاخر الذي يقف بوجه الارهاب والتضليل والتدليس والديكتاتورية في مواجهة الاعلام الزائف والطائفي والعنصري والخليجي , وتنوير الناس والاهالي لخطورته على مستقبل المجتمع وغسل ادمغة المراهقين والشباب وتزييف الوعي وترسيخ الدونية والاستلاب ؟؟
في الواقع لااحد ينكر وجود اعلام واعي وحريص يقف بوجه تلك القوى الارهابية والاستبدادية , ويفضح ارائها وخطابها ومقولاتها وطموحها بخلق الفتنة ونشر الكراهية والغل والحقد في الساحة العراقية – وخاصة الشيعية والجنوبية – الا انه لايقارن مع تلك الامبراطوريات الاعلامية الخليجية لسببين :
الاول : امتلاكها امكانيات مالية وفنية وادارية وتقنية كبيرة جدا , وقدرتها على شراء ذمم الاغلبية من الكتاب والمثقفين والادباء والاعلاميين والفنانين العرب والعراقيين من خلال الجوائز الادبية والفنية ونشر اعمالها الثقافية والدعاية لها , من ثم كسبهم لصفها ونشر ارائها وخطابها والترويج لافكارها . فالمتتبع لقناة الجزيرة والعربية والشرقية ومجموعة الام بي سي وسكاي نيوز وغيرها يجد الامكانات الضخمة والتقنيات الحديثة ومساحة الانتشار الكبيرة بالفضائيات والانترنت . فيما نجد الامكانات الضعيفة والتقنيات التقليدية ومساحة الانتشار المحدودة عند الاعلام المضاد لها . فضلا عن عدم قدرتهم على شراء الاسماء البراقة والمعروفة من الادباء والكتاب والفنانين الانتهازيين العرب والعراقيين الذين يبحثون عن الشهرة والاموال والثراء الذي اعتادوا الحصول عليه من الديكتاتوريات السابقة وشيوخ النفط وامراء الخليج .
الثاني : (وهو الاهم) قدرة تلك الفضائيات والمواقع العربية والعراقية على مخاطبة اللاشعور النفسي والغرائز الجنسية والسقوط الاخلاقي والمكبوت الاجتماعي في النفس الانسانية والشخصية العربية والعراقية , الامر الذي يعطيها مساحة اكبر من المتابعين والانتشار في الساحة الاعلامية , كما تفعل ذلك قناة الشرقية السعودية المخصصة للعراق والام بي سي المخصصة للعالم العربي , حيث كان لهما دورا كبيرا ورئيسيا في انتشار الفساد والسقوط الاخلاقي والتفكك العائلي في المجتمع العرقي والعربي , وخاصة في مجال نشر المسلسلات التركية والعراقية الهابطة . فيما لايستطيع الاعلام المضاد والمحافظ والاخلاقي من نشر تلك الغرائزيات والمكبوتات والانحلالات في الوسط العراقي, لان ذلك يتناقض مع اخلاقياتها وايديولوجياتها سياستها العقائدية والدينية , الامر الذي لايعطيها مساحة واسعة من الانتشار عن المراهقين والشباب وحتى الكبار . وقد استغلت تلك الفضائيات الخليجية من نشر تلك الغرائزيات في تزايد اعداد متابيعيها ومن ثم استغلالها لنشر خطابها السياسي والطائفي في المجتمع العراقي بخاصة والعربي بعامة .
ويبقى السؤال الاهم : هل نجح ذلك الاعلام بفرض سياساته وخطابه واعلامه الطائفي والغرائزي على المجتمع العراقي ؟ وهل استطاع من غسل ادمغة المراهقين والشباب وعامة العرقيين وتزييف الوعي وترسيخ الدونية والنقص والاستلاب في نفوسهم ؟؟ اعتقد ان الجواب لايحتاج الى تفكير كبير , فقد نجحوا في ذلك نجاحا باهرا وكبيرا , ليس في المجال السياسي والفكري وزرع الانقسام والكراهية والغل في الوسط العراقي – وخاصة الشيعي – فحسب , بل تجاوزوا ذلك الى نشر الانحلال والسقوط الاخلاقي وترسيخ الدونية والهزيمة الذاتية في المجتمع وزرع قيم الخيانة والتجاوز واسقاط كل قيمة رمزية واخلاقية تعمل على تماسكه وتضامنه , حتى اضحى المجتمع اليوم مثل مدينة (غوثام) بالافلام الامريكية , وتلاشت الروادع الحكومية والاخلاقية والاجتماعية والعائلية والدينية , واسقطوها في نظر الناس , مستغلين ضعف الاعلام المواجه والمضاد لها اولا والفساد السياسي والحكومي ثانيا والدونية والاستلاب والنقص المتاصل بالنفس الشيعية والجنوبية ثالثا ورسوخ الثقافة البعثية والقومية والطائفية في اذهان الكثير من ابناء المجتمع رابعا . حتى يمكن القول ان المجتمع العراقي مهيئا اليوم اكثر من اي وقت للعودة للعبودية والاذلال والحكم الديكتاتوري نفسيا وسياسيا واجتماعيا , وان الامر لايعدو مجرد حدث ويعيد التاريخ انتاج نفسه من جديد , ولايقف بوجه هذا السيناريو المرعب للمخلصين والاحرار سوى التوازن الاقليمي ,والرفض الايراني لوجود نظام سياسي طائفي وقومي او بعثي على حدودها الغربية , يعمل على التامر وشن الحرب عليها بتحريض خليجي وغربي كما فعل نظام صدام حسين عام 1980 , والا فان النخبة الشيعية الحاكمة اليوم ابعد الناس عن مواجهة هذا السيناريو او مخططات الانقلاب العسكري مثلا والتحريض الاعلامي الخليجي بسبب تخلفهم وانشغالهم بالصراع الحزبي والسياسي فيما بينهم والفساد المالي والاداري . واما المثقفين والكتاب فهم – كما يبدو – متلهفين لعودة الاستبداد والديكتاتورية وحكم الاقلية حتى يعودوا لحضيرتهم كمرتزقة وعبيد في مزرعة الحيوان .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *