ديسمبر 3, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

ظاهرة الدونية عند الجماعة الشيعة في العراق
دراسة في سايكولوجية الجماعة الشيعية في العراق المعاصر
(ان العاجز عن تاويل ماضيه , عاجز ايضا عن تحقيق رغبته في التحرر) بول ريكور
ان المقصود بالشيعة في هذه الدراسة ليس الجماعة الدينية المذهبية التي تعتبر نفسها فرقة اسلامية ذات امتياز خاص عند الله , تعتمد الاجتهاد والتقليد في الامور الفقهية واحياء المناسبات والطقوس الحسينية وتراث اهل البيت والبكاء عليهم والتقرب لهم , وانما الجماعة الانثروبولوجية الاجتماعية التي تسكن الحيز الجغرافي المحدد في وسط وجنوب العراق بغض النظر عن ميولهم الايديولوجية وتوجهاتهم الفكرية ومتبنياتهم السياسية , وتشمل الاسلامي والعلماني والديني والملحد والمتعلم والعامي , فالتشيع هو هوية اصلية وليست مكتسبة , لان الكثير من الشيعة وبعد ان وجدوا انفسهم في خانة المخصيين والمستلبين ضمن الاراء والمقالات والدراسات النقدية التي ذكرت فيها الجماعة الشيعية في العراق – وخاصة الشيوعيين منهم – ارادوا التخلص من هذا التوتر والانتهاك والاتهام لهم بالخصاء والجبن والتدجين على ايدي الانظمة القومية والطائفية والعنصرية الحاكمة , بدعوى انهم علمانيون وليسوا شيعية , من خلال الايحاء والادعاء ان الشيعة هم فقط الجماعة المذهبية , ومقتصرة على المتدينين والملتزمين بالطقوس والاجتهاد والتقليد , وليس جماعة انثروبولوجية تضم الجميع – كما في الانتساب العربي مثلا – وانهم تحرروا من هذه الهوية (وطبعا يقصدون الهوية المذهبية الدينية للتضليل) حتى وصل الى احدهم القول : كما انك لست شيوعي فانا لست شيعي !! للايحاء بان التشيع مثل الليبرالية والقومية والماركسية والوطنية , هوية مكتسبة يمكن التخلص والتحرر منها في اي وقت , وطبعا هذا اكبر اختراع اكتشفه العقل المخصي في التاريخ , لانه يريد ان يجمع الهويات الاصلية التي تولد مع الفرد والهويات المكتسبة التي يختارها الانسان لاحقا عند النضوج الفكري والنفسي والسياسي في قانون واحد من الالتزام والاكتساب والتجاوز . فيما ان الامر مختلف تماما . اذ سبق ان اكد الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913 – 2005) ان الهوية عند الانسان هى نوعين : هوية ذاتية وهوية مكتسبة . والهوية الذاتية هى التي ترتكز على اللغة والارض والاشياء الاخرى (العائلة والعشيرة والديانة والمذهب والقومية والاثنية) وهى ثابتة وجامدة واسماها (العينية) . والهوية المكتسبة هى التي ترتكز على الذات الفاعلة وهى ديناميكية ومكتسبة وترافق الانسان في مواجهة الاسئلة خلال مراحل حياته المتعددة (الليبرالية والاسلامية والقومية والوطنية والوجودية والشيوعية) . وللاسف الكثير من العراقيين يخلطون بين الهويات كعادتهم في استيعاب المفاهيم والمصطلحات الغربية , حيث يكون فهمهم لها اما شعبويا وسوقيا سائدا , او ليس دقيقا ومحددا , وهذا الامر ينسحب على جميع المصطلحات والمفاهيم العلمية والاجتماعية والسياسية الوافدة كالديمقراطية والوطنية والطائفية والليبرالية والماركسية والقومية وغيرها , حيث نجد الفهم الخاطىء او السطحي او الشعبوي والسوقي . كما انهم يخلطون بين الهوية الذاتية (كالعشيرة والمذهب والدين والاثنية) وامكانية التسامي عنها وبين التاثير اللاشعوري لها – او حتى التاثير الشعوري – فهم يعتقدون بان الانسان اذا تسامى عن الهوية الذاتية – كالمذهب مثلا – وحلق عاليا في المنظورات العلمانية او الانسانية , فانه لايجوز دراسته او تحليل شخصيته وفق ذلك المذهب مثلا . وهذا الامر نجده عند الاخوة الشيوعيين العراقيين فهم يعتقدون – اما خطا او تعمدا – ولايمكننا الجزم بالواقع – بانهم ماداموا قد اصبحوا علمانيين ماركسيين وتساموا عن مذهبهم الديني واعتبروه احدى تجليت العالم القديم والعصور – الوسطى البالية , فانه لايجوز لاحد دراستهم او تحليل سلوكهم او بيان التاثير الواعي واللاواعي للتشيع عليهم , وكانهم يريدون القول ان القضية تخضع لقرار واحد وينتهي الامر . اي ينهض العراقي الشيعي صباحا ويقرر ان ينضم للحزب الشيوعي او الحزب البعثي والقومي , وعندها ينتهي الامر ويخرج من التشيع كليا , ولايجوز لاحد ان يحتسبه عليه او يستعرض تاثيره الاجتماعي والنفسي والسياسي له , لانه اتخذ قرارا لارجعة فيه , وهو انه لايعترف بالاديان والمذاهب وتحرر منها كليا .
في الواقع يمكن القول ان هذا الامر يحوي ليس مغالطة او جهل بالهويات فحسب , بل ويحوي تدليسا وتعمدا بالكذب والمراوغة , فالانسان الذي يعيش في بيئة معينة وقضى طفولته ومراهقته فيها , حتما يعرف التاثيرات النفسية والاجتماعية عليه , وخاصة في المجتمعات التي تقدر الهويات الفرعية والبنى التقليدية وتقدسها , كيف وان هذه البنى تماهت مع السياسة والحكم الاستبدادي والطائفي . بمعنى نريد ان نقول للشيعي العراقي ان لك الحق بتجاوز المذهب الشيعي والتسامي عنه , ولكن لايمكن لك ان تقول ان التاثير الواعي واللاواعي لهذا المذهب قد انتهى بمجرد ان قررت ان تخرج منه , وان تاثيره عليك ظاهرا ولااحد يمكن ان ينكره . بل في حالات معينة اقول : ان الفرد الذي يتقمص الهوية الذاتية ويعترف بها , وبتفوقها وارجحيتها وصحتها وصدقها , هو افضل ممن تتقمصه الهوية لاشعوريا , لان الاول شخص واضح وايجابي وصريح ومتصالح مع ذاته وهويته , ويعمل وفق محددات الوعي والفخر . فيما ان الثاني مرتبك ومازوم ومدلس وسلبي , وبالتالي تتقمصه الهوية وتداعياتها ونتائجها وتاثيراتها اللاشعورية , كالدونية والخصاء والاستلاب , فيحاول باي مناسبة او طريقة او وسيلة اثبات وطنيته وعروبته وعلمانيته امام الاخرين , وباسلوب مغالي ومتطرف , لانه يعرف لاشعوريا انه مطعون بجميع هذه العناوين السياسية والفكرية امام الاخرين , فتجد – للاسف – الاستعراض الساذج والمسرحيات الزائفة والمزايدات الخطابية في المناداة بتلك العناوين والمفاهيم التي تبعث على الاسى والرثاء . ومن حسن الحظ ان الباحثين والمدارس الثقافية والفكرية الغربية قد ايدت رؤيتنا لهذا الموضوع قبل عقود طويلة , فهى عندما تذكر الشيوعي والبعثي والليبرالي العراقي , تذكر مذهبه ودينه وقوميته واثنيته , بل ان الباحث (حنا بطاطو)(1926-2000) يذكر حتى عائلته ومهنتها وتاريخها وانحدارها النسبي والمناطقي , لعلمه بتاثير هذه البنى على الافراد وتوجهاتهم السياسية ومنطلقاتهم الفكرية والايديولوجية . فتجد عندهم مثلا عندما يذكرون كارل ماركس يقولون انه من اسرة يهودية تحولت للمسيحية , وان هيغل بروتستانتي واينشتاين يهودي وهكذا الامر . فيما ان الانتلجنسيا الشيعية – وخاصة الشيوعيين منهم والبعثيين والقوميين – يرفضون ادراج هذه المسميات ويستنكرها , رغم انهم يعرفون جيدا ان زملائهم السنة لايرفضونها ولايهاجمون – او حتى ينقدون – مذهبهم ومناطقهم وعشائرهم – ان لم يكن العكس – فهم يفتخرون بها ويمتدحونها وينالون كل من يسىء لها او لتاريخها , وربما يكون الخشية ان يظهر الشيعي بمظهر المغفل والغبي هو وراء هذا الرفض عندما يقارن نفسه مع زميله السني , حيث يذكر الكاتب حسن العلوي انه قال لتوفيق الفكيكي – وهو بعثي شيعي – ان البعثيون السنة لم يتركوا هويتهم وسنيتهم وبقوا داعمين لها , فيما انتم البعثيين الشيعة تركتم هويتكم وتساميتم عنها ولم تنفعوها بشىء , بل واضطهدتم جماعتكم , فاستنكر الفكيكي هذا بالقول : اذا كان الاخرون خانوا قضيتهم البعثية , فهل نحن نفعل مثلهم ؟؟!! وهو طبعا هروب من الواقع الذي يظهر البعثيين الشيعية بمظهر كلب الحراسة والتابع الذليل بحجة المبادىء البعثية , فيما ان البعثي السني هو من يحكم بعيدا عن المبادىء القومية والاخوة الرفاقية , وانما وفق العقلية المناطقية والطائفية . وكذا الامر مع الشيوعيين فانك تجد عندهم هجوما على كل ماهو شيعي من الاسلاميين ومراجع الدين والعشائر والعوائل السراتية والمتنفذة وغيرها , ظاهرها المعلن هو الدعوة للتقدمية والعلمانية ومواجهة قوى التخلف والرجعية , فيما باطنها الحقيقي هو الدونية والنقص والحسد والخصاء ومحاولة اثبات العلمانية والوطنية امام الاخر , والا لماذا لاتجد عندهم اي هجوم على القوى الدينية السنية والاقطاع والعشائر ؟؟ بل قد وصل الامر بالكاتب كريم عبد على الفيس بوك ان يكتب منشورا يذكر فيه عبارة (محسن الحكيم مرجع السرسرية) وطبعا نحن نتجاوز قضية استفزاز مشاعر الناس الشيعة التي كانت تقدر الحكيم وتقلده بالقضايا الدينية وغيرها , ولكن هل نتجاوز قضية او حقيقة ان والد كريم عبد واعمامه واخواله كلهم كانوا يقلدون المرجع الديني محسن الحكيم , ومع ذلك يصفهم بالسرسرية !!! فهل يوجد دونية واستلاب بالتاريخ اكثر من هذا ؟؟ كيف يكون لانسان ان يتجاوز على ابيه واعمامه واقاربه ويصفهم بالسرسرية ؟؟ فقط من اجل ان يثبت وطنيته وعلمانيته ومدنيته امام الاخرين بالفيس بوك !! بل هل وجدت شيوعيا عراقيا سنيا تجاوز على احد من رجال الدين السنة ؟؟ رغم ان الكثير منهم كفر الشيوعية حالهم حال رجال الدين الشيعة والاكراد في عهد عبد الكريم قاسم , من امثال الشيوخ والسادة نجم الدين الواعظ وعبد القادر الخطيب وحمدي الاعظمي وفؤاد الالوسي , بل ان احزابهم الاسلامية – واهمها الحزب الاسلامي العراقي – قد تاسست في الاصل – مثل حزب الدعوة الاسلامية – من اجل مواجهة المد الاحمر الشيوعي , ولكن هل وجدت هجوما عليها مثل هجوم الشيوعيين العراقيين على الاحزاب الاسلامية الشيعية ؟؟ بالطبع لا . لانهم لايشعرون بالدونية والخصاء والاستلاب امام الاخرين , فالمثقفين السنة متصالحين مع واقعهم وهويتهم وتاريخهم ورموزهم , بل وحتى مع عشائرهم . فيما ان المثقفين الشيعة – وبسبب التاريخ الطويل من الدونية والتدجين والخصاء – تجدهم ناقمين وحاقدين على كل تلك المسميات والهويات الفرعية بدعوى التقدمية والعلمانية , بل ان الاغلبية منهم انضم للمسار الثقافي من اجل مهاجمة مذهبه ودينه وعشائره وهويته . ان المثقفين والكتاب والسياسيين السنة يعتمدون مبدا (التكامل) بين العناوين والهويات التقليدية وبين المفاهيم العصرية والسياسية والمناصب الحكومية , فيما يعتمد المثقفون الشيعة مبدا (التضاد) مع جميع العناوين الفرعية والقوى التقليدية وتدميرها وازاحتها من الساحة السياسية . وقد اشار الى هذه الظاهرة المؤرخ حنا بطاطو في معرض تفسيره لسبب خلاص ونجاة اغلبية الشيوعيين السنة من التعذيب والاعدام من الحرس القومي بعد الانقلاب البعثي في شباط 1963 فيما كان النصيب الاكبر من الاعدامات للشيوعيين الشيعة بالقول : ان السبب هو التقارب العشائري والتشابه بالالقاب بين قيادات الامن وضباط التحقيق الذين كانوا من السنة من جهة وبين المعتقلين الشيوعيين السنة من جهة اخرى , الامر الذي ادى الى حصول نوعا من التقارب والتهاون معهم ونجاتهم من التعذيب والاعدام . ولانستطيع ادراج الاف الامثلة عن الذكاء السني والدونية الشيعية عند المثقفين في العراق , لان ذلك قد يخرجنا عن اصل الموضوع الذي نحن بصدده , وقد يمكننا ان نكتب عنه دراسة مفصلة مع تلك الامثلة في المستقبل , ولكن يمكن ذكر مثال واحد للمقارنة , فبعد سقوط النظام البعثي الاجرامي عام 2003 ظهرت للعلن المقابر الجماعية التي راح ضحيتها مئات الالاف من الشيعة (والاكراد طبعا ) بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 الذين قتلوا واعدموا من قبل النظام البعثي , وضمت الشباب والنساء والاطفال والكهول وغيرهم , ظهر لنا الروائي المعروف عبد الرحمن مجيد الربيعي وهو شيعي من الناصرية وصاحب رواية (القمر والاسوار) في لقاء مع جريدة (الشرق الاوسط) السعودية عام 2004 وهو يطالب بغلق هذا الملف (ملف المقابر الجماعية) واسدال الستار عنه بعد اشهر قليلة من اكتشافه بقوله (عليهم ان ينسوا الخطاب القديم، الديكتاتورية والمقابر الجماعية وما شابه، فذاك عهد مضى) !!! ويبدو انه لايريد استفزاز اهل السنة والبعثيين في العراق , او استفزاز العربان الذين يقدسون الديكتاتور السابق صدام حسين ايضا , لانه كان في وقتها يعيش في تونس . فيما على النقيض من ذلك نرى موقف الكاتب والمؤرخ ابراهيم العلاف من الموصل في معرض تقييمه الشخصي للزعيم عبد الكريم قاسم , وكيف انه لاينسى له الجرائم التي حصلت في عهده والتي قام بها الشيوعيين في حركة الشواف عام 1959 , رغم انها ليست باوامر منه , وانما من قبل الشيوعيين وجماعة انصار السلام بالقول (الرجل انا لااحبه كثيرا وعلاقتنا وعلاقة الموصل به لم تكن على ما يرام بسبب ما حدث في سنة 1959 .. لكن للتاريخ حكم وللتاريخ سنن وللتاريخ قوانين لابد من مراعاتها وكتابة ما حدث كما وقع بالضبط ومن حق الرجل علينا ان نكتب عنه كما هو ، وكما وقع في عهده من احداث بغض النظر عن محبتنا له من عدمها) . بمعنى ان العلاف يعترف بنزاهة ووطنية عبد الكريم قاسم في مقالته في موقع (الحوار المتمدن) ولكنه تجاوز ذلك التقييم والمفاهيم الوطنية وغيرها الى تقييمات مناطقية , فما دامت الموصل تعرضت في عهده الى صراعات ومذابح وتجاوزات من قبل الشيوعيين , فانه لاينسى له ذلك . فيما ان عبد الرحمن الربيعي ورغم علمه ان المقابر الجماعية هى لابرياء ونساء واطفال ومن اهل منطقته ومذهبه , وباوامر مباشرة من النظام البعثي الحاكم , الا انه لم يهتم بها فقط , او يكتب عنها , بل ويطالب بدونية وخصاء واستهانة بنسيانها !!! واسدال الستار عنها . ومن المؤكد ان هناك الالاف من المثقفين الشيعة مثل عبد الرحمن الربيعي لم يكتبوا عن المقابر الجماعية ابان الحقبة الديكتاتورية , ولم يذكروا الارهاب بمقالة خاصة او دراسة تحليلية وموضوعية , واذا تفضل احدهم وانتقد الارهاب مشكورا , فيجب عليه – ومن اجل ان يثبت وطنيته وحياده – ان يذكر معها مايسمى بالميليشيات الشيعية , والافضل ان تكون ثلاث ارباع المقالة عن الميليشيات والقليل عن الارهاب , حتى لايفسر بانه طائفي الهوى من قبل السيد الوهمي في ضميره المدجن . هذا هو الفرق بين الانسان المتصالح مع هويته وذاته ومذهبه ومنطقته , وبين الانسان المخصي والحقود والدوني والمتضاد مه هويته ومنطقته . وهذا هو الفارق بين عبد الرحمن الربيعي الذي يصف الناصرية في روايته (الوشم) برمز العهر السياسي , لان اغلب مثقفيها كانوا من الشيوعيين , وتملقا للنظام البعثي الحاكم . فيما يصف سيار الجميل مدينته الموصل (براس العراق) او (دماغ العراق) !!! وهذا مثال واحد من الاف الامثلة يمكن ادراجها عن هذا الموضوع , وهو الامر الذي نفسره عن سبب سكوت وتهاون المثقفين والادباء والكتاب الشيعة عن ظاهرة الارهاب بعد 2003 حيث نادر ماتجد احدهم كتب مقالا خاصا عنه , او عن داعميه من الدول العربية وضحاياه من النساء والاطفال الذين يقتلون يوميا بالمئات في بغداد والمحافظات الشيعية بالسيارات الانتحارية العربية . كيف تريد من المثقف الشيعي ان يكتب عن التفجيرات الارهابية التي يكون جميع ضحاياها من الشيعة , وهو اصلا حاقد عليهم , وعلى كل مايمت اليهم بصلة . بل هو ينظر اليها بعين العدو البعثي والقومي والطائفي , وهذا الكلام يشمل اكثر حتى من 90% من الكتاب الشيعة ونظرتهم وموقفهم من الارهاب بعد السقوط عام 2003 . بل ان الكاتبة فاطمة المحسن – وهى من الناصرية – اعترضت علي وهاجمتني شخصيا لاني ذكرتها بضحايا الهجوم الارهابي على مطعم (فدك) قرب الناصرية عام 2017 . وهو في الواقع ليس عملية ارهابية تقليدية , وانما عبارة عن عملية اعدام علني – وليس سري – للعوائل , حيث سيطر الارهابيون على المطعم في احدى الطرق الخارجية , واخذوا يقتلون العوائل واطفالهم ونسائهم – واما اعينهم فردا فردا – حتى وصل العدد الى اكثر من (80) شهيدا وجرح العشرات وقالت : ارجوكم انا لااهتم بهذه الهويات المكانية ولااريد احد يذكرني باني من الناصرية او غير ذلك !!! ولااريد استدراجي للتعاطف عن الموضوع !! وطبعا لااعرف ماهو الربط بين النزعة الانسانية التي يشترك فيها الاغلبية من البشر والقائمة على التضامن مع الضحايا والنساء والاطفال , وبين السكوت عن الضحايا لانهم من الناصرية (مدينتها) ؟؟!! هل لان الضحايا من الناصرية – ولانها مدينتك – لايجوز التضامن معهم , لان هذا يعد انتماء غير عقلاني او علماني او حضاري للهويات المناطقية ؟؟!! اذا كان الامر كذلك , الا يمكن التضامن من باب اخر وهو التضامن الانساني لاناس ابرياء اعدموا من قبل ارهابيين وتنتهي المشكلة ؟؟ بالطبع يمكن للانسان السوي وغير المخصي والدوني والحقود ان يدخل من هذا الباب , ولكن هيهات ان يترك الحقد والغل مكانا للضوء ان يدخل لهذه القلوب السوداء (اذا كان النور في قلوبكم ظلام , فماهو مقدار الظلام في قلوبكم ؟) . وطالما اخرجت هذه السيدة السم الزعاف من ردودها بالفيس بوك على المنشورات التي اكتبها عن تفكيك الارهاب وتعريته وتحليل الخطاب المخصي والدوني عند المثقفين الشيعة – وخاصة الشيوعيين – ونقد الطائفية وفضحها وغيرها , ولاادري فربما احتسبت ان الموضوع يمسها او ينطبق عليها , فالانسان في الاخير يمكن له ان يشعر بما يشمله من الخطاب او بمن هو بعيد عنه . وقد فسر البعض سلوكها بالارتزاق والانتهازية لانها تكتب في جريدة (العرب) السعودية وتحصل مقابل ذلك على اموال ومكافئات (حالها حال رشيد الخيون الذي يكتب في (الاتحاد) الاماراتية وعزيز الحاج في موقع (ايلاف) السعودي) وتغض النظر عن سياسة الحكومة السعودية الداعم الاول للارهاب والفوضى والتحريض في العراق , الا انها ترفض مجرد الاشارة الى هذا الموضوع وتحول الامر – كعادة الاغلبية من الشيوعيين – الى ايران وغيرها . واخذت تستهدفني بالتعليقات شخصيا , وكنت احجم عن الرد تكريما لذكرى زوجها الدكتور والاستاذ المرحوم فالح عبد الجبار اولا ولاصابتها بمرض السرطان – والشفاء منه لاحقا – الذي انعكس على مزاجها ثانيا ولانها من مدينة الناصرية بالاصل ثالثا , ولكن كل هذه التنازلات التي قدمتها لم تؤثر عليها قيد انملة , لان اشخاص مثلها يعتبرون التنازل ضعفا والتجاوز شجاعة , حتى وصل الامر الى حدا لايطاق من الاستهداف الشخصي اثار جميع المعلقين واعتبروه تخاذلا مني , اضطررت بعدها الى الرد عليها واسمعتها كلمات كان المفترض ان تسمعها من زمان . وهذا نموذج اخر من الدونية والحقد والخصاء والغل عند الانتلجنسيا الشيعية في العراق . وانا على يقين انها اذا قرات هذه العبارات في قابل الايام , فانها ستنكرها كليا او تنفي وجود هذه التعليقات والمواقف , ومن المؤكد ان البعض من المنافقين سيؤيدها ويصطف معها من الاصدقاء والزملاء في خارج العراق , ولكني اقسم ان جميع ما ذكرته صحيح بالمطلق , ونقلته بتصرف دون اي اخلال بالمعنى , وانا في الاخير لاتهمني الاسماء والعناوين والمفردات والوطنية والشهادات والمجاملات , وليست مشكلتي الافراد والكتاب والمثقفين , بقدر ما كانت – وما تزال – مشكلتي النسق والبنية اللاشعورية التي تسير المثقف الشيعي من خلف الستار .
في الواقع طلب مني الكثير من الاخوة الكتابة عن ظاهرة الدونية والاستلاب والنقص والخصاء عند بعض الشيعة في العراق بعد اطلاعهم على مقالتي في موقع الحوار المتمدن (عقدة كيس الحاجة عند المثقفين الشيعة والكورد والمسيحيين) , وقد ترددت كثيرا في الكتابة عن هذا الموضوع , لانه اصبح يتخذ جانبا شخصيا وسياسيا وايديولوجيا وليس معرفيا ونفسيا واجتماعيا , الا ان الخشية من التضليل ومحاولة البعض من المصابين بالدونية من الدخول على الخط , ورغبتهم في ابعادها عن انفسهم وجماعتهم اولا والصاقها بالاخرين المتحررين منها ثانيا ومحاولة تبرءت الانظمة البعثية والقومية والطائفية الديكتاتورية من صناعتها وبلورتها ثالثا , جعلتني ابادر بالكتابة عن هذا الموضوع الخطير , سيما بعد الخبرة التي اكتسبتها في الكتابة عن الانتلجنسيا العراقية بعامة والشيعية بخاصة , ورغبتي الجامحة بتحرير العراقيين المصابين بالدونية من هذه العقد النفسية , لان الدونية ليست قدر محتوم لايمكن الخلاص منه – كما يعتقد البعض – وانما هى صناعة محددة قامت بها الانظمة الطائفية والاستبدادية القومية والبعثية من خلال وسائل الترغيب والترهيب والاعلام والقسر والارغام بعد انقلاب شباط 1963 هدفها اخصاء وتدجين الجماعة الشيعية والكوردية في العراق , من اجل السيطرة عليهم وقمعهم وترسيخ الهزيمة الذاتية والاستلاب والنقص عندهم . اي انها مشاعر وايديولوجيا وافكار صناعية يمكن التحرر منها من خلال اليات معينة , اهمها المعرفة – وكما قال الفيلسوف الانكليزي فرنسيس بيكون (1561-1626) (ان المعرفة قوة) – ثم الاعتراف بوجودها , واخيرا التحرر منها من خلال الارادة والعزيمة . وهذا رد على من يعتبر الدونية قدر محتوم منذ الازل عند الشيعة العوام هدفه الاساس تبرءت السلطات الطائفية والبعثية والاستبدادية من صناعتها وترويجها وترسيخها عند الجماعة الشيعية في العراق , وابعادها عن المثقفين والمتعلمين والادباء وغيرهم , على اعتبار انهم ماداموا قد تحرروا من هذه الهوية الشيعية فهم غير مصابين بهذه العقدة , او محاولة ربطها بالتصورات الدينية والمذهبية فقط . فيما ان الامر غير ذلك تماما , فالدونية هى عقدة نفسية لاشعورية تشمل المثقفين والمتعلمين والادباء والاكاديميين اكثر من العوام , لانهم اعلم بشفرات الخطاب القومي والاستهداف الطائفي ومضامين المصطلحات البعثي من قبيل (الصفوية والشعوبية وابن العلقمي ….) . فيما ان الانسان العامي والبسيط لايعرف هذه المفردات ومعانيها وخطابها , وبالتالي فان تاثيرها عليه لايكون مؤثرا او مباشرا من قبل الانظمة الطائفية والقومية , وانما غير مباشر , وذلك من خلال تاثير المخصيين والمثقفين الشيعة عليه , ومحاولة تقليدهم ومجاراتهم باعتبارهم يشكلون قيمة رمزية عليا . وهكذا يكون الامر . فالمثقفين الشيعة يتاثرون بخطاب السلطات القومية والطائفية ضد الشيعة ويصابون بالدونية والاستلاب والخصاء اولا, والعوام يتاثرون بخطاب المثقفين المخصيين فيصابون بهذه الدونية ثانيا . ثم تنتقل هذه العقدة الدونية للاجيال الجديدة والمراهقين والشباب الذين لم يعاصروا تلك الحقبة البعثية والطائفية , وذلك من خلال الاعلام والتاثير والايحاء والتضليل ثالثا . وهكذا امتدت الدونية على طول مساحة العراق واجياله المتعددة .
في البدء يجب القول ان هذا الموضوع ليس شعبويا او سوقيا – رغم انتشاره بالفيس بوك بين الاطراف العراقية – وانما هو نخبويا ومعرفيا . فيكفي ان تعرف انه قبل اكثر من مائة عام كتب عبد الرحمن الكواكبي عن طبائع الاستبداد واخلاقه ونتائجه الكارثية والخطيرة على الشعوب … والعراق هو في الاخير – كما نعرف – بلد المستبدين والطغاة المتنمرين , حتى قال احد المستشرقين (ان هذه البلاد هى ذكرى مستبدين ومحتلين) . كما ذكر هذا الموضوع المفكر السوري جورج طرابيشي في كتابه (المثقفون العرب والتراث) واستعرض تاثير الخصاء على المثقفين العرب. وقد اعتمدت هذا المنهج عند طرابيشي في بيان اصابة المثقفين العراقيين – وخاصة الشيعة والكورد والمسحيين والتركمان – بالخصاء امام المركزية السنية والدولة القومية والانظمة الطائفية , وقد ادرجت هذا المنهج في مقالات عدة اهمها (عقدة كيس الحاجة عند المثقفين الشيعة والكورد والمسيحيين) . فيما اكد المفكر الفرنسي لابوسي (لو أن مكون أو اثنية أو شعب تعرض للظلم لفترات عقود من الزمان , ينشىء جيل من الشباب لايهمه حريته وكرامته بقدر مايهمه أن يأكل ويشرب , وأطلق عليهم مصطلح المواطن المستقر). ولكن يبقى الكتاب الاشهر والاهم عربيا في هذا المجال هو (سايكولوجية الانسان المقهور) لمصطفى حجازي الذي بدى وكانه يتكلم عن الانسان العراقي الذي تعرض اكثر من غيره للقهر والطغيان والتجويع والاستبداد والمكافحة الثقافية وانتهاك الهوية , والذي نتج عنه افرازات وسلوكيات وممارسات من الدونية والضعة والاستلاب والخصاء مازالت حاضرة بقوة عند الاجيال التي عاشت الحقبة الديكتاتورية والطائفية بقوة . ولكن هل نجحت هذه المقالات والمؤلفات والكتابات في تخليص الانسان الشيعي من الدونية ؟ بالطبع لم تنجح بذلك لوجود عوائق اجتماعية واستعدادات نفسية تمنع ذلك اهمها :
1 . العائق الشخصي : فالانسان الدوني عنده استعداد عائلي وعشائري ومناطقي لهذه الاصابة , تبلورت من خلال تراكم طويل من الضعة والنقص والتدجين والاستلاب , وسنوات طويلة من القهر الاجتماعي والاستهداف الطائفي والفقر الاقتصادي , وبالتالي لايمكن التحرر منها من خلال دراسات معرفية ومقالات نظرية .
2 . العائق النفسي : الكبرياء الفارغة والعنجهية البدوية داخل الشخصية العراقية تمنعه الاعتراف بوجود هذه الدونية او مراجعة افكاره ومقولاته وسلوكه . فهو يعتبر نفسه افضل الناس واشجعهم واعرفهم واعلمهم بالثقافة والفكر , وبالتالي فمن المستحيل مراجعة افكاره واراءه ومقولاته , ناهيك عن الاعتراف باصابته بالدونية والخصاء والاستلاب .
3 . العائق المعرفي : فهناك الكثير من المثقفين والكتاب الشيعة لايعرفون تاثير العقد النفسية والاجتماعية على الافراد , ويحاكمون الظواهر السياسية والايديولوجية من خلال الحقل الثقافي الخاص بها , وليس ضمن الحقل النفسي والاجتماعي . فيما ان الامر غير ذلك تماما , لان محاكمة العراقي وفق الحقل الثقافي لايصل الى نتيجة ومعرفة , لسبب بسيط وهو ان تلك الظواهر هى مجرد مظاهر وتقليد ومحاكاة وشعارات وخطابات غير اصيلة عند العراقيين , وهى مجرد طلاء براق لم ينفذ الى اعماق هويتهم وشخصيتهم الحقيقية . وسبق ان اشار الى هذه الظاهرة الدكتور علي الوردي الذي يعد اول عراقي لم يحاكم او يناقش او يحاسب المثقفين والمتعلمين وفق التصورات الايديولوجية والفكرية والسياسية مثل القومية والماركسية والوطنية , وانما وفق المفاهيم النفسية واللاشعورية .
كما اننا عندما نذكر ظاهرة الدونية عند الشيعة في العراق , لانقصد التعميم بقدر مانشير الى ظاهرة منتشرة قد تشكل اكثر من ثلاث ارباع توجهات المتعلمين والمثقفين والكتاب والاكاديميين والادباء الشيعة في العراق . فالظاهرة تختلف عن القاعدة – كما هو معروف بالدراسات الاجتماعية والنفسية والانسانية – والدونية هى بنية لاشعورية غير عقلانية ترسخت ضمن اللاوعي والعقل الباطن على مدى عقود من الاستهداف القومي والطائفي , وان هدفنا من ذكرها وعرضها ودراستها ليس الانتقاص والانتقام , وانما سحبها من منطقة اللاوعي عند الانسان الدوني المصاب بها الى منطقة الوعي والعقل , حتى يعلم انه مصاب بها , ومن ثم التمهيد للتحرر منها . بمعنى ان هناك ثلاث مراحل للتحرر من الدونية يجب على العراقي معرفتها او القيام بها حتى يتخلص منها وهى :
1 . المعروفة بالحالة : اي الوعي بوجود الحالة . فيجب على الانسان ان يعترف بان هناك حالة مرضية تبلورت خلال عقود الحكم الاستبدادي والطائفي والبعثي عند الجماعة الشيعية في العراق . وهى حالة مؤكدة وغير خاضعة للجدل والنقاش , اثبتتها التجربة والواقع وعززتها مواقع التواصل الاجتماعي والانترنت والاعلام الموجه . واذا اراد الانسان العناد ثارا لكرامته وشخصيته ورفض الاعتراف بالحالة او وجودها , فان المرحل الثانية والثالثة لانفع لها , لان اصل الاعتراف بالحالة غير متوفر . ويكفي ان نعطي مثالا واحدا حول وجود هذه الدونية الشيعية ماذكره السير ريتشارد بيمونت السفير البريطاني في العراق عام 1967 حول وصف شخصية رئيس الوزراء ناجي طالب في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف وهو شيعي من الناصرية ووالده كان احد اعضاء مجلس النواب بالقول (ان مشكلته تتمثل في انه يريد ان يكون في وفاق مع الجميع . فهو ثوري في مرحلة الذبول , وشيعي غير قادر على التواصل الى تفاهم مع ابناء طائفته . ولكن تظهر عليه مسحة من المازوخية الشائعة لدى الشيعة …. وكان احيانا يسر لي بانه يخشى من ان تسحل جثته في الشوارع من قبل الدهماء). وهذه شهادة حقيقية عن ناجي طالب فقد اعلن براءته من مذهبه الشيعي عندما ساله الصديق حيدر حنون العتابي – الذي كتب عنه رسالة الماجستير عام 2010 – عن مذهبه , فاجابه : انه سني . وعندما ذكر له انه شيعي وان والده يقوم بالطبخ في محرم وغيرها من الادلة رفض ذلك بعصبية !! وهو نموذج للمسؤول الشيعي الذي يتصدى للمسؤولية والمنصب في الدولة القومية الذي يعاني من استلاب الهوية والدونية , فكيف بالمسؤول البسيط والانسان العامي ؟؟ واما مصطلح (المازوخية) (اي التلذذ بالالم والخضوع له اختياريا) الذي ذكره السفير البريطاني في وصف ناجي طالب وبعض الكتاب في وصف الشخصية الشيعية في العراق , فانا ارفضه ولااذكره في مقالاتي ودراساتي , وافضل بدلا عنه مصطلح (الدونية) , والسبب هو ان الانسان الشيعي ليس (مازوخيا) على طول الخط , فهو (مازوخي) فقط امام الانسان القوي والحكم البعثي والطائفي , ولكنه سادي (يمارس الالم على الاخرين) امام الانسان الضعيف والشيعي او الكوردي او الايراني وغيره . وهذا الراي هو اختيار استاذنا الدكتور علي الوردي الذي اشار الى هذه الظاهرة عند العراقي في كتابه (شخصية الفرد العراقي) , ونحن نسير على منهجه بهذا الشان , لاننا وجدنا صحته على ارض الواقع . وهذا رد على احد الكتاب الذي وصف الشخصية الشيعية بالمازوخية والسنية بالسادية , لان حتى الشخصية السنية ليست سادية على طول الخط , فهى سادية على الناس المسالمين من الشيعة والكورد والايرانيين والايزيدية والتركمان والمسيحيين وغيرهم , ولكنها مازوخية امام الاتراك والبدو العرب والامريكان والانكليز . اذن القضية تخضع لماهية الانسان المقابل وهويته واثنيته وديانته وجنسيته .
2 . الاعتراف بالحالة : اي يجب الاعتراف بوجود الاصابة بالدونية عند الشخص المعني . والاعتراف ليس بالضرورة ان يكون علنيا وامام الملا , بل فقط يمكن الاعتراف بينه وبين نفسه حتى يمكن له البحث عن طريقة للتحرر والخلاص منها . ويجب ان يعرف الشيعي العراقي انه مصاب بالدونية حتى يثبت العكس , وليس انه غير مصاب بها حتى يثبت العكس . اي ان الاصل هو الاصابة وليس التحرر , لان الدونية هى تيار جارف كبير ونسق فاعل من الافكار والسلوكيات هيمن على اغلب توجهات الانتلجنسيا الشيعية والعامة من الناس . وهدف الاعتراف هو سحب الحالة الدونية من اللاشعور الى منطقة الوعي والشعور والمعرفة , تمهيدا لتفكيكها وتحليلها وتعريتها , ومن ثم قتلها والتحرر منها .
3 . التحرر من الحالة : ويكون من خلال توفر الارادة والعزيمة والقرار النهائي بالتحرر من الدونية وقتل الاب والسيد الوهمي عند الانسان الشيعي , ومتابعة مايكتبه المختصون بهذا الشان . فلايكفي المعرفة بالحالة والاعتراف بها للتحرر من الدونية , وانما يجب توفر الارادة للخلاص منها . . وكما قالت الكاتبة الامريكية لويزا هاي (1926 – 2017) (مالشعور الا فكرة تسري في جسدك , فاذا اردت تغيير مشاعرك فعليك بتغيير افكارك) .
وبالطبع ليس من السهولة ان يتحرر الانسان من الدونية والمتعلقات النفسية الاخرى المصاب بها كالاستلاب والنقص والضعة لاسباب عدة اهمها :
1 . عدم اعتراف الانسان المصاب بالدونية والخصاء والاستلاب والنقص بهذا المرض , بسبب طبيعة الانسان العراقي الذي يعطي لنفسه تقديرا اكبر من حجمه واعتزازا اكبر من واقعه .
2 . ارتباط الدونية الشيعية في العراق بالوطنية والعلمانية والمدنية , وهذا الارتباط والتلازم هو من نتاج الانظمة القومية والطائفية واعلامها الموجه وخطابها الايديولوجي والسياسي طيلة اربعين عاما (1963-2003) , حيث روجت ان الشيعي الوطني والعروبي هو الشيعي المستلب والناقص والدوني والمخصي الذي يقبل بالعبودية البعثية ويدافع عنها ويبرر اعمالها وصفحاتها السوداء .
3 . الخشية من الجرح النرجسي , او فقدان العراقي لكرامته عند الاعتراف والاعتقاد باصابته بالدونية , ومحاولته باي وسيلة انكارها او السخرية من وجودها او تاثيرها , او خلط الاوراق والقائها على الاخرين الاحرار والشجعان المتحررين منها اولا ومن سطوة الاب الميت المخصي لابنائه ثانيا .
4 . الاندماج مع القطيع الثقافي والسديم السياسي السائد يوفر للانسان نوعا من التضامن مع القطيع الدوني . فالوعي والاختلاف والتفرد يجعل الانسان في حالة من الاغتراب والشك والالم .
عقدة الدونية هي شعور الإنسان بالنقص أو العجز العضوي أو النفسي أو الاجتماعي بطريقة تؤثر على سلوكه، مما يدفع بعض الحالات إلى التجاوز التعويضي بالنبوغ وتحقيق الذات والكينونة، أو إلى التعصب والانكفاء والضعة والجريمة . الدونية علميًّا : أقل من مرض، وأكبر من شعور. ويسمَّى هذا الشعور في علم النفس «Inferiority Complex»، أو الدونية، والدونية مفردة او كلمة تاتي من الادنى – اي الشعور بالادنى – وليس بالتفوق . وهو مصطلح أتى به الطبيب والمعالج النفسي النمساوي «ألفرد أدلر». وعرَّفه بالعقدة النفسية، أو الشعور الغامر بعدم الأهمية . والدونية ايضا الشعور بالنقص وأنك دون الآخرين من حيث الصفات الاجتماعية أو الجسدية أو الفكرية أو النفسية. ويكون الشعور اما حقيقي أو متخيل . فالشعور بالدونية الحقيقي هو الشعور الذي يستند الى معطيات حقيقية وموضوعية وواقعية مثل شعور الدول النامية , او العربية والاسلامية بالنقص امام الغرب وحضارته وتقدمه وتطوره , لان الحضارة الغربية حضارة عظيمة ومتفوقة في جميع النواحي السياسية والاقتصادية والاخلاقية والعلمية وغيرها . واما الشعور بالدونية المتخيل فهو ينتشر بين الاوساط المتخلفة والجماعات العربية والاسلامية . وهو شعور مصطنع ومتخيل والسبب هو ان جميع هذه الجماعات هى متشابهة بالتخلف والنقص , ولكن اصحاب السلطة منهم – وخاصة المركزية السنية – تقتصر الدونية والاستلاب والنقص وتروج له على جماعة محددين من المعادين لهم , وخاصة من الاقليات في العالم الاسلامي مثل الشيعة والكورد والمسيحيين والدروز والتركمان وغيرهم .
ان الدونية مثل الاستلاب . وهى تعني الاستسلام للفكرة السيئة التي روج لها الاخرون حولك . والامر شبيه بما في حالة المراة في العالم العربي والاسلامي . فصورة المراة التي روج لها المجتمع الذكوري خلال قرون طويلة اتصفت بالقصور والعجز والضعف والتخوين , وهذا التكرار والترويج للصورة النمطية جعل عندها حالة من الاستلاب والنقص والضعة امام المجتمع , وبالتالي فانها اصبحت اسيرة هذه النظرة وبقيت خاضعة لها باستمرار ولاتستطيع الاعتراض عليها او مواجهتها , بل وربما اتهمت النساء الاخريات بهذه الصفات . وكذا الامر مع الشيعي العراقي فالحكومات الطائفية والعنصرية والقومية اخذت تروج بالاعلام والتربية والتعليم بانه ليس عروبي او وطني – ان لم يكن العكس – فهو شعوبي وصفوي وعجمي وايراني وهندي ورافضي , وغيرها من المصطلحات والمفاهيم الرائجة التي تغلغلت بسبب التكرار الى منطقة العقل الكامن واللاشعور والتكرار سلطة – كما يقول رولان بارت – جعلت الشيعي يعيش في حالة من الارتباك والنقص والضعة والشعور بالدونية امام الاخر , وهذا الشعور امتد الى جميع المسارات الوطنية والدينية والقومية والعلمانية والمدنية والحضرية والسياسية , وبالتالي جعلته في موقف المزايدة والتطرف في تبني هذه العناويين . وبالطبع الاغلبية لايعرفون طبيعة هذا الشعور والمواقف لان كل تصرفاتهم هى لاشعورية ومن تاثيراتها المباشرة , الا انهم وفي سبيل الخلاص من هذا الشعور بالاثم ومحاولة تعويض هذا الاستلاب والرغبة بالارتقاء , ارادوا الاندماج مع خطاب السلطة الطائفية والقومية من خلال مهاجمة الشيعة انفسهم , بدعوى وجود نوعين من الاشخاص المنضمين للتشيع السياسي : الاول , عملاء وخونة وشعوبيين وصفويين وعملاء يستحقون الهجوم والتخوين والتحريض . وهذه الصفات تطلق على كل من يقف بوجه الاستبداد والطائفية والاقصاء , ويتصدى للمعارضة والعمل السياسي . والثاني , اناس وطنيون وعروبيون اصلاء ومعتدلون , وهذه الصفات تطلق على المخصيين والجبناء والمصابين بالدونية والنقص والعاجزين عن معارضة القوى الاستبدادية والطائفية والبعثية او فضحهم وتعريتهم . بمعنى انهم يريدون الشيعي ان يبقى في خانة الدونية والعبودية والاذلال والتبعية حتى يطلقوا عليه هذه العناويين الايجابية , ولكن اذا خرج عن الطوق وتمرد عليهم ووقف ضدهم , فان جميع الصفات السلبية في التاريخ سوف تطلق عليه , وتتعرض سمعته وتاريخه للتشويه وكتاباته ومقالاته للتهميش ومؤلفاته للاقصاء والانزواء , لذلك تجد ان الخصاء والدونية والنقص هو تيار جارف عند المثقفين الشيعة , لان الانسان يخشى سطوة الاعلام البعثي والتعرض للعزل والاتهام بالطائفية , فيما نجد المعارضين لهم افراد نادرين واقلية وسط هذا السديم الثقافي والقطيع الشعبوي , ولكن هذا لايمنع من اتخاذ البعض من الكتاب والمثقفين طريق الحياد , والوقوف على التل , وعدم مواجهة الطرفين , فلا هو في صف المعترضين الشجعان ضد الاقصاء والمركزية السنية , ولاهو متهم بالدونية والخصاء والاستلاب , ويكون – في اغلب الاحيان – منشغل بالثقافة التجريدية والعلمية والادب والشعر والتاريخ والترجمة والفلسفية والانسنة وغيرها .
بدات معرفتي بوجود هذا الشعور بالدونية عند الكثير من اهل الوسط والجنوب الشيعة اثناء مرحلة دراستي الجامعية في بغداد , حيث رايت بعض الطلبة وهم يخجلون من اصولهم الاجتماعية من الجنوب – وخاصة الناصرية – وكانوا يعتبرون انفسهم ادنى منزلة من البغادة والمحافظات الغربية . وهذه الدونية يمكن تسميتها بالدونية المكانية او المناطقية , فهم لايصرحون باسماء محافظاتهم وعشائرهم , حتى وصل الحال بالكثير منهم الى تقليد (البغادة) بالكلام واللهجة , وربما يكون استهداف هذه المحافظات الجنوبية من قبل سلطات الامن البعثي ومتابعتهم ومراقبتهم – وحتى اعتقالهم لادنى الاسباب – دور في احجام هؤلاء عن عدم ذكرهم لاصولهم الاجتماعية . ويمكن تسمية هذا النوع من السلوك هو بالدونية الساذجة او المبسطة , لان عنفوان الشباب الجامعي ونرجسيته لاتجعله يذهب بعيدا في هذا الشوط , او في هذا المجال من الدونية . كما ان السلطة البعثية الحاكمة كانت تعتمد الاستهداف الطائفي الضمني ضد الاغلبية الشيعية في البلاد , وليس الاسلوب الصريح والمباشر والاسم الحقيقي , لانها تعرف جيدا ان اغلبية طلبة الجامعات هم من الشيعة والمحافظات الجنوبية , فلاتريد اثارة هؤلاء الطلبة والشباب في العاصمة بغداد , الا ان المكافحة الثقافية والطائفية كانت تتخذ اسلوبا وطريقا غير مباشرا للهجوم على الشيعة ومذهبهم وهويتهم وتاريخهم , من خلال استخدام السرديات القومية والبعثية , وكلنا نعرف ان الفكر القومي يضمر خطابا طائفيا مؤكدا بحكم الذاكرة العربية السنية التي يعتمدها , وهى ذاكرة تختلف كليا عن الذاكرة الشيعية – ان لم تكن متضادة معها – فمثلا كان احد الاساتذة ويدعى الدكتور خالد الجنابي يدرسنا التاريخ العباسي خلال مرحلة حكم البويهيون والسلاجقة , وبالطبع لم توجد كلمة او صفة سلبية لم يستخدمها ضد البويهيين الشيعة , واعتبرهم صعاليك وغزاة وقتلة ومحتلين . ولكنه لم يكن يصل الى السلاجقة الاتراك السنة حتى تغيرت نبرة صوته وقسمات وجهه , واصبح اكثر هدوءا واعتدالا ورومانسية , وضاعت مفردات الشتيمة والاحتلال , واخذ يدرسنا التاريخ بموضوعية وعلمية , وكأنهم لم يسيطروا على بغداد اكثر من مائة عام وانما سيطروا على كينيا !! ولكن في الاجمال يمكن القول ان هذه المرحلة الجامعية قد اسست عند الكثير من الشيعة لما نطلق عليه (خميرة الدونية) او الاستعداد لقبول الاستلاب والضعة والتدجين امام الاخر الحاكم القومي والطائفي , وشكلت الاساس النفسي للشعور بالادنى منزلة , والمعرفة بان هناك في المجتمع العراقي الاعلى منزلة , وانه يجب احترام هذه التراتبية السياسية والاجتماعية وتقديرها وعدم التجاوز عليها .
بعد التحاقي بالخدمة العسكرية الالزامية في عقد التسعينات , وجدت الامر مختلف تماما , حيث ان الدونية والهجوم والسخرية من الشيعة اتخذ منحى اكثر صراحة وعلنية عند العرفاء والنواب ضباط الشيعة في الجيش العراقي السابق الذي حل عام 2003 . فلاتجلس مع احد العرفاء او من النواب ضابط , الا وتجده مهاجما الشيعة متهما اياهم بالفساد الاخلاقي والخيانة , وكأن الشيعة هم من اجبروه على التطوع او اهانوه او قمعوا تطلعاته وطموحاته في الحياة المدنية السليمة , وهذا النمط من الدونية اتخذ مسارين :
الاول : المسار العملي : حيث تجد الخضوع والتذلل والعبودية للضباط السنة , واضطهاد الجنود المكلفين الشيعة بالجيش , ومراقبتهم ومعاقبتهم تملقا لهؤلاء الضباط . (ويذكرون بهذا الصدد احدى المواقف الطريفة وهى ان احد نواب الضباط في ساحة العرضات والتجمع للجنود المكلفين واراد توبيخهم فسال الجندي الاول : انت منين ؟ فاجابه انا من الناصرية . فقال له العريف : العن ابوك يابو الناصرية . وسال الثاني انت منين ؟ فاجابه : انا من السماوة . فقال له : العن ابوك يابو السماوة . فسال الثالث انت منين ؟ فاجابه : انا من الحلة . فقال له : العن ابوك يابو الحلة . وسال الرابع انت منين ؟ فاجابه : انا من تكريت . فقال له : العن ابوك يابو الناصرية)!! (وتكريت هى مسقط راس الرئيس السابق صدام حسين لمن لايعرف ذلك من الجيل الجديد) .
الثاني : المسار النظري : .حيث السخرية والهجوم والتشويه والتخوين للجماعة الشيعية في العراق , ورميها بجميع الصفات السلبية التي روج لها الخطاب البعثي والطائفي .
ولانستطيع القول ان هؤلاء العرفاء ونواب الضباط قد تلقوا تعليمات محددة بالهجوم على الشيعة من الضباط السنة , لان النظام البعثي كان يمنع استخدام هذه المفردات عند الناس وتداولها , حتى لاتثار الاسئلة المتعلقة بها من التهميش والاقصاء والاستعباد , وانما بصورة غير مباشرة من خلال الايحاء والتخوين والاتهام للجماعة . فهى نتاج سرديات الدولة القومية وخطاب السلطة البعثية . فالخطاب كما هو معروف عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1929 ـ 1984) متلازم مع السلطة، فهو وسيلة الوصول إليها، بل هو السلطة ذاتها. ومن البديهي أن يخضع إنتاجه لقوانين المراقبة والانتقاء والتنظيم ، ولا ينتج بحرية أو بعفوية أو بارتجالية، كما لو كان ينتج لوحده ، بل إن كل خطاب محكوم بمرجعيات (دينية، سياسية، فكرية…إلخ) وهو نمط من انماط تنظيم المعرفة في علاقتها بالمؤسسات الحكومية .كما اشار الى هذه الظاهرة الدكتور علي الوردي بالقول (لقد حكم الطغاة في هذا البلد اجيالا متعاقبة , فاعتاد سكانه بدافع المحافظة على حياتهم ان يحترموا الظالم ويحتقروا المظلوم) .
وقد ساهم هؤلاء العرفاء والنواب ضباط بنقل هذا الخطاب الى مدنهم وقراهم , لانهم كانوا اول وسيلة للتواصل بين المدينة والقرية في الجنوب وبين العالم الخارجي , واما اذا عرفنا ان اعدادهم كانت في الوسط والجنوب بمئات الالاف , لعرفنا قوة الخطاب وانتشاره وفاعليته , فيكفي ان تعرف مثلا ان محافظة الناصرية كانوا يسمونها (بلد المليون عريف) للدلالة على وفرة النواب ضباط والعرفاء فيها , وهؤلاء شكلوا طلائع الدونية والهجوم والنيل من الشيعة , وترسيخ التراتبية وترويجها في المجتمع العراقي , والشعور بالادنى في تلك الترابية , والمعرفة والقناعة بان هناك من هو اعلى في هذا المجتمع . وهذه التراتبية يقف على راسها في الدولة العراقية الضباط والحكام السنة والسرديات والرمزيات التي كانوا يظهرونها من قبيل الملابس البراقة التي يرتدونها والعصا المارشالية التي يتبخترون بها والنجوم اللماعة والخطوط الحمراء فوق اكتافهم والاماكن الخاصة التي يرتادونها والسيارات الخاصة التي يتنقلون بها , وفوق ذلك السلطة التي يتحكمون بها .
بل وجدنا – للاسف – ان مظاهر الدونية تمددت حتى عند الضباط الشيعة , فهم كانوا يعرفون ان تلك التراتبية العسكرية ليست هى المعيار الوحيد في الجيش للتقييم والتقدير والاحترام , وانما هناك التراتبية المذهبية والمناطقية . فالضابط التكريتي هو حتما اعلى من الضابط الجنوبي حتى لو كان الاخير اعلى منه منزلة او رتبة , وقد شاهدنا هذا الحال اثناء الخدمة العسكرية وكيف ان مظاهر الدونية والاستلاب والانكسار ظاهرة عليهم , رغم ان بعضهم يحاول تقليد الضباط السنة ومداراتهم بالتنمر على الجنود والعرفاء والنواب ضباط الشيعة , ولكن سمة التهميش والاستعباد والمراقبة والاستهداف المذهبي جعلتهم في حالة اخرى من الخوف والدونية امام الضباط السنة . والمفارقة ان الاغلبية منهم لايعترف بهذه الحقيقة , وهى من سمات الشخصية الانسانية وصميم قيمها البدوية في العراق , ان لايعترف الانسان بانه كان محتقرا ومستلبا ومهمشا وضابطا من الدرجة الثانية او الثالثة بعد الضباط السنة والبعثيون , ويحاولون اظهار انفسهم بانهم ضباطا حقيقيون في الجيش العراقي السابق , لذا تجد عندهم مدحا وانبهارا بتلك المرحلة الاستبدادية والطائفية التي كان فيها محتقرا , بل واخذ الكثير منهم يتصل بضباط المنطقة الغربية بعد سقوط النظام البعثي الطائفي عام 2003 ويتملقون لهم وينالون من النظام السياسي ويسخرون من الجيش العراقي الجديد , تزلفا لهم وشعورا بالدونية والخصاء المزمن , واعتقد – ان لم يكن يقين – ان هؤلاء الضباط الشيعة في الجيش العراقي السابق كان المعيار عندهم للتقييم وتحقيق الذات والراسمال الرمزي والنفوذ والسلطة بالجيش هو تسلطهم على ابناء جلدتهم من الشيعة في الجنوب او ابناء مناطقهم والتحكم بهم وتنفيذ الاوامر والتعالي عليهم فقط , باعتباره هو المجال الاجتماعي لهم , واما الباقي من مكتسبات الرتبة والنفوذ والسلطة والاستعلاء على ابناء المناطق الغربية فلايهمه بشيء اذا لم يتحقق . وهو دليل اخر على استحكام النزعة الدونية عند الجماعة الشيعية في العراق .
ان مانذكره عن هؤلاء العرفاء والنواب ضباط والضباط الشيعة في الجيش العراقي السابق لايعني انهم جميعا مصابين بالدونية , او روجوا لها في المجتمع , وانما نتكلم عن ظاهرة عامة وليس قاعدة شاملة , فهناك عددا ليس بالقليل وقفوا بوجه الاستبداد والتسلط والطائفية , وتعرضوا في سبيل ذلك للقمع والاعتقال والاعدام , ولكن في المجمل ان القضية تخضع للنسبية والفروق الفردية رغم انهم يشتركون بالخضوع للتراتبية الطائفية والمناطقية والترويج لها في المجتمع العراقي .
اما المورد الثاني للدونية عند الشيعة في العراق فهم اعضاء حزب البعث الحاكم والرفاق الحزبيين في وسط وجنوب العراق . ودورهم هو الاهم والاكبر في الحياة المدنية بعد ان كان العرفاء ونواب الضباط المورد الاول في الحياة العسكرية . فالبعثيون الشيعة روجوا للتراتبية الحكومية والسياسية والمناطقية في الدولة العراقية بدعوى السياقات الحزبية والتسلسل الهرمي البعثي , فهو يتلقى التعليمات والاوامر والتحريض على اهل الوسط والجنوب من اناس وشخصيات في القيادة القطرية – او القيادة القومية – للحزب الحاكم من اهل السنة والغربية , ويرفع شعارات وصور ورمزيات ومرويات واساطير تمجدهم , امثال صور الرؤساء احمد حسن البكر وصدام حسين وغيرهم , وهو يرى جيدا ان الرفاق في القيادات العليا هم من تلك المناطق , ويجب احترامهم وتقديرهم وحمايتهم من اعدائهم – وتحديدا من اهل الجنوب – لذا تقمص البعثي الشيعي دور (كلب الحراسة) جيدا للمنظومة القومية والعنصرية الحاكمة , فاتخذ دور رجل الامن والمخبر السري وكاتب التقارير , ثم تمدد الامر الى واجبات الحراسات والخفارات والاعدامات والاعتقالات والدعايات للسيد القاطن في بغداد والحاكم المتمركز في الغربية , وطبعا كل ذلك يجري بدعوى الرفاقية والروح البعثية والاهداف القومية في سبيل الامة العربية واهداف الحزب في الوحدة والحرية والاشتراكية !! ومن المؤكد ان البعثيين الشيعة ليسوا اغبياء او مغفلين حتى يصدقوا هذه الاكاذيب , ولكن حقدهم على ابناء جلدتهم وقبولهم بالامتيازات التي يوفرها دور كلب الحراسة لهم على قاعدة (زود العبد من زود عمو) جعلهم يغضون النظر عن تلك الاكاذيب ويتقمصون الدور جيدا في التبعية والعبودية , الامر الذي خلق – او صنع – شعور بالدونية (او الادنى) في المجتمع الشيعي , والترويج للعبودية والاستلاب والضعة والنقص امام الحاكم المطلق في بغداد وامتداداته الاجتماعية والعشائرية في المنطقة الغربية . وحتى بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 ومرور السنوات الطويلة من ذلك الواقع المزري , ما زال اغلبية البعثيين يفتخرون بعبوديتهم وانجازاتهم بقمع المنطقة الجنوبية على قاعدة (المخصي يفتخر بفحولة سيده) , رغم ان العهد الجيد وفر لهم جانبا كبيرا من التحرر من التبعية والعبودية للتكارتة والطائفيين . واما في المجال النظري فقد روج الرفاق البعثيين للدونية الشيعية من خلال الترويج للسرديات القومية العربية , وهى كما قلنا سرديات طائفية وعنصرية تستهدف الجماعة الشيعية في العراق بصورة مباشرة . واذا كان هذا السياق قد اتخذ صورة غير مباشرة في السبعينات , فقد تصاعد بصورة اكثر مباشرة في الثمانينات وابان الحرب العراقية – الايرانية (1980 – 1988) وتخوين الجماعة الشيعية بدعوى التعاطف مع ايران , فساهوا بحملة التنكيل بالشباب المتدين وكتابة التقارير الامنية عليهم واعتقالهم بدعوى الانتماء للتنظيمات الاسلامية , وتسليمهم لدوائر الامن العامة في مراكز المحافظات وبغداد التي يهيمن عليها ويتزعمها الضباط من المحافظات الغربية واعدام الالاف منهم , ناهيك عن حالات الاغتصاب والاعتداء والتجاوز على الفتيات بالسجون والمعتقلات . ورغم تلك الخدمة التي قدمها البعثيون الشيعة للحكم الطائفي البغيض طيلة اربعين عاما (1963-2003) , الا ان الدوائر السنية اعتبرتهم كلابا للحراسة فقط , واشاعت انهم يتصرفون بمفردهم في الهجوم على الشيعة وقمعهم , بل واتهمهم النظام بان لهم الدور الاساس في كراهية الشيعة للحكم والسلطة , بسبب ممارساتهم المتطرفة بكتابة التقارير والقمع والتنكيل . فقد روي بان جماعة من الجنوب ذهبوا الى ديوان الحاج خير الله طلفاح (خال الرئيس صدام حسين) في تكريت من اجل التوسط لاطلاق سراح ابنهم المتهم ظلما بالانتماء لاحد الاحزاب الاسلامية المعارضة والمحكوم عليه بالاعدام . فاراد طلفاح ابعاد التهمة عن النظام والقائها على الشيعة من اجل ترسيخ الدونية والانقسام في المجتمع . فسالهم : هل صدام حسين كتب على ابنكم التقرير الامني ؟؟ فاجابوا بالنفي طبعا . فسالهم : هل صدام حسين اعتقل ابنكم ؟؟ فاجابوا بالنفي . فسالهم : هل صدام حسين حكم على ابنكم بالاعدام ؟؟ فاجابوا بالنفي . فقال لهم : اذن جلابكم (يقصد البعثيين ورجال الامن الشيعة) هم يكتبون على الناس ويعدمونهم وصدام لايعرف ذلك . واذا راجعنا كلام خير الله طلفاح نجد ان يحوي جانب من الصحة , ولكنه يحوي ايضا مغالطة كبيرة وهى : من حرض هؤلاء الكلاب على كتابة التقارير الامنية على الشباب الشيعي ؟؟ ومن شجعهم وكرمهم على هذا العمل ؟؟ هل تاكد الحزب من صحة تلك التقارير ؟؟ هل اشترط صحتها ومصداقيتها ؟؟ هل عاقب الرفيق البعثي اذا ثبت كذبها ؟؟ بالطبع كل ذلك لم يحصل – ان لم يكن العكس – فقد كان الرفاق يكرمون ويرتقون بالوظائف والامتيازات والتدرج الحزبي عندما يرفعون تقارير امنية اكثر من غيرهم . وقد اراد البعض من المصابين بالدونية تبرءت البعثيين الحاكمين في بغداد من هذه السلوكيات والقائها على البعثيين ورجالات الامن والعرفاء ونواب الضباط الشيعة فقط , من خلال استعارة رؤية وعبارة الحاج خير الله طلفاح السابقة , القصد الاول منها اتهام البعثيين ورجالات الامن الشيعة بالسقوط الاخلاقي وقمع ابناء جلدتهم فقط وتبرءت النظام البعثي الذي يدفعهم لهذا العمل , والهدف هو – كما قلنا – ترسيخ الدونية عند الجماعة الشيعية واتهامها بذاتها واعتبار سقوطها هو حالة جوهرية في اخلاقها وسلوكها وليست وافدة عليها من النظام الديكتاتوري والاستبدادي الذي كان هدفه الاول هو زرع الاحتراب والشك والحقد والكراهية بين ابناء المجتمع . وهذا كلامهم قد يحوي جانب من الصحة حول تطرف هؤلاء البعثيين ورجالات الامن والنواب ضباط والعرفاء في قمع الشيعة ومراقبتهم واضطهادهم وكتابة التقارير الامنية عليهم , حتى قد يصل الامر – في حالات معينة – القيام بهذا السلوك بدون اي امر او تعليمات حزبية وامنية , وانما تملقا للحكم الطائفي وحقدا على مجتمعهم ومدنهم , الا ان هذا – كما قلنا – لايبرء النظام الطائفي الحاكم في بغداد الذي زرع الدونية والاستلاب والخنوع والرعب والنفاق والتملق عند البعثيين الشيعة ورجالات الامن , حتى اصبحوا بعثيون اكثر من البعثيون السنة ووكلاء امن اكثر من ضباط الامن .
الا انه في عقد التسعينات اخذ الاستهداف والترويج للدونية عند البعثيين الشيعة جانبا اكثر صراحة وعلنية . فكلنا يعرف ان النظام الطائفي الحاكم اخذ بالضعف والتهاون في عقد التسعينات – وخاصة بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 – عندها اوكلت السلطة لهم دورا ليس امنيا فقط , وانما دورا طائفيا ومذهبيا صريحا . فقد اعلن النظام الحاكم ما اطلق عليه تسمية (الحملة الايمانية) اي الترويج للافكار الاسلامية السنية من اجل مواجهة المد الاسلامي الثوري الشيعي , وادخل اغلب البعثيون الشيعة في وسط وجنوب العراق دورات دينية على المذهب السني , هدفها الاساس النيل من المذهب الشيعي واتهامه بالفارسية والصفوية والشعوبية وغيرها , فاخذ البعثيون يرددون مصطلحات لايعرفون مغزاها او هدفها ومن المقصود بها من قبيل ابن العلقمي والشعوبية وغيرها , بل وتحول الكثير من البعثيين صراحة الى المذهب السني (ظاهريا على الاقل) .
ان البعثيون الشيعة كان لهم الدور الاكبر في ترسيخ مفهوم الدونية عند الجماعة الشيعية . وكان لاعدادهم الكبيرة جدا – وخاصة في الجنوب – دورا اساسيا مازالت تاثيراته وانعكاساته وافرازاته ظاهرة وراسخة في المجتمع الجنوبي من حيث الانبهار بالاب الميت والترويج للدونية والهزيمة الذاتية عند الجماعة الشيعية في العراق , واذا عرفنا ان مقدار اعداد الاعضاء والرفاق البعثيين والبعثيات يصل الى مئات الالاف وان تاثيرهم امتد الى اولادهم واخوانهم واقاربهم – بل حتى الى اصهارهم – لعرفنا مقدار الاعداد المهولة في الوسط والجنوب , فهم اعلام متنقل وفيس بوك مستقل من الغل والحقد والكراهية للجماعة الشيعية التي وقفت ضد الاستبداد والديكتاتورية , سواء اكان افرادا ام محافظات ام تنظيمات او دول اقليمية فهم لاينسون لهم ابد الدهر وقوفهم ضد نظام سيدهم الاوحد صدام حسين . وهاجسهم الاول تسقيط وتشويه تلك العناويين التي وقفت بالضد من نظام البعث والنيل منهم على قاعدة (المخصي دائم الحقد على الفحل) اولا , والانبهار والاعجاب بالسلطات السابقة والترويج لها وتبييض صفحتها السوداء ثانيا . ومن حسن حظهم انهم عاشوا في زمن التهاون والتسيب والفوضى والاعلام الحر بعد 2003 , واستغلوا حالة الحرية والديمقراطية وتهاون الحكومة بمعاقبتهم وملاحقتهم في بث افكارهم وتعدد وسائل النشر بالفضائيات والانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي , وهى فرصة لم تحصل لاي جماعة سياسية وايديولوجية معارضة في تاريخ العراق , وكما قيل سابقا (حظ العواهر جواهر) .
اذن يمكن القول ان فئتين من الجماعة الشيعية في العراق كان لهما الدور الاكبر والابرز في الترويج لظاهرة الدونية والتراتبية السياسية والطائفية والمناطقية وترسيخها والشعور بالادنى في مقابل الاعلى وهم :
الاولى : فئة العرفاء والنواب ضباط الشيعة في الجيش العراقي السابق الذي حله الحاكم المدني لسلطة الائتلاف الامريكي بول بريمر عام 2003 , الذين اسسوا لعقلية (النائب ضابط) المنتشرة في وسط وجنوب العراق .
الثانية : فئة اعضاء حزب البعث الشيعة في وسط وجنوب العراق , الذين كان دورهم الابرز هو كلب الحراسة للنظام الطائفي والعنصري وحمايته والدعاية له , وقمع الحركات والشخصيات الشيعية المعارضة , الذين اسسوا لعقلية (التابع الذليل) في وسط وجنوب العراق .
ان هذين الفئتين من الشيعة كان لهما الدور الابرز والاساس في ترسيخ قابلية العبودية عند الجماعة الشيعية في العراق . فاذا كان المفكر الجزائري مالك بن نبي ذكر ان المجتمعات المتخلفة عندها (القابلية للاستعمار) بحكم الهوان والضعف وشلل الارادة وغيرها , فان العرفاء والنواب الضباط الشيعة والرفاق البعثيون كان لهم الدور الابرز في ترسيخ (القابلية للعبودية) عند الجماعة الشيعية والترويج لها والتبشير بها , وذلك بحكم الايمان بالتراتبية الاجتماعية والسياسية والقناعة بها والشعور بالدونية والاستلاب , فهم لايتصورون انفسهم قادة او زعماء او رؤساء او حكام او ضباط , وانما تابعين ومتلقين ومنفذين للاوامر والتعليمات والقرارات فقط . ويحضرني بهذه المناسبة قول لاحد الرفاق في مدينتنا في الناصرية وهو يخاطب احد اولاد سيد هاشم المشاركين بالانتفاضة الشعبانية عام 1991 باللهجة الشعبية (مال سيد هاشم يصير رئيس جمهورية , هذا ابد مايصير) . بمعنى يريد ان يقول له بصورة غير مباشرة ( مستحيل سيد وشيعي وجنوبي يكون رئيس جمهورية لان الرئاسة هناك في الغربية) , وهذا الكلام يشكل قمة الدونية والعبودية والاستلاب عند الرفاق اعضاء حزب البعث .
وظاهرة الدونية والشعور بالادنى عند الجماعة الشيعية في العراق هى صناعة السلطة القومية البعثية بعد انقلاب شباط 1963 , واستمرت من خلال الاعلام والقسر والاستهداف والارغام حتى سقوطهم عام 2003 , هدفها الاساس الترويج للهزيمة الذاتية والشعور بالاستلاب والنقص عند الجماعة الشيعية وعدم القدرة على مواجهة الحكم البعثي الطائفي البغيض , ناهيك عن المشاركة بالادارة والحكم . ولم ترسخ تلك السلطات القومية لظاهرة الدونية عند الجماعة الشيعية في العراق فحسب , بل وعملت ايضا على اخصاء الانتلجنسيا الشيعية وتدجينها وترويضها . والخصاء يختلف عن الدونية في انه يشمل المثقفين والمتعلمين والادباء والكتاب والاكاديميين الشيعة , فيما ان الدونية تشمل العامة من الناس والمثقفين على حد سواء . ويمكن القول ان الخصاء نخبوي والدونية شعبوي , وربما تكون الدونية هى الخميرة او الارضية التي اسست الخصاء اللاحق للمثقفين . بمعنى ان كل مخصي هو دوني , ولكن ليس كل دوني هو مخصي . فالخصاء متاتي من خطابات ثقافية وضمن سرديات ايديولوجية ومسارات قومية , فيما ان الدونية ظاهرة شعبوية انتشرت من خلال التلقين البعثي الاعلام السوقي والاستعداد النفسي . والدونية ليست قدر محتوم لايمكن الانفكاك او التحرر منه , بل هو – كما قلنا – صناعة الانظمة الديكتاتورية والطائفية والعنصرية ضد الجماعة الشيعية في العراق . ويمكن التحرر منها من خلال الاليات التي ذكرناها سابقا . وعندما نقول ان الدونية بدات بعد الانقلاب البعثي عام 1963 لايعني ان قبلها كان المجتمع العراقي يعيش المدنية والحرية والمساواة والحداثة والتنوير باجلى مظاهرها , وانما كان يعيش الاجواء التقليدية للمجتمعات المتخلفة التي تهيمن عليها البنى البدائية لما قبل الدولة كالاسرة والقبيلة والاثنية والمذهبية والدينية والمناطقية وغيرها , ومن الطبيعي ان تكون هناك تراتبية اجتماعية في المجتمع العرقي , الا انها تراتبية تقليدية وغير صناعية . فهناك افراد وعوائل وعشائر تعتبر نفسها الادنى من غيرها , فيما يعتبر البعض انفسهم هم الاعلى منزلة بحسب طبيعة الراسمال الرمزي الذي يمتلكونه ويفتخرون به . وهى ليست ترابية سياسية وايديولوجية او معنية بالحكم والسلطة , وانما تراتبية تقليدية موجودة في جميع المجتمعات الباردة التي تعيش طفولة التاريخ – حسب تعبير هيغل – التي تعتمد الهويات والبنى معيارا للحكم والتقييم والمنزلة عند الناس , وهى ليست قسرية او اجبارية مثل الدونية السياسية التي ذكرناها سابقا , والتي تعاقب وتحاسب كل من يقف بوجهها او يفضحها او يعريها او حتى مجرد التطرق لها , وسيتهم بالتمرد والتحريض ضد النظام الحاكم كل من يشير لها . فيما ان الدونية التقليدية – او الشعور بالادنى – هى اختيارية وليست قسرية , بمعنى يمكن نقدها وتحليلها وتعريتها والدعوة لتهميشها وتفكيكها والتحرر منها . فالفقير يشعر بالادنى امام الغني والعشائر الجنوبية تشعر بالادنى امام البدوية والسنية مثل ال سعدون والعامي يشعر بالادنى امام رجل الدين والشيخ والملا والسيد والجاهل امام المتعلم والفلاح امام الاقطاعي والسركال وغيرها , ولكنها مرتبطة بالنظام الاجتماعي القائم وطبيعة المجتمعات البدائية التي تقدس المفاهيم والتصورات التقليدية , اخذت في العقود الاخيرة تواجه ضربات قاصمة من قوى التغيير الحديثة وتمردات من الاجيال الجديدة بفضل الانفتاح والتحديث . والدونية التقليدية موجودة حتى عند اهل السنة كنسق فردي من الاستلاب والشعور بالتراتبية , واستطيع ان اذكر بهذا الصدد مثالين : الاول من سلوكيات عبد السلام ابن الرئيس السابق احمد حسن البكر , فهو صديقنا بالفيس بوك وينشر كتابات لاتخلو من الدونية امام الرئيس السابق صدام حسين . فكلنا يعلم ان صدام حسين قد عزل والده البكر من الحكم عام 1979 وساهم بقتله سرا عام 1982 من خلال ابرة سامة بعد الدعوات الخاصة باعادته للسلطة عقب الهزائم العسكرية التي تعرض لها العراق امام ايران في ذلك العام , وحتى قبلها مقتل شقيقه الاكبر وخطيبته بحادث سيارة كبيرة , الا ان عبد السلام البكر يرفض كل تلك الاحداث , وينفي قيام صدام حسين اجبار والده في التنازل عن الحكم او مقتله او مقتل شقيقه محمد البكر , كل ذلك شعورا بالدونية والاستلاب امامهم , وربما كان لاراءه الغريبة وغير الواقعية دوافع طائفية تتمثل بالخشية من الشماتة الشيعية من هذه العائلة الساقطة التي حكمت العراق بالحديد والنار , ولكن هل ان ذلك يسترعى التجاوز على دماء والده وشقيقه ؟؟!! والمثال الثاني هو عن الاعلامية ميسون البياتي . فرغم الاهانات الشخصية والجسدية التي تعرضت لها من قبل عدي صدام حسين , الا ان منشوراتها بالفيس بوك لاتنال الا من الشيعة ومقداساتهم , واخرها النيل من شخصية الامام الحسين , ولم تذكر عدي صدام حسين او تنال منه ردا على تلك التجاوزات الشخصية التي تعرضت لها والتي لانستطيع ذكرها احتراما للموقع , وقد ذكرها وبالصور الادبية الكاتب حامد الزيادي في كتابه القيم (مابعد الاستعباد العراق 1968 – 2003) .
بعد سقوط النظام البعثي الحاكم عام 2003 حصلت انتفاضة ثقافية وفكرية ضد ظاهرة الدونية والتبعية والاستلاب عند الجماعة الشيعية في العراق , تاثرا بتداعيات الحماس والعنفوان بسقوط النظام الديكتاتوري والبعثي , وتلاشي المعادلة الطائفية في الادارة والحكم . وحصلت مراجعة فكرية لكثير من السلوكيات النفسية والاجتماعية التي تبلورة نتيجة الحكم الاستبدادي والطغيان , وحصلت دعوات صريحة بضرورة التحرر من عقد الماضي والشعور بالنقص امام الاخر المختلف بالثقافة والتوجه والانطلاق نحو التحرر من سيطرة الاب المزمن على الشيعة وهيمنته . وقد حصلت في وقتها دعوات خجولة ومحدودة من بعض المخصيين والبعثيين لتجاوز هذه الامور وعدم قتل الاب بحجة الطاءفية ونسيان الماضي , وغيرها من المطالبات التي لاتريد التغيير الجذري والحقيقي في طبيعة النظام السياسي والابقاء على التراتبية السابقة في الادارة والحكم , ولكن ضمن الاطار الديمقراطي , اي شرعنتها من جديد تحت ستار الديمقراطية والحرية والتعددية , ولكن تلك الدعوات واجهت رفضا من اغلبية الكتاب والمثقفين العراقيين مستغلين – كما قلنا – حالة العنفوان والحماس بسقوط النظام الديكتاتوري والدعوة للتغيير الراديكالي في منظمة الحكم والقيم , الا ان ذلك الحال والتغيير لم يستمر طويلا , اذ سرعان ما عادت النظم القديمة والانساق القومية والايديولوجية والدونية الاجتماعية بانتاج نفسها من جديد , وبعثت روحها المدجنة في الجسد الشيعي مرة اخرى , وانطلقت من تحت الرماد عقلية النائب ضابط والبعثي الذليل , وذلك من خلال معادل جديد ظهر لاول مرة في تاريخ العراق بعد السقوط عام 2003 وهو (الاعلام الحر) حيث عمل الانفتاح السياسي ودخول الفضائيات للبيوت والانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي – وخاصة الفيس بوك – دورا كبيرا ومهما في غسل الادمغة وتزييف الوعي عند اغلبية العراقيين , سيما الشباب منهم والمراهقين والافراد الذين يعانون من الفقر الثقافي والصابين بالدونية السابقة والبعثيين وغيرهم , خاصة اذا عرفنا ان العراقيين معروفين تاريخيا بالانقياد للاعلام وتصديقه والتاثر به , وهذا ماذكرته تقارير امريكية وبريطانية . وخاصة الاعلام المغرض والمثير والغرائزي , وهذا ماوصفهم به الملك فيصل الاول برسالته الشهيرة عام 1933 بالقول (سماعون للكذب ميالون للفوضى) . واذا كان الجيل السابق قد تعرض للدونية والخصاء والتدجين والاستلاب من الانظمة القومية والطائفية السابقة قبل 2003 فان هذا الجيل الجديد من الشباب والمراهقين قد تعرض للدونية من خلال الاعلام , الذي اعاد ترويج الدونية والهزيمة الذاتية عند الشيعي . وكان العامل الاول والاهم في الاعلام هو الفضائيات العربية والعراقية – واهمها قناة الشرقية ذات التمويل السعودي – التي روجت ليس للطائفية والتحريض والفوضى والتهويل فحسب , بل والدونية الشيعية والهزيمة الذاتية من خلال استخدام مصطلحات عززت تلك الدونية من قبيل (حكم العتاكة) – ويقصد به الشيعة – او الربط بين التخلف و(القرقوزية) وبين الشخصية الجنوبية . الا ان المعادل الجديد الذي حصل في الاعلام العصري هو دخول الانترنت وخاصة (الفيس بوك) على الخط , فبعد انتشار الموبايل الحديث الغلكسي Galaxy وبسعر معقول , اصبح للجميع متاحا تنظيم حساب بالفيس بوك ونشر الاراء السياسية والتاريخية وقد استغل العرب والبعثيين والطائفيين والمخصيين تلك الخاصية في نشر افكارهم التي ساهمت باكبر عملية غسل للادمغة في التاريخ , واذا عرفنا ان عدد العراقيين الذين اصبح لديهم حساب بالفيس بوك قد وصل الى مايقارب من (15) مليون مستخدم وحساب جديد بين عامي (2015 – 2020) لعرفنا مقدار تزييف الوعي وغسل الادمغة الذي تعرضوا له من الصفحات الوهمية والممولة .
وقد يطرح احدهم السؤال الاتي كيف يكون لاعلام معين ان يصنع حالة نفسية وسياسية واجتماعية محددة دون وجود واقع موضوعي لها ؟ في الواقع ان الاجابة على هذا السؤال تتخذ شقين :
الاول : لايمكن القول بعدم وجود واقع موضوعي بالمطلق . فالافراد السابقون الذين تعرضوا للخصاء والتدجين والاستلاب والدونية من قبل الانظمة البعثية والطائفية السابقة ما زالوا احياء , وموجودين ولم ينقرضوا , بل هم اكثر عددا من الجيل الجديد , والكثير منهم مازال يحن للعبودية والاذلال والقمع والفقر , وربما دفع الجرح النرجسي – حسب تعبير فرويد – البعض منهم الى تبرير اعمالهم وجبنهم وسبب سكوتهم عن مواجهة الظلم الذي حاق بهم , وهؤلاء هم اول المبشيرين للدونية والممهدين لها عند الجيل الجديد . وكما عبر عن ذلك المثل الشعبي العراقي (البزون مايحب الا خناكة) .
الثاني : ان الاعلام يمكن له ان يصنع حقيقة , او يخلق واقعا محددا دون ان يكون له اصل او وجود . وكما قيل (هناك اعلام ينقل الحقيقة وهناك اعلام يصنع الحقيقة) . اي ان الاعلام والفضائيات والفيس بوك عمل ليس على تزييف الوعي كليا عند العراقيين فحسب , بل وصنع وعيا اخرا مغايرا للحقيقة والواقع . فهو جعل الصديق عدو والعدو صديق . وجعل القاتل والارهابي بريىء والعكس اعتبر البريء ارهابي وقاتل . وجعل المخصي والجبان والدوني شجاعا , والعكس جعل الشجاع جبانا . وجعل الوطني عميلا والعكس جعل من العميل والتابع وطنيا وهكذا الامر ..
لقد كان اخطر عمل قام به الاعلام العربي والطائفي ضد الجماعة الشيعية في العراق هو مخاطبة العقل الباطن – او الكامن – والغرائز والسوقية , وذلك من اجل سهولة السيطرة عليه والتحكم به نحو الاتجاه والموقف الذي يريد , واقتياده نحو الهدف المحدد له , لان العقل الواعي هو في الاصل غائب عند اغلب العراقيين الذي يوجههم اللاشعور والمكبوتات والاشاعات والتهويلات . وعندنا مثالين عن ذلك هو ماتقوم به قناة (الشرقية) ذات التمويل السعودي وموقع او كروب (الخوة النظيفة) على الفيس بوك . فالشرقية تقوم بعرض المسلسلات السوقية والشعبوية والغرائزية التي تخاطب العقل اللاواعي عند الفرد العراق , ثم بعد دقائق تعلن في الاخبار الافكار والرسائل التي تريد ايصالها للجماعة الشيعية في العراق , والتي بمجملها ترتكز على التحريض الطائفي والتهويل وتبييض صفحة الديكتاتورية البعثية والهجوم على ايران والتركيز على الفصائل لمسلحة التي يسمونها الميليشيات بدل التركيز على الارهاب وغيرها . وقد نجحت نجاحا باهرا في خلق الملايين من الشيعة الذين غسلت عقولهم وصنعت شخصياتهم الدونية والمخصية . وبنفس الطريقة يعمل كروب (الخوة النظيفة) على الفيس بوك , فهو ينشر مقاطع لصور شبه اباحية ورقص مثيرة وقصص مثيرة وشعبوية وسوقية يتفاعل معها المراهقين والشباب بصورة كبيرة جدا , وبعد دقائق يقوم بنشر الموضوعات التي يردها والتي تنال من الجماعة الشيعية وفصائل الحشد الشعبي وحلفائها .
الدونية المنتشرة اليوم عند الجماعة الشيعية في العراق , وتعبر عن روحها يوميا من خلال المواقف السياسية والتاريخية والاجتماعية بالفضائيات والفيس بوك هى تشكل (روح الشعب) – بحسب الوصف الهيغلي – فهى منتشرة انتشارا كبيرا حتى اصبحت – كما قلنا – مرادفة للوطنية والعروبية والمدنية والعلمانية . فالبعثي الشيعي الذي يريد تعويض الدونية يقوم بذلك من خلال الشعارات الوطنية , فيما الشيوعي الشيعي الذي يريد تعويض ذلك يقوم به من خلال السلوكيات العلمانية . وعندنا مثال قريب ما قام به الدكتور قاسم حسين صالح في شهر محرم هذا العام (2020) حيث نشر بالفيس بوك بعد يوم العاشر بيومين انه يستمع لاغنية ام كلثوم (هجرتك) كدليل على علمانيته الجامحة ومحاولة اثباتها امام الاخرين . والسؤل هو : هل وجدتم علمانيا سنيا يقوم بذلك ؟؟ طبعا لا !! فهو يمارس علمانيته بتلقائية وعفوية ولاحاجة له بشهادة الاخرين بها .
ان الدونية والاستلاب والضعة والخصاء اخطر من الطائفية والعنصرية على المجتمع , لانها تدمر الجماعات من الداخل وتفقدها ثقتها بنفسها . فاذا كانت الطائفية هى انقسام افقي في المجتمعات التقليدية , فان الدونية تخلخلها من الداخل وتمهد الارضية للعبودية وتقبل الاستبداد والطغيان . كما ان من يفقد الهوية في مجتمعات التقليدية التي تشكل الهويات مرتكزا دلاليا فيها للحكم والتقييم , فانه سيتعرض للانتهاك والاغتصاب , ليس بالمعنى الرمزي , وانما المعنى الواقعي , لان القوى الظلامية والديكتاتورية والطائفية لاترحم الضعفاء والمخصيين والمدجنين , ولاحاجة لعرض الاف القصص والمواقف بهذا الصدد للافراد المصابين بعقدة الدونية , وكيف ان تلك السلطات لم تقدر ذلك الشعور عندهم او تعتبره نوعا من الولاء الحقيقي , وانما اعتبرته نوعا من التقية او التملق او النفاق لها . ويذكرون بهذا الصدد ان رجلا من العشائر الجنوبية وجد شيخا من ال سعدون يحتاج الى مساعدة , فبادر الى مساعدته , وبدل ان يشكره قال له الشيخ السعدوني : (اكيد انت كنت واحد من عبيدنا) !!
طرح بعض الكتاب مقولة ان التخاذل والخنوع والدونية الموجودة عند الجماعة الشيعية في العراق قد تبلور من خلال الطقوس الحسينية والبكائيات واللطم . في الواقع يمكن الاجابة عن هذا الاشكال بالسؤال الاتي : اذا كانت الطقوس الحسينية هى من زرعت الدونية والاستلاب عند الشيعية , فلماذا نجد الخنوع والجبن عند من لايمارسها من العلمانيين والمدنيين والشيوعيين والبعثيين ؟؟ فيما ان العكس نجده عند الكثير من الاسلاميين الثوريين الذين يمارسون هذه الطقوس , وكيف انهم واجهوا الاستبداد والديكتاتورية البعثية باسوء مراحلها (1980 – 2003) وقتلوا الاف من البعثيين والطائفيين . كما نجد اثرها الواضح ايضا في تجربة الحشد الشعبي , وكيف واجه اتباع الطقوس الحسينية اشرس واخطر تنظيم ارهابي في التاريخ وهو تنظيم داعش بين عامي 2014-2020 ولقنوه درسا لن ينساه وحرروا المحافظات السنية الثلاث وقتلوا الاف منهم , فيما كلنا نعرف ان الشيوعيين العلمانيين الذين لايمارسون هذه الطقوس , ويقتدون بالرموز الثورية العالمية واليسارية مثل جيفارا وهوشي منه وكاسترو لم يقتلوا بعثيا واحدا . وهذا الكلام ليس دفاعا او مدحا للطقوس الحسينية التي اجدها من افرازات العهود البدائية والسلوكيات المتخلفة التي تقف بوجه حركة التاريخ والتنوير , ورسخت مفهوم الغيبوبة في المجتمعات الشيعية في العالم , ولكن هذه الحقيقية يجب ذكرها وعزلها عن مفهوم الدونية الرائج عندنا .
كما اراد البعض تبرءت الحكم الاستبدادي والطائفي البعثي من صناعة العقدة الدونية عند الجماعة الشيعية في العراق من خلال اتهام الاقطاع بصناعتها وبلورتها على اعتبار انه قد ساهم في انكسار الشخصية الجنوبية وافقارها . في الواقع نحن ايضا نواجه هذا الراي بالسؤال الاتي : اذا كان الاقطاع هو من ساهم بصناعة الدونية عند الجماعة الشعية في العراق , فلماذا لم يحصل ذلك في المناطق الغربية والسنية التي عانت من الاقطاع ايضا ؟؟ فعكس مايشاع فان تلك المناطق ايضا شملها النظام الاقطاعي , وتعرضت لظلم الشيوخ والمتنفذين الذين سيطروا على الاراضي الخصبة لصالحهم , مستغلين نفوذهم في الحكومة العراقية . وقد ادرج حنا بطاطو اسمائهم وعدد الدوانم التي يملكونها وهم (الياور والفرحان والخضيري والجميل وال بابان والشلال وال الجادر والخيزران والباجه جي والصابونجي وال كشمولة وال حديد) الذين كانت لهم ملكيات كبيرة في الموصل وتكريت والانبار وبغداد وديالى والكوت وكركوك والحلة . وقد اراد صدام حسين التدليس والكذب بهذا الشان عندما عزى وجود الشيوعية في جنوب العراق الى الاقطاع , وهو يريد الايحاء ان مناطقهم كانت تعيش البحبوحة والرفاهية قبل استلامهم السلطة . فيما ان الواقع غير ذلك تماما , حيث ان الفقر والجهل والتخلف كان منتشر عندهم بصورة كبيرة , حتى ان رغد صدام حسين اعترفت بهذا الحال , واكدت فضل اباها على اهل تكريت بقولها (ان الذكي بهم لايصل الى معلم) . ولكن ظهور المعادل الجديد بعد انقلاب شباط 1963 وسيطرت اهل الغربية – او ما اطلق عليها حسن العلوي تسمية (قرى التعصب) في ريف المثلث السني – قد ساهم بخلق الشخصية السنية واعتزازها بذاتها وهويتها وعشائرها ومذهبها وتفوقها على الاخرين , بل واستطاعوا فرض حتى نسقهم الاجتماعي ولهجتهم المعروفة على الاخرين كالبغادة واهل الجنوب . (انها افكار سيادتها) – كما وصفها انجلز – . فالسلطة هى من تحول الصعاليك والحثالات الى سادة وملاكين ومتكبرين . ويمكن ان اضرب مثلا بهذ الصدد في مدينتا حول تاثير السلطة وكيف انها تغير الجماعة والشخصية من نمط الى نمط اخر . فالمدينة التي يشطرها نهر الغراف الى شطرين كان يوجد فيها عشيرتين كانتا في اسفل السلم الاجتماعي عند الاهالي ونموذج للفقر والدونية والصعلكة والتخلف , حتى وصل الحال ان الكثير من العشائر لاتزوجهم او تقترب منهم , ولكن في نهاية عقد الثمانينات وخلال عقد التسعينات حصل تحول كبير في هاتين العشيرتين هو تقرب شيوخها للنظام البعثي الحاكم والتزلف له والتضامن والتحالف معه ضد المعارضين , فحصلوا نتيجة ذلك على حظوة ومكانة متميزة عند السلطة الحاكمة والمسؤولين الامنيين والحزبيين , نتج عنه تحول نوعي كبير عند افراد هاتين العشيرتين . فقد حصل عندهم ليس اعتزاز بالذات وتضخمها وتورمها فحسب , بل وصنعت لنفسها سرديات خاصة وتاريخ جديد من الاساطير والاكاذيب , واصبح الانسان منهم يمشي الخيلاء كالطاووس , واخذت الناس تهابهم خوفا وتتقرب لهم تزلفا , حتى اضحت تفتخر بالتزاوج منهم , خاصة بعد انضمام الكثير منهم للموسسات الامنية والعسكرية والحزبية الحكومية . واستمر هذا نمطهم الاجتماعي قائما حتى بعد السقوط عام 2003 بسبب اختراقهم السابق للدولة العراقية ومهارتهم الفريدة بالتملق والتزلف للنظام السياسي القائم . وعليه يمكن قياس هذا المثال على الشخصية السنية وعلاقتها بالسلطة ودورها في الاعتزاز بشخصيتها وذاتها وهويتها ومذهبها , فاذا كان للسلطة دور في اعادة تاهيل وصناعة شخصية افراد هاتين العشيرتين الشيعيتين في الجنوب واعتزازهم بذاتهم , فكيف لمن امتلك السلطة الحقيقية من اهل السنة ؟؟ وعندهم الالاف من الوزراء والمستشارين والقضاة والضباط والمدراء العامون ورؤساء الجامعات والعمداء والامن والمخابرات وغيرها .
لايمكن حصر تمظهرات الدونية عند الجماعة الشيعية في العراق , ليس تعددها فحسب , وانما لخلطها مع عقد اخرى مثل الخصاء وعقدة كيس الحاجة والاستلاب وغيرها . ولكن يمكن ادراج اهمها :
1 . الحقد على المجتمع : ان اهم تمظهرات الدونية هو الحقد على المجتمع وهويته ورموزه وتاريخه . فالانسان الدوني هو بالضرورة انسان حقود على اهله ومدينته , لانه يعتقد ان هذا المجتمع لاينسجم مع افكاره وتوجهاته النفسية والاجتماعية والايديولوجية والسياسية , ولم يعطيه حقه من الارتقاء والمكانة والتقدير .
2 . الجبن : وهى من اهم تمظهرات الانسان الدوني وعدم تجاوزه على الاب الميت من القوى الاستبدادية والطائفية والارهابية التي تقتله يوميا وتنهتك شخصيته وعرضه وتاريخه وجماعته . بل ان هناك (الدوني المتطرف) الذي يبرر افعال قوى الاستبداد والارهاب والطائفية , ويلقي تبعات اعمالها الاجرامية والاقصائية على الجماعة الشيعية , ليش شعورا بالخصاء والنقص المعروف فحسب , بل وحقدا متطرفا على المجتمع . والجبن لايكون في المسار النظري فحسب , بل وحتى في الجانب العملي , فيكفي ان تعرف مثلا ان الشيوعيين الشيعة قتل منهم البعثيون طيلة اكثر من اربعين عاما (1963-2003) مايقارب الخمسين الف وهجروهم واغتصبوا الرفيقات بالسجون , فيما هم لم يقتلوا بعثيا واحدا , وهو طبعا قمة الجبن والخنوع والاذلال .
3 . الاستلاب : الشيعي الدوني هو من يشعر بالاستلاب امام اي مفهوم وطني او علماني او مدني او عروبي , وذلك بسبب الاستهداف القومي والطائفي الطويل . فتجد عنده استلاب تلك العناوين العصرية والسياسية , ولايتصرف بعفوية وتلقائية امامها , وانما بدونية واستلاب ومزايدات هدفها رضا السيد الوهمي وكسب وده , فتجد التطرف بالشعارات الوطنية والعروبية والسلوكيات العلمانية .
4 . الطائفية التي يرفضها الشيعي الدوني والمخصي هو فقط مهاجمة السنة . واما مهاجمة الشيعة والنيل منهم وتخوينهم وتكفيرهم فهو ليس بطائفية ولايهتم بها ابدا او يرد عليها . وقد وجدنا هذه الظاهرة في منشورات الفيس بوك بقوة , فتجد الدوني الشيعي يعترض ويرد بقوة على كل من يروج للطائفية او يعريها او يحللها او ينقدها , ولكن تجد عنده سلوكا مريبا وسكوتا غريبا ومخصيا عن المنشورات التي تهاجم الشيعة او تخونهم . ومن الطبيعي ان لاتجد عند الشيعي المخصي ردا على ذلك , فهو لايخشى من الاتهام بالطائفية والانضواء تحت الهويات التقليدية من قبل العلمانيين فحسب , بل هو في الاصل حاقد على مجتمعه وناقم على هويته وتاريخه . وقد اشار الكاتب حسن العلوي هذه الظاهرة بالقول ( ان العلماني الشيعي قد يتقبل اي تهمة سوى هذه (اي الطائفية) . قد يتفاخر بخروجه عن الاسلام وبالحاده وارتكاب المعاصي . قد يفاخر بماركسيته ووجوديته ونازيته وبعثيته وشذوذه وغرامياته , ولكنه عند التهمة بالطائفية يقف مذعورا , وقد يتحول للضد لاىثبات الضد)(اي ياخذ بمهاجمة الشيعة من اجل اثبات عدم طائفيته) . ولاحاجة الى القول ان هذا السياق موجود فقط عند الشيعي الدوني والمخصي .
5 . من اهم سمات الدوني الشيعي هو رفضه المسميات المذهبية – او ذكرها والاشارة لها – مثل الشيعة والسنة وغيرها , ولايقبل طرحها او ادراجها في معرض النقد والتقييم والصراع السياسي والتاريخي , ويعتبرها تندرج ضمن خانة الصراع على المكاسب والسلطة الذي يستغله السياسيون الفاسدون لمصالحهم . ولكن الغريب والعجيب ان نفس هذا الشيعي المخصي والدوني يذكر مصطلح او مفردة الشيعة في اغلب منشوراته واراؤه وخاصة في مجال الهجوم والسخرية والنقد !!! وهذا باعتقادي من اغرب المواقف والسلوكيات التي لااعرف تفسيرها . فاذا كنت ترفض هذه المسميات وتعتبرها من الافكار الرجعية والمفاهيم المتخلفة , ولاتقبل اثارتها او ادراجها في التفسير والتحليل , فكيف تذكرها في معرض الهجوم على الشيعة ولاتقبل ذكرها في معرض الهجوم والنقد على السنة ؟؟!! واذا سلمنا ان هذا الشيعي الدوني هو من دعاة النقد الثقافي من الداخل , وضرورة ان يكون لكل جماعة او مذهب نقاده الخاصين به , حتى يفتح المسار للحداثة والتنوير بالولوج الى التابوات المحظورة فيه وتفكيكها ونقدها , فكيف نفسر قولهم الدائم انهم ليسوا شيعة ؟؟!! بل وربما البعض منهم يقول انه بالاصل ليس مسلم !! ولايعترف بهذه الهويات البدائية التي قسمت العراقيين واستغلها السياسيين !! كيف يتبرء هذا الدوني والمخصي من التشيع عند الهجوم عليه ولايدافع عنه او يرد عليه ؟؟ وكيف يتحول الى شيعي عندما يريد نقده والنيل منه ؟؟ لان الذي اعرفه – بصراحة – ان الحكم في التقييم والمعيار المعرفي يجب ان يكون واحد في جميع المواقف , فانت اما ترفض هذه المسميات بالمطلق , ولاتذكرها ابدا في كلامك او في اراءك , او تذكر الاثنين كامر واقع في العراق , ولكن ان لاتذكر هذه المسميات من اجل الخشية من نقد اهل السنة , ومن اجل ان يقال عنك علماني اصيل ومدني متسامي , وتذكر فقط الشيعة في مسار الهجوم والسخرية حتى يقال عنك موضوعي ومحايد , فهذا يسمى بعرفنا الاجتماعي والثقافي والمعرفي والنفسي بالدونية والخصاء . هم يدعون انهم تجاوزوا الطائفية , وهم يتنفسونها بكل دقيقة او ثانية , حقدا على الجماعة الشيعية التي لايرونها بطرف المحايد فحسب , بل ويرونها بعين العدو القومي والبعثي والطائفي .
5 . الهجوم والنيل على كل شخصية شجاعة وغير دونية او مخصية , والعكس المدح والتقدير للشخصيات الدونية والجبانة . وهذا الهجوم ليس دافعه هو التملق للاب الميت واتباعه ومجاملة السديم الثقافي والتماهي مع القطيع العلماني والمدني فحسب , بل وانما دافعه هو نفسي وشخصي . فالدوني يحقد حتما على الشخصيات المتميزة والشجاعة التي واجهت الاستبداد والطائفية والقومية والارهابية , فالمخصي يحقد على الفحل في قصور السلاطين سابقا , وهو امر طبيعي ولاحاجة للتوسع فيه .
6 . السقوط الاخلاقي : من افرازات الدونية عند الجماعة الشيعية في العراق هو السقوط الاخلاقي عند الافراد المصابين بها ومن ثم تغلغلها في النسيج الاجتماعي . فالدونية هى ام الرذائل , والانسان المصاب بها لاتخضع افكاره وسلوكياته للمعايير الاخلاقية الايجابية في المجتمع – ان لم يكن يحاربها – فهو يريده مجتمعا منحلا وساقطا حتى لايمكن لاحد ان يقف بوجه افكاره واراءه اولا ومن السهولة تزعمه والسيطره عليه ثانيا .
وقد يسال احدهم بالقول كيف تحاسب الدوني وتحاكمه وفق مبررات وسلوكيات وتصرفات عقلانية وموضوعية وانت قلت سابقا ان الدونيىة بنية لاشعورية غير عقلانية نريد سحبها الى الشعور والوعي من اجل التحرر منها ؟؟
في الواقع ان هذا الاعتراض هو وجيه جدا , ولااحد ينكر ان المفردات والعقد الرائجة عند الجماعة الشيعية في العراق من قبيل الدونية والاستلاب والخصاء والنقص هى عقد لاشعورية – او واعية – لايعرف الانسان المصاب بها تاثيرها المباشر وغير المباشر عليه , وعلى اراءه وتوجهاته وافكاره التي يعتقدها انها افكاره الشخصية التي توصل لها بارادته واختياره , وضمن مبررات عقلانية وموضوعية . ولكن هذا الكلام ينطبق بصورة كبيرة على العامة من الناس والسوقة الذين تحركهم البنى اللاواعية والغرائز والعقل الجمعي والاساطير والخرافات والتهويلات وغيرها , وربما هذا المسار قد يشمل ايضا انصاف المثقفين وبعض المتعلمين من الذين يتاثرون بهذه البنى وتلك المسارات غير العقلانية , ولكن الانتلجنسيا الشيعية وفئة المثقفين حتما يعلمون بتاثير هذه العقدة والبنية اللاشعورية عليهم , سواء اكان من خلال القراءة والاطلاع عن هذا الموضوعات اولا , او المقارنة مع الافراد الاخرين غير المصابين بها ثانيا , ولكن عنادهم ونرجسيتهم وشخصيتهم وذاتهم المتعالية وكبريائهم الفارغة تمنعهم من الاعتراف بهذه العقدة , او الانسياق نحو تفكيكها وتحليلها وتعريتها ونقدها , لذا فنحن نخاطبهم وفق السياقات اللاواعية من جانب , والمسارات الواعية من جانب اخر , ونامل ان كلا هذين الطريقين او المنهجين يعمل على ايصال هذه الفكرة , او تاثير هذه العقدة عليهم من اجل مراجعة انفسهم تدريجيا ومرحليا حتى يصل الامر الى انهائها كليا وتلاشيها من النظام المعرفي والثقافي عند شخصياتهم المازومة بها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *