ديسمبر 6, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

استلاب الحرية عند العراقيين .. هل ان كل علماني هو حر ؟؟
يعد مفهوم الاستلاب واحدة من اهم العقد النفسية والاجتماعية والثقافية التي واجهت الشخصية العراقية , بسبب العقود الطويلة التي واجهها من الانظمة الاستبدادية والطائفية والقومية والاستهداف والتدجين والترويض المنظم الذي قامت به طوال حكمها الديكتاتوري , الامر الذي جعل المثقف الشيعي بخاصة والفرد الجنوبي بعامة في حالة من الاستلاب امام المفاهيم والمعاني والتصورات السامية والفردية كالشجاعة والحرية والوطنية والعلمانية والمدنية والبطولة وغيرها , لان نظامه المعرفي والثقافي والاخلاقي (الحضري والعشائري) على حد سواء يقدر تلك المعاني والتصورات ويقدسها , الا انه لم يمارسها في المواقف المرجوه او يطبقها في التحديات المصيرية والذاتية او يتباهى بها في المسيرة الحياتية , بسبب طبيعة الانظمة الديكتاتورية التي تضطهده وتخيفه وتقمعه , فعاش حياته في حالة من الكبت والجبن والتدجين والعبودية امام تلك الانظمة , انبعث ذلك المكبوت من الاستلاب بعد السقوط الاخير لتلك الانظمة عام 2003 , فعمل بكل ما بوسعه على تعويض ذلك النقص والانتهاك والاستلاب النفسي والاجتماعي من خلال ممارسات وسلوكيات القصد منها اظهار عكس ما كان يعانيه . فمثلا وبسبب استلاب الشجاعة وحالة الحبن المزمن الذي كان يعيشه هو واجداده وابائه امام الاقطاع مثلا او الحكم البعثي الطائفي , اخذ العراقي – وخاصة الشيعي – بعد السقوط يمارس سلوكيات في مواجهة الحكم الديمقراطي والمتسيب والضعيف , من خلال مهاجمة النظام السياسي المتراخي في الاعلام او من خلال الادعاءات الكاذبة والذكريات الوهمية وغيرها . القصد منه اظهار نفسه بمظهر الشجاع والبطل الذي لايخشى السلطة او الانظمة . بل ان الاغلبية ممن عاصر الانظمة الديكتاتورية البعثية اخذ يمارس تلك السلوكيات ويبرزها في الاعلام والفيس بوك بجرأة وصفاقة تحسده عليها حتى العاهرة , فيما ان كل الناس تعرفه بانه قبل السقوط كان مثال الجبن والتخاذل والعبودية والتبعية للنظام البعثي والانقياد لاوامره وتعليماته .
واما اهم مظهر من مظاهر الاستلاب الاخرى والكثيرة عند العراقيين وخاصة الشيعة في الجنوب فهو استلاب الحرية , فبسبب خضوعهم الطويل والمزمن للعبودية ومعاناتهم الطويلة منها تحت ظل الانظمة الديكتاتورية والاستبدادية والطائفية والبعثية , اخذوا يشعرون بالاستلاب امام الحرية , ومن ثم القيام بعد السقوط بمواجهة هذا الاستلاب لاشعوريا من خلال المزايدة عليها والادعاء بانهم اناسا احرار , والدليل الذي يذكرونه على حريتهم مثلا هو عدم انضمامهم للاحزاب وتظاهرهم ضد النظام الذي هم اقوى منه !!! . فيما ان المفروض ان يذكرون لنا مواقفهم البطولية من الاستبداد والديكتاتورية البعثية بصفتهم اناسا احرار وليسوا من العبيد , وبالطبع لايوجد في سجلهم مايشرف من تلك المواقف الشجاعة امام البعث . لذا فمن غير المعقول التغني بالحرية اليوم في زمن الحرية والتسيب والفوضى , فيما يحصل التعمية والتغطية والخجل من تاريخهم الطويل من العبودية امام النظام البعثي .
وكان المنهج المتبع في ذلك هو التلاعب بالمصطلحات الفكرية لاغراض سياسية او طائفية او نفسية او ايديولوجية . وكان من اهم تلك المصطلحات التي تم التلاعب بها هى (الحرية) و(العبودية) . فالكثير من العراقيين اخذوا يطلقون على اتباع الاحزاب السياسية الاسلامية (والشيعية تحديدا) تسمية (العبيد) , فيما اخذوا يطلقون على انفسهم (صراحة او ضمنا) تسمية (الاحرار) (فيما ان التسمية الصحيحة لهم هى المستقلين وليس الاحرار) …. في الواقع ان هذا الكلام هو من الغرابة بمكان , وغير مسبوق في عالم السياسة , ويفتقر الى العلمية والموضوعية , ويدخل ضمن خانة الصراع السياسي والحزبي من جانب , او الرغبة بترسيخ الدونية والاستلاب والنقص عند الجماعة الشيعية في العراق من جانب اخر. ويمكن التعليق على هذا الكلام من خلال المقاربات الاتية :
1 – لماذا لم يطلق على اتباع الاحزاب في العهود السابقة تسمية (العبيد) ؟؟ فمثلا لماذا لم يطلق على اتباع الحزب الشيوعي العراقي تسمية العبيد رغم التقديس والتبعية المطلقة عند اتباعه للقيادة والحزب حتى وصف بالتنظيم الحديدي ؟ بل ولماذا لم يطلق على اتباع حزب البعث تسمية العبيد , رغم انهم كانوا بخضوعهم للسلطة اقرب الى العبودية والسخرة والامتهان منها للتنظيم الحزبي ,حيث الخفارات والواجبات وملاحقة الهاربين والمعارضين والزوار والسخرة وجمع بدلات الاشتراك من المراهقين وكتابة التقارير على الاهالي والجيران ومطاردة الاطفال في الشوارع في ليلة عاشوراء وغيرها ؟؟ .
2 – لايمكن اطلاق تسمية العبيد على اتباع الاحزاب السياسية في العراق , لان الامر لايخضع للقسر والارغام والاجبار , وانما يخضع للاختيار والانتماء والولاء . فاذا اعتبرنا كل ولاء وتبعية وانتماء سياسي وفكري وديني وايديولوجي وعشائري هى عبودية , فهذا يعني ان كل البشرية تخضع بصورة او باخرى للعبودية . ان العبودية – باعتقادي – مرتبطة بالقسر والاجبار والارغام فقط وليس بالاختيار , وهى لاتكون الا ضمن الخضوع للحكم الديكتاتوري والاستبدادي والشمولي , واما غيرها من الولاءات والانتماءات فهى محل جدل ونقاش , ودليلنا على ذلك هو دعوتك لاتباع الاحزاب بان يكونوا احرارا ويتركون التبعية والعبودية والاصنام لقادة الاحزاب , وهذا اعتراف ضمني منك بانه يمكن له الخيار ان يكون حرا ويترك التقديس والاحزاب , فيما ان الامر غير ذلك في النظام الديكتاتوري , فهل يمكنك ان تطلب من العراقي ان يكون حرا تحت حكم النظام البعثي مثلا ؟؟ بالطبع لاتستطيع لانه سيؤدي بك (وبه ايضا) الى الاعدام في الشعبة الخامسة تحت التعذيب , اذ انه مجرد ان يمارس حريته بالنقد بالكتابة والنشر والسفر والتعبير والسخرية من النظام الاستبدادي او السخرية منه – كما نفعل اليوم – فان ذلك سيؤدي به حتما مؤكدا ليس الى الاعدام فحسب , بل وملاحقة اهله واقاربه ومصادرة امواله المنقولة وغير المنقولة . ويمكن اطلاق صفات اخرى على المتعصبين والمتطرفين والمتخلفين من اتباع الاحزاب الذين يتبعون الاوامر دون وعي او نقاش او تحقيق مثل القطيع او الرعاع او العوام او الهمج , ولكن ان نطلق عليهم صفة العبودية التي تقابل الحرية فهو غير منطقي او عقلاني .
3 – كما اننا نجد من جانب اخر هو وجود ظاهرة الانشقاقات عند اتباع تلك الاحزاب , وهذا يعني خضوعهم لمفهوم الاختيار والحرية وليس العبودية , فمثلا نجد ان اتباع التيار الصدري المعروفين بولائهم الاعمى وانقيادهم الاسطوري لقادتهم وجود الالاف منهم الذين انشقوا عنه وانضموا لاحزاب وفصائل مسلحة اخرى , بل ان بعضهم اصبح علمانيا ومدنيا مثل غيث التميمي وحسين تقريبا واسعد الناصري واوس الخفاجي وغيرهم .
كان المنظر عزيز السيد جاسم يقول (ان الحرية تتضخم وتتوسع في الاطار النظري ولكنها تضيق بالواقع العملي) . اي الانسان في الكتابة النظرية والجدل والنقاش والتباهي والتظاهر فهو (حر) بصورة لامثيل لها , بل وربما اعلى درجة من حرية سارتر في كتابه (دروب الحرية) . ولكن نفس هذا الانسان في موارد الواقع – وخضوعه للنظام الديكتاتوري – يكون عبدا ذليلا ووضيعا اكثر من (الوصيفة شنوة) في بيت الاقطاعي سعدون . ان هذا المقال لايدخل ضمن إطار الدفاع عن الاحزاب واتباعها , فهم بالاخير ليسوا بحاجة لدفاع مثلي , لان عندهم الامكانيات والفضائيات وغيرها التي تدافع عنهم وتبرر اعمالهم , ولكنه يدخل ضمن خانة النقد والتعرية للخطابات والعبارات والمفاهيم الثقافية والفكرية الزائفة والسائدة في المجتمع العراقي .
واما الاشكالية الاخرى التي طرحت في العراق بعد السقوط عام 2003 هى الادعاء بان كل انسان ترك التدين واصبح علمانيا فانه اصبح حرا .
في الواقع ان هذه الاشكالية المعقدة طرحت – لحسن الحظ – قبلنا في الغرب , اذ رفضوا التلازم بين العلمانية (او التحرر من التدين) وبين الحرية . فقد وجدوا ان الاغلبية من الاوربيين في تلك المرحلة التي شهدت القطيعة الحقيقية بين الانسان والدين , انهم قد تحرروا من الدين فعلا , ولكنهم وقعوا تحت تاثير وسطوة انظمة وافكار وايديولوجيات اسوء من الدين في جانبه المتطرف كالفاشية والنازية والشيوعية , لانها لاتؤمن بالحرية والانسانية والتعددية والديمقراطية والليبرالية فحسب , بل وتعتمد الاقصاء والقتل والابادة المنظمة لمجتمعات كاملة , بل انها اديان من نوع اخر فقد وصف (ريمون ارون) الماركسية بانها (ديانة علمانية) فلها انبياء ايضا مثل (ماركس وانجلز) وائمة مثل (لينين وتروتسكي وستالين) ولها كتاب مقدس وهو (راس المال) . الامر الذي جعل الشاعر ت . س . اليوت ينتقد هؤلاء العلمانيين والملحدين بقوله (اذا لم يكن لديك اله , فعليك ان تقدم احترامك الى هتلر وستالين) .
اما عندنا في العراق فان الامر كان مشابها لما حصل في اوربا في النصف الاول من القرن العشرين . فبعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 انتشرت المفاهيم والتصورات العلمانية بقوة في المجتمع العراقي من خلال اليات التربية والتعليم والاعلام , حتى نسب القول للملك فيصل الاول القول انه سيلغي تدريس مادة الدين في المناهج الدراسية . وقد اتهم علي الوردي الانكليز بنشر المفاهيم العلمانية في العراق من اجل اخماد النزعة الثورية عند الشيعة بقوله ((ان ضعف التدين في العراق ادى الى تضخيم نزعة الثورة فيه بدلا من تقليلها ، فقد اراد الحكام ان ينشروا في العراق النزعة العلمانية ليكافحوا بها الثورة ، فانعكست في ايديهم الاية ، فالجيل الجديد حين ترك التعصب الديني، التزم مكانه تعصبا اخر اشد وطأة… فبعد ان كانت في العراق طائفة واحدة تنزع الى الثورة (الشيعة) صارت جميع الطوائف في ثورة)) . وذكر الوردي ايضا : ان المس بيل كانت تقول : ان رجال الدين من اكبر دعاة الثورة في العراق ، وان افضل مواجهة لهم تكون من خلال انتشار المدارس العلمانية الحديثة التي تؤدي الى اضعاف نزعة التدين عند الجيل الجديد . الا ان الاتجاه الغالب على تلك العلمانية هو الايديولوجية القومية المتماهية مع التوجه الطائفي للنخبة الحاكمة ذات الاصول العثمانية مثل ساطع الحصري وعبد الرزاق الحصان والشاعر الرصافي وغيرهم . وبعد الحرب العالمية الثانية انتشرت في العراق العلمانية الشيوعية كجزء من الحرب الباردة بين المعسكر الغربي والشرقي (1945-1990) الامر الذي نتج عنه رد فعل عند الاسلاميين بتاسيس الاحزاب الدينية (الشيعية والسنية) . (وقد فصلت ذلك في دراستي بموقع الحوار المتمدن (بواكير العلمانية في العراق وتطورها خلال القرن العشرين) وهى بقسمين مفصلين) .
وهنا نطرح السؤال الاتي : عندما تحرر الانسان العراقي من الدين وخضع للتوجهات العلمانية هل اصبح حرا فعلا ام خضع لعبودية اخرى اكثر خطورة وشراسة ؟؟ في الواقع لاحاجة الى التفكير بانه خضع الى انظمة اكثر شراسة وديكتاتورية كالقومية والبعثية وافكار وتوجهات اكثر اقصائية ودوغمائية وشمولية كالشيوعية . واذا كان هيدغر يقول (اذا غابت الالهة , تظهر الاشباح) فاننا في العراق وعندما غابت الالهة ظهرت لنا اشباح عفلق والحصري والحصان وجمال عبد الناصر وعبد السلام عارف وصدام حسين وسامي شوكت وغيرهم ممن نشروا التوجه العلماني الثوري الاقصائي والطائفي والعنصري .
وبعد السقوط استمر نفس النسق السابق بالانتشار وهو العلمانية القومية والبعثية والشيوعية , والسبب لان هذا الجيل – والجيل السابق – لم يعاصر العلمانية الليبرالية التي انتشرت في بدايات العهد الملكي , وتلاشت بعد ثورة تموز 1958 عن الوسط السياسي والثقافي والفكري , وانما عاصر العلمانية البعثية والشيوعية فقط , وهم بالتالي لايعرفون غيرها , لذا تجد ما ان يتحول الانسان والمثقف العراقي الى علماني الا وتجده يستعير اما الخطاب العلماني البعثي او الشيوعي , وليس التوجه العلماني الليبرالي , ويخضع لاشعوريا الى عبودية من نوع مختلف – او حتى مضحكة – لذا تجد البعض وقد تحرر من سطوة الشيخ المهاجر والفالي ولكنه وقع تحت تاثير سعد البزاز او ستيفن نبيل او احمد البشير ورسلي المالكي وحسين تقريبا مثلا , او يردد الخطابات والمقولات الطائفية لخير الله طلفاح او سعدي يوسف وغيرها .
واخيرا .. وكما ذكرنا سابقا ان العراقي خضع لاستلاب الحرية , فانه بهذا القسم ايضا خضع لاستلاب العلمانية من جانب اخر . فالكثير من العراقيين اخذوا يروجون بانهم ماداموا تحرروا من سطوة الدين – او رجال الدين – فانهم اصبحوا احرارا وعلمانيين , فيما ان الصحيح ان الخضوع والانتماء للدين لايدخل ضمن منطق العبودية بالمطلق , لانه غير قائم على الارغام والقسر والاجبار , وانما على الولاء والاختيار . وان التحرر من الدين لايعني بالضرورة التحرر من العبودية , وانما يجب اعتماد التنوير والعقلانية والاعتدال والحرية والتعددية السياسية والثقافية.
ان من يريد ان يكون علماني وتنويري حقيقي فان التوجه الوحيد له هو العلمانية الليبرالية (فالليبرالية هى دين العصر) وهى الوحيدة التي تقبل الراي الاخر والحرية والتعددية الثقافية والسياسية والديمقراطية , وتعتمد مبدا التكامل بين الفعاليات الاجتماعية والدينية والسياسية , وليس مبدا التضاد والصراع والالغاء الذي تعتمده العلمانية القومية والبعثية والشيوعية , لانه سوف يعيد دورة التاريخ والتراجيديا مرة اخرى على هذه البلد المازوم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *