
نزار حيدر
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ}.
ليسَ من العَيبِ أَن يضعفَ الإِنسانُ الفَرد والإِنسان المُجتمع، إِلَّا أَنَّ العيبَ كُلَّ العيبِ إِذا تجاهلَ ضعفهُ ولم يسعَ لمُعالجتهِ من أَجلِ النُّهوض من جَديدٍ.
والضَّعفُ على مُستويَينِ؛ ضعفٌ ماديٌّ كالفَقرِ والمَرضِ وخسارةِ الأَسبابِ الماديَّةِ التي تُساعدهُ على التحدِّي وما إِلى ذلكَ.
والضَّعفُ المعنويُّ كاليأسِ والتردُّدِ والشكِّ وتمزُّقِ المُجتمعِ وانعدامِ الثِّقةِ والتَّكافلِ الإِجتماعي وغَياب الخُطط والغرُور والغَفلة وغيرِها.
وإِذا كانَ الله تعالى برَحمتهِ يُخفِّف علينا بسببِ ضَعفٍ ما سواءً على مُستوى الفرد أَو على مُستوى الجماعة، فلماذا لا نُخفِّف نحنُ على أَنفسِنا؟! وأَميرُ المُؤمنينَ (ع) يقولُ {أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ}.
طبعاً ليسَ المقصودُ هُنا بالتَّخفيفِ عن النَّفسِ الإِستسلامُ للضَّعفِ، أَبداً، إِنَّما المقصودُ بهِ؛
*الإِعترافُ بهِ وعدمِ المُكابرةِ أَو تجاهُلهِ وعدمِ الإِعتناءِ بهِ
*الإِجتهادُ لوضعِ حدٍّ لهُ لخلقِ أَسبابِ القوَّةِ للنُّهوضِ مرَّةً أُخرى.
وعلى الرَّغمِ من أَنَّ [الإِعتراف بالضَّعف] وأَحيانا بـ [الهزيمةِ] ثقافةٌ قُرآنيَّةٌ ورساليَّةٌ فضلاً عن كَونِها إِنسانيَّةٌ تتكرَّرُ معانيها وصورِها كثيراً في القرآن الكريم وفي سيرةِ رسولِ الله (ص) ومدرسةِ أَهلِ البيت (ع) إِلَّا أَنَّنا مازِلنا أَجبنُ من أَن نتسلَّحَ بها فنتخلَّقُ في أَحيانٍ كثيرةٍ بأَخلاقِ الجاهليَّةِ التي من مظاهرِها قاعِدة [النَّارُ ولا العارُ] فالإِعترافُ بالفشلِ أَو الهزيمةِ عارٌ لا ننطِقُ بهِ أَبداً فتأخذَنا العزَّةُ بالإِثمِ فنرفُضُ أَن نعترِفَ بالضَّعفِ ونخجلُ أَن نتحدَّثَ عن هزيمةٍ ولا نقبلُ من أَحدٍ أَن يذكِّرنا بها، فكُلُّ ما نمرُّ بهِ من فشلٍ وانتكاساتٍ وتراجُعٍ وهزائِمَ تمثِّلُ في قواميسِنا الجاهليَّةِ المُتخلِّفةِ نصراً تاريخيّاً ساحقاً حتَّى انقلبَت عندنا المفاهيم ومعاني المُصطلحاتِ! وكأَنَّ الكلامَ بهذهِ الطَّريقة يُغيِّر من حقيقةِ الأَشياءِ ويقلِب صورةَ الواقعِ.
والعكسُ هوَ الصَّحيح فعدمُ الإِعترافِ بالضَّعفِ والإِسترسالِ معهُ والخَوفُ من الوقُوفِ عندَ أَسبابهِ من أَجلِ إِرضاءِ نشوةٍ أَو حُلُمٍ في أَنفسِنا أَو لمُمارسةِ خِداع الذَّاتِ والسَّعي لقلبِ جَوهرِ الكلماتِ والمُصطلحاتِ يُكرِّسُ الضَّعف ولا يُساعِدُ في التَّغييرِ والإِصلاحِ أَبداً.
إِنَّ من المُهمِّ جدّاً أَن نحذرَ دائماً الذينَ يسعَونَ لخداعِنا بتصويرِ الضَّعفَ قوَّةٌ والهزيمةَ نصرٌ والذَّنبَ عملٌ صالحٌ والجهلَ علمٌ وما إِلى ذلكَ، لأَنَّهم يُضلِّلوننا بهذا النَّوعِ من الخطاباتِ فيشلُّونَ فينا القُدرة على التَّفكيرِ السَّليمِ الذي يقودُ إِلى إِصلاح الواقِع المُر.
وهذا هوَ عملُ الشَّيطان، إِنَّهُم شياطينُ الإِنسِ {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} و {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ}.
لو نقرأ التَّاريخ بتمعُّنٍ فسنجِدَ أَنَّ أَحدَ أَهم أَسباب نهُوضَ الأُممِ بعدَ فشلٍ وقيامَها بعدَ هزيمةٍ هوَ الإِعترافُ بواقعِها الجديد مهما كانَ مُرّاً ثُمَّ السَّعي لطرحِ الأَسئلةِ الصَّعبةِ التي أَنتجت الفشَل والهزِيمة وتالياً الإِصغاء لكُلِّ الأَجوبةِ مهما كانَت قاسِيةً للوقوفِ على الأَسبابِ الحقيقيَّةِ بعيداً عن التملُّقِ والطَّبطبةِ على الظَّهرِ وجَبرِ الخواطرِ والمُجاملاتِ وتوزيعِ التُّهَمِ والتَّخوينِ.
مازلنا نظنُّ أَنَّ الذي يتسبَّب بالفشلِ والهزيمةِ، بغضِّ النَّظرِ عن الأَسبابِ، أَكثرُ حِرصاً ووطنيَّةً من الآخرين، فلذلكَ يبقى صَوتهُ أَعلى من غيرهِ حتى بعدَ تأَكُّدِ الجميع من الفشلِ!.
في القرآن الكريم تُحدِّثنا آياتهِ عن [هزائمَ] مُني بها المسلمُونَ ثمَّ نهضُوا بعدَ أَن حدَّدوا أَسباب الهزيمَة وعوامِل النُّهوض كما في قولهِ تعالى {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}.
فالآيةُ الكريمةُ تشخِّص مرَضَ [العُجب] كسببٍ للهزيمةِ، وهو واحدٌ من أَخطرِ وأَعقدِ أَسبابِ الهزِيمةِ والفشَل دائماً سواءً على مُستوى الإِنسان الفرد أَو الإِنسان المُجتمع، فعلى المُستوى الأَوَّل يقولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) يوصي ولدهُ الإِمام الحسَن المُجتبى (ع) {واعْلَمْ أَنَّ الإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وآفَةُ الأَلْبَابِ} وقولهُ (ع) في عهدهِ للأَشتر لمَّا ولَّاهُ مصر {وإِيَّاكَ والإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وحُبَّ الإِطْرَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِه لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ} وقوله (ع) {الإِعْجَابُ يَمْنَعُ الِازْدِيَادَ} و {عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِه أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ}.
أَمَّا على مُستوى الجماعة فالآية الكريمة أَوفت بالتَّنويهِ والتَّنبيهِ.
وفي السِّيرةِ العلويَّةِ كذلكَ الكثير من صُور [الهزائم] التي مُني بها أَصحابُ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) وفي كُلِّ واحدةٍ منها نرى أَنَّهُ (ع) يحرص أَشدَّ الحِرص على تحديدِ الأَسبابِ، أَسباب الفشَل والهزِيمة إِلى جانبِ حرصهِ لشرحِ عواملِ النُّهوضِ والنَّصرِ.
فمِن خُطبةٍ له (ع) {أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ وإِنِّي واللَّه لأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وبِأَدَائِهِمُ الأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وخِيَانَتِكُمْ وبِصَلَاحِهِمْ فِي بِلَادِهِمْ وفَسَادِكُمْ، فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَاقَتِه}.
فأَسبابٌ مثل التمرُّد والتفرُّق والخِيانة والفَساد، لا تُنتِجُ نصراً أَبداً حتى إِذا كانتِ الجماعةُ على حقٍّ، ففي معركةِ أُحُدٍ التي خاضها المُسلمُونَ ضدَّ المُشركينَ كانَ الغَيبُ معهُم [الله تعالى] وكانَ رسُولُ الله (ص) معهُم وكانت الإِمامةُ حاضِرةً [علي بن أَبي طالبٍ (ع)] إِلَّا أَنَّ النَّصرَ لم يُحالِفهُم للأَسبابِ التي نعرفها.
كما أَنَّ الإِعجاب بالكَثرةِ في العدَدِ والقلَّة في ساعةِ الجدِّ، سببٌ آخر للهزيمةِ.
يقولُ (ع) {كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ والثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ! كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ، كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَه وانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا والضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا.
الذَّلِيلُ واللَّه مَنْ نَصَرْتُمُوه! ومَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ، إِنَّكُمْ (واللَّه) لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ وإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ ويُقِيمُ أَوَدَكُمْ ولَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي.
أَضْرَعَ اللَّه خُدُودَكُمْ وأَتْعَسَ جُدُودَكُمْ! لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ ولَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ!}.
تعالُوا، إِذن، نتحلَّى بثقافةِ الإِعترافِ بالهزيمةِ والفشَلِ وعلى المُستويَينِ، مُستوى الفرد ومُستوى الجماعة، لنتعلَّمَ كيفَ ننهض من جديدٍ فالمِشوارُ أَمامنا طويلٌ وأَنَّ إِنكارَ الحقائقِ والواقعِ لا يغيِّرُ من الأَمرِ شيئاً أَبداً، فبدلاً من أَن نبذِل جهودَنا الجبَّارة لتبريرِ الفشلِ وفلسفتهِ دعُونا نبذل بعضَ هذهِ الجهُود لتشخيصِ أَسباب الفشَل وتحديدِ عواملِ النُّهوضِ، وإِلَّا فالمُستقبلُ مُظلِمٌ!.
٢٠٢٥/٣/٢