الكاتب : عبد المنعم الاعسم
ابو حسان، ثابت حبيب العاني، احد ابرز قيادات الحزب الشيوعي العراقي قاتل الدكتاتورية من كردستان سنوات طويلة، ونزح عنها مع مليون نازح من سكان القرى الكردية امام جرافات الانفال وحملة الابادة الجماعية، وتحت وابل القصف الجوي لطائرات علي حسن المجيد اواخر العقد الثامن من القرن الماضي، وحمل معه ذكريات القتال وجرحا غائرا من شظايا القصف ووساما من غاز الخردل كان قد ضرب رئتيه ليضع اسمه، مع انصار كثيرين، على لائحة ضحايا الانفال الطويلة، منهم من استشهد في رابية او منعطف جبلي، ومنهم من فقد بصره، وثمة بينهم من حمل اصابته لسنوات طويلة حيثما حل، اشارة لبربرية الدكتاتورية الحاكمة.
ابو حسان حين اصيب بالغاز المحرم دوليا. فقد البصر لعدة ايام قبل ان يستعيده بأعجوبة في علاجات بدائية ريفية. قال لي صاحب له في ذلك المشوار “كان ابو حسان يهتم بالاخرين، عربا وكردا، ممن يشاركونه مصاب الانفال وهو مغمض العينين.. كان يتفقدهم واحدا واحدا، ويسأل عن اقدارهم، ولم يكن ليفصح عما يعانيه من آلام، خشية ان يشمت به القتلة، وكان يرفض علاجا مميزا مخافة ان يشمت المصاب”.
وحين كنت اسجل معه ذكرياته التي تمتد لاكثر من ستين سنة من النضال كان ابو حسان، احيانا، يتوقف في غمرة السرد ليصمت، إذ تداهمه صور الاحداث المروعة في كردستان.. ويطيل الصمت.. ثم يحول الحديث الى تلك المذبحة البشرية التي عاشها في وديان زيوة في بهدينان كردستان، وكنت اقول له مازحا ” لا تستعجل، سنأتي الى صفحة الانفال فيما بعد”.
حدثني مرة عن طفل عربي اسمه “مجد” وعن النقابي البصري حميد بخش وعن الاديب سلام ابراهيم وعن الممثل عدنان اللبان وعن سمير طبلة وابو نرجس ومناف وعن ثلاثة من الشبان الهاربين من الدكتاتورية قتلوا وتم دفنهم ، وجميعهم عرب شاءت مجزرة الانفال ان تحمل تواقيعهم وشهاداتهم مع الكرد، وفي كل مرة اقول لابي حسان”سنأتي الى تسجيل واقعة الانفال”.
في المستشفى، سألني ابو حسان ما اذا سيأتي يوم يدفع فيه علي حسن المجيد، كرمز للانفال والابادة الجماعية، ثمن جرائمه، قلت اداهره: المهم هو خلاصنا من حكم كارثي جاءنا بالانفال والحروب والمهانة، والبقية تفاصيل. صمتَ ابو حسان طويلا، وقال: صحيح، لكن الفرحة ستكون ناقصة من دون القصاص من الجلادين، وكدت اقول له “انت تحلم يا ابا حسان اكثر مما يسمح به سقف احلامنا” لكني احترمت اتحاد ابو حسان باحلامه الجميلة .
كان الرجل يسعل برئتين معطوبتين بالغاز السام، ولا يكف مع ذلك عن رواية ما حدث حين القت الطائرات بحشوات غاز الخردل والسيانيد على القرى الآمنة والوديان وقواعد الانصار والبيشمركه. كان يكافح المرض بضراوة بأمل ان يرى الجناة يوما في قفص الاتهام، قال لي وقد اغارت على وجهه امارات النهاية وابتسامة التفاؤل: “سانتظر” لكن ابا حسان لم ينتظر، فقد مات، يا للحسرة، قبل ان اسجل معه يوميات الانفال، وقبل ان يحل اليوم الذي كان ينتظره حين نودي به على المتهم علي حسن المجيد الى قفص الاتهام.
تذكروا الشاهد ثابت حبيب العاني الذي اخذ معه عينة من الانفال.. ورآى.