كلمة امة في القرآن الكريم (كان الناس أمة واحدة) (ح 61)‎

الكاتب : فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله عز وعلا “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” ﴿البقرة 213﴾ قوله تعالى: “فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” “إلخ”، عبر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود وسكوت، وهو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل، على أن البعث وإنزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتنبيههم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم، وإنبائهم أنهم مخلوقون لربهم، وهو الله الذي لا إله إلا هو، وأنهم سالكون كادحون إلى الله مبعوثون ليوم عظيم، واقفون في منزل من منازل السير، لا حقيقة له إلا اللعب والغرور، فيجب أن يراعوا ذلك في هذه الحياة وأفعالها، وأن يجعلوا نصب أعينهم أنهم من أين، وفي أين، وإلى أين، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه: من استقر عنده النبأ دون الرسول، ولذلك عبر بالنبيين، وفي إسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم الوحي وتبليغهم الرسالة إلى الناس وسيجيء زيادة توضيح لهذا في آخر البيان، وأما التبشير والإنذار أي الوعد برحمة الله من رضوانه والجنة لمن آمن واتقى، والوعيد بعذاب الله سبحانه من سخطه والنار لمن كذب وعصى فهما أمس مراتب الدعوة بحال الإنسان المتوسط الحال، وإن كان بعض الصالحين من عباده وأوليائه لا تتعلق نفوسهم بغير ربهم من ثواب أو عقاب. قوله تعالى: “وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه”، الكتاب فعال بمعنى المكتوب، والكتاب بحسب المتعارف من إطلاقه وإن استلزم كتابه بالقلم لكن لكون العهود والفرامين المفترضة إنما يبرم بالكتابة غالبا شاع إطلاقه على كل حكم مفروض واجب الاتباع أوكل بيان بل كل معنى لا يقبل النقض في إبرامه، وقد كثر استعماله بهذا المعنى في القرآن، وبهذا المعنى سمي القرآن كتابا وهو كلام إلهي، قال تعالى: “كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ” (ص 29)، وقال تعالى: “إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ” (النساء 103)، وفي قوله تعالى “فيما اختلفوا فيه”، دلالة على أن المعنى: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله “إلخ”، كما مر. واللام في الكتاب إما للجنس وإما للعهد الذهني والمراد به كتاب نوح عليه السلام لقوله تعالى: “شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ” (الشورى 13)، فإن الآية في مقام الامتنان وتبين أن الشريعة النازلة على هذه الأمة جامعة لمتفرقات جميع الشرائع السابقة النازلة على الأنبياء السالفين مع ما يختص بوحيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالشريعة مختصة بهؤلاء الأنبياء العظام: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. ولما كان قوله تعالى: “وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه” الآية يدل على أن الشرع إنما كان بالكتاب دلت الآيتان بالانضمام أولا: على أن لنوح عليه السلام كتابا متضمنا لشريعة، وأنه المراد بقوله تعالى: “وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه”، إما وحده أو مع غيره من الكتب بناء على كون اللام للعهد أو الجنس. وثانيا: أن كتاب نوح أول كتاب سماوي متضمن للشريعة، إذ لو كان قبله كتاب لكان قبله شريعة حاكمة و لذكرها الله تعالى في قوله: “شرع لكم” الآية. وثالثا: أن هذا العهد الذي يشير تعالى إليه بقوله: “كان الناس أمة واحدة ” الآية كان قبل بعثة نوح عليه السلام وقد حكم فيه كتابه عليه السلام. قوله تعالى: “وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم”، قد مر أن المراد به الاختلاف الواقع في نفس الدين من حملته، وحيث كان الدين من الفطرة كما يدل عليه قوله تعالى: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا” (الروم 30)، نسب الله سبحانه الاختلاف الواقع فيه إلى البغي. 

وفي قوله تعالى: “إلا الذين أوتوه”، دلالة على أن المراد بالجملة هو الإشارة إلى الأصل في ظهور الاختلاف الديني في الكتاب لا أن كل من انحرف عن الصراط المستقيم أو تدين بغير الدين يكون باغيا وإن كان ضالا عن الصراط السوي، فإن الله سبحانه لا يعذر الباغي، وقد عذر من اشتبه عليه الأمر ولم يجد حيلة ولم يهتد سبيلا، قال تعالى: ” إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (الشورى 42)، وقال تعالى: “وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (التوبة: 102) إلى أن قال: “وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (التوبة: 106)، وقال تعالى: “إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ” (النساء 98-99). على أن الفطرة لا تنافي الغفلة والشبهة، ولكن تنافي التعمد والبغي، ولذلك خص البغي بالعلماء ومن استبانت له الآيات الإلهية، قال تعالى: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ” (البقرة: 39)، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قيد الكفر في جميعها بتكذيب آيات الله ثم أوقع عليه الوعيد، وبالجملة فالمراد بالآية أن هذا الاختلاف ينتهي إلى بغي حملة الكتاب من بعد علم.

قوله تعالى: “فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق” بيان لما اختلف فيه وهو الحق الذي كان الكتاب نزل بمصاحبته، كما دل عليه قوله تعالى: “وأنزل معهم الكتاب بالحق”، وعند ذلك عنت الهداية الإلهية بشأن الاختلافين معا: الاختلاف في شأن الحياة، والاختلاف في الحق والمعارف الإلهية الذي كان عامله الأصلي بغي حملة الكتاب، وفي تقييد الهداية بقوله تعالى: “بإذنه”  دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم، وإيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولوشاء لم يأذن ولم يهد، وعلى هذا فقوله تعالى: “والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم” بمنزلة التعليل لقوله بإذنه، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد، بل يهدي من يشاء، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. وقد تبين من الآية أولا: حد الدين ومعرفه، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج. وثانيا: أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشئ عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا. وثالثا: أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده، وبالعكس إذا كان دين من الأديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج، قال تعالى: “مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ” (الأحزاب 40)، وقال تعالى: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ” (النحل 89)، وقال تعالى: “وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ” (فصلت 41-42). ورابعا: أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها. وخامسا: السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب، وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية، وهو أن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف، وكيف يدفع شيء ما يجذبه إليه نفسه، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والإيجاد فما هو مقدمته كذلك، وقد قال تعالى: “الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” (طه 50)، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شيء إلى ما يتم به خلقه، ومن تمام خلقه الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة، وقد قال تعالى أيضا: “كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا” (الإسراء 20)، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء: يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده، ويعطيه ما يستحقه، وأن عطاءه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالى. ومن المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية؟. وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته، فالإصلاح لوكان يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة، وهي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي، ولذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية.

ويستطرد العلامة الطباطبائي في تفسير الآية البقرة 213 قائلا: النبوة حالة إلهية وإن شئت قل غيبية نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الإنسان، وهذا الإدراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي، والحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة. ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدني من جهة وإلى الاختلاف من جهة أخرى، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدأ حجة على وجود النبوة، وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة. تقريره: أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والإيجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين: إما بفطرته وإما بأمر وراءه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة، وهو التفهيم الإلهي غير الطبيعي المسمى بالنبوة والوحي، وهذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية، بينتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ. فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية، ولا أن فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد، وناهيك في ذلك: ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانية، والحروب المهلكة للحرث والنسل، والمقاتل المبيدة للملايين بعد الملايين من الناس، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم، فما ظنك بالقرون الخالية، أعصار الجهل والظلمة؟. وأما إن الصنع والإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث، وأما إن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدقه البحث والتجربة معا: أما البحث: فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه، وأما التجربة: فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الإسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك، وسنستوفي البحث عنه إن شاء الله في محل آخر أليق به. وسادسا: أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنساني، قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه. وهذا من ملاحم القرآن التي صدقها جريان تاريخ الإنسان منذ نزول القرآن إلى يومنا هذا في زمان يقارب أربعة عشر قرنا تقدم فيها النوع في الجهات الطبيعي من اجتماعه تقدما باهرا، وقطع بعدا شاسعا غير أنه وقف من جهة معارفه الحقيقية، وأخلاقه الفاضلة موقفه الذي كان عليه، ولم يتقدم حتى قدما واحدا، أو رجع أقداما خلفه القهقرى، فلم يتكامل في مجموع كماله من حيث المجموع أعني الكمال الروحي والجسمي معا. وقد اشتبه الأمر على من يقول: إن جعل القوانين العامة لما كان لصلاح حال البشر وإصلاح شأنه وجب أن تتبدل بتبدل الاجتماعيات في نفسها وارتقائها وصعودها مدارج الكمال، ولا شك أن النسبة بيننا وبين عصر نزول القرآن، وتشريع قوانين الإسلام أعظم بكثير من النسبة بين ذلك العصر وعصر بعثة عيسى عليه السلام وموسى عليه السلام فكان تفاوت النسبة بين هذا العصر وعصر النبي موجبا لنسخ شرائع الإسلام ووضع قوانين أخر قابلة الانطباق على مقتضيات العصر الحاضر. والجواب عنه: أن الدين كما مر لم يعتبر في تشريعه مجرد الكمال المادي الطبيعي للإنسان، بل اعتبر حقيقة الوجود الإنساني، وبنى أساسه على الكمال الروحي والجسمي معا، وابتغى السعادة المادية والمعنوية جميعا، ولازم ذلك أن يعتبر فيه حال الفرد الاجتماعي المتكامل بالتكامل الديني دون الفرد الاجتماعي المتكامل بالصنعة والسياسة، وقد اختلط الأمر على هؤلاء الباحثين فإنهم لولوعهم في الأبحاث الاجتماعية المادية والمادة متحولة متكاملة كالاجتماع المبني عليها حسبوا أن الاجتماع الذي اعتبره الدين نظير الاجتماع الذي اعتبروه اجتماع مادي جسماني، فحكموا عليه بالتغير والنسخ حسب تحول الاجتماع المادي، وقد عرفت أن الدين لا يبني تشريعه على أساس الجسم فقط، بل الجسم والروح جميعا، وعلى هذا يجب أن يفرض فرد ديني أو اجتماع ديني جامع للتربية الدينية والحياة المادية التي سمحت به دنيا اليوم ثم لينظر هل يوجد عنده شيء من النقص المفتقر إلى التتميم، والوهن المحتاج إلى التقوية؟. وسابعا: أن الأنبياء عليهم السلام معصومون  عن الخطأ.

تكملة للحلقة السابقة عن مركز تفسير للدراسات القرآنية للكاتب رضا زيدان: هل تطورت كلمة (أُمَّة) في القرآن الكريم؟ نقد أطروحة المستشرق مونتجمري وات حول التطور الدلالي لكلمة (أُمَّة) في القرآن الكريم: النظائر الصوتية والنظائر الدلالية لكلمة (أمّة): إنّ عملي هو تحديد الجذر الساميّ المشترك لكلمة أمّة، والربط بين معانيه التي تبدو مبعثرة، وإثبات أنّ زعم اشتقاق العربية من العبرية تحديدًا غير صحيح. لنبدأ بكلمة أمّة אמה في العبرية، لأن العبرية هي المرشّح الأشهر للاستعارة العربية لكلمة أمّة وفق جمعٍ من المستشرقين بعد آرثر جيفري. نجد أنّ معنى الكلمة هو مشتقّ من إ م م אמם، وهو جذر لا يأتي كفعلٍ في العهد القديم، وإنما أتى كاسمٍ، فأتى بمعنى الأُمّ البيولوجية mother، كما في سفر التكوين (20: 12): (وبالحقيقة أيضًا هي أختي ابنة أبي، غير أنها ليست ابنة أمي אִמִּ֑י، فصارت لي زوجة)، أو الأُم غير البيولوجية كما في: (ودَعَا آدمُ اسم امرأته (حواء) لأنها أُمّ אֵ֥ם كلّ حيّ) (التكوين: 3: 20)، بجانب المعاني التي حدّدها جيزينيوس في معجمه (وبعضها له علاقة بالأُم) وهي، الأول: وحدة قياس للطول، ذراع (cubit)، فمثلًا في سفر الخروج (25: 10): (فيصنعون تابوتًا من خشب السنط، طوله ذراعان ونصف וְאַמָּ֤ה، وعرضه ذراع ونصف، وارتفاعه ذراع ونصف). الثاني: بمعنى مدينة أو عاصمة metropolis، ففي سفر صموئيل الثاني (8: 1): (وبعد ذلك ضرب داود الفلسطينيين وذلّلهم، وأخذ داود (زمام القصبة הָאַמָּ֖ה) من يد الفلسطينيين). الثالث: بمعنى أساس أو أصل foundation، ففي سفر إشعيا (6: 4): (فاهتزت أساسات אַמּ֣וֹת العتب من صوت الصارخ، وامتلأ البيت دخانًا). الرابع: بمعنى تل hill. والخامس: بمعنى الناس people، لكن الاستخدام بهذا المعنى الأخير نادر جدًّا في العهد القديم (3 مرات فقط) وتأتي الكلمة بصيغة الجمع فقط umot، ومن هذه المواضع ما جاء في سفر التكوين (25: 17): (وهذه سنو حياة إسماعيل: مائة وسبع وثلاثون سنة، وأسلم روحه ومات وانضم إلى قومهלְאֻמֹּתָֽם)، وربط جيزينيوس في معجمه بين المعنى الثالث وكلمة أُمّهَات وأُمّات في العربية، وربط المعنى الخامس بكلمة أمّة في العربية. من الواضح أن كلمة أمة في العبرية تحمل أيضًا دلالات تبدو متباعدة كما في العربية، لذلك حتى في المعاجم العبرية هناك تشكيكٌ ما في أصل الجذر المقترَح أعلاه، فرغم أن إرنست كلين في معجمه يجعل الكلمة العبرية أمّة مشتقة من الأساس אמם، إلا أنه يعتبر هذا الأساس نفسه (من أصلٍ محلّ شكّ)، ولم أجد في المعاجم العبرية مَن حاول ربط هذه المعاني المختلفة، فمعنى الأساس أو الأصل يمكن بسهولة إلحاقه بمعنى الأُمّ، ويمكن بشكلٍ ما من التخمين الربط بين الأُمّ والجماعة، لكن ماذا عن معنى وحدة قياس الطول ومعنى الارتفاع؟! لكن أول ما نصل إليه من مجرد العرض للكلمة العبرية هو أنها نادرة أيضًا في عبرية العهد القديم، فلا يمكن أن يقال أنّه بسبب ندرة الكلمة في الشعر العربي القديم يُستنتج أن الكلمة مستمَدة من العبرية، لأن الكلمة نادرة الاستخدام أيضًا في العبرية القديمة. السؤال الآن: هل هذا يعني أن كلمة الأمّة أجنبية عن العربية والعبرية؟ إنّ مشكلة البحث الاستشراقي لكلمة أمّة في العربية أو في العبرية هي اقتصاره على فهم جذر الكلمة بدون بحث نظائره الصوتية ونظائره الدلالية أو عدم الاهتمام الكافي بذلك، أمّا النظائر الصوتية فهي الجذور المتشابهة صوتيًّا مع الجذر (أ م م)، أو ما يسميه ميشيل إسحاق (اشتقاق الإخوة)، فإخوة (أ م م) كثيرة، مثل (ع م م) و(هـ م م)، وغيرها من الحروف الحلقية، وسأقتصر على مادة (ع م) ومادة (هـ م)، لأنها كافية في توضيح معنى كلمة أمّة في العبرية والعربية. وأمّا النظائر الدلالية فهي الكلمات العربية المتشابهة دلاليًّا مع كلمة أمّة، مثل (سُنّة)، لأن بعض هذه النظائر من شأنه أن يبيّن روابط المعاني التي تبدو مبعثرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *