
نزار حيدر
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.
الحاكِمُ المُصمِّمُ على صيانةِ حُرمةِ الحقُوقِ والواجِباتِ يبدأُ عهدهُ بشرحِ وتحديدِ حقُوقِ الرَّعيَّةِ وواجِباتهِ، ومن ثمَّ يشرحُ ويُحدِّدُ حقوقهُ وواجباتُ الرعيَّة، وهذا ما فعلهُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع).
ففي أَوَّلِ خطابٍ بعدَ بيعتهِ للخلافةِ قال {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً ولَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ؛ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ وتَوْفِيرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ وتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا وتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا، وأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ والنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ والْمَغِيبِ والإِجَابَةُ حِينَ أَدْعُوكُمْ والطَّاعَةُ حِينَ آمُرُكُمْ}.
رافضاً بالمُطلقِ أَن يستفرِدَ الحاكم بالحقُوقِ دونَ الرَّعيَّةِ، قائِلاً {أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّه سُبْحَانَه لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ ولَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ وأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ لَا يَجْرِي لأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْه ولَا يَجْرِي عَلَيْه إِلَّا جَرَى لَه، ولَوْ كَانَ لأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَه ولَا يَجْرِيَ عَلَيْه لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّه سُبْحَانَه دُونَ خَلْقِه لِقُدْرَتِه عَلَى عِبَادِه ولِعَدْلِه فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْه صُرُوفُ قَضَائِه ولَكِنَّه سُبْحَانَه جَعَلَ حَقَّه عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوه وجَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْه مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ تَفَضُّلًا مِنْه وتَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُه}.
أَمَّا الحاكِم المُصمِّم على سحقِ الحقُوقِ والحدُودِ فإِنَّ أَدواتهُ في الحُكمِ {قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أَي التَّخديرِ بالعصا والجزرةِ، وهوَ الأَمرُ الذي نراهُ اليَوم في مُجتمعِنا إِذ سحرَت السُّلطة أَعيُنَ المُجتمعِ بثُلاثيَّةٍ هي الأَخطرِ من أَيِّ شيءٍ آخر، أَلا وهي [المطاعِم والمولات والموبايلات] فتمَّ تخدير النَّاس لدرجةِ السُّكرِ وضَياعِ العقلِ والشُّعُورِ بالمسؤُوليَّةِ، حتَّى كأَنَّهُم مصداقُ الآية المُباركة عندما تُحدِّثهُم عن الحقُوقِ والحدُودِ {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}.
لقد حوَّلت الثُّلاثيَّة المُشار إِليها آنفاً المُجتمع إِلى مُستهلكٍ بدرجةٍ مُرعِبةٍ ومُخيفةٍ، وحوَّلتهُ إِلى مُجتمعٍ تائهٍ لا يعي شيئاً.
وهذا هو الفرقُ بينَ الحاكمِ العادلِ والآخر الظَّالمِ، فبينما يكونُ الأَوَّل واضِحٌ مع رعيَّتهِ ترى الثَّاني غامِضٌ في كُلِّ شيءٍ، وهوَ بالغُموضِ يتسلَّط لأَنَّ الغُموضَ يترُك المُجتمع حَيران لا يعرِف ما الذي يُريدهُ وما الذي يجبُ عليهِ فعلهُ، ولذلك نلحظ أَنَّ المُشرِّع حرصَ على أَن تكُونَ الأُمور واضِحةً أَمامَ خلقهِ لدرجةِ البيِّنةِ، كما في قولهِ تعالى {وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وعندما يكونُ المُجتمعُ مصداقَ قَولهِ تعالى {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ} بفعلِ الثُّلاثيَّةِ فإِنَّ التصدِّي لواجبِ الأَمرِ والنَّهي على مُستوى الشَّأن العام هوَ من أَكثرِ الأَنواع التي يتعرَّض بسببِها المرءُ لهجماتِ الهمجِ الرُّعاعِ والذُّبابِ الأَليكتروني الذي تحرُّضهُ السُّلطة الظَّالمة لتشويهِ سُمعةِ المُتصدِّي وإِسقاطهِ في المُجتمعِ للتخلُّصِ من خطرهِ عندما تجنِّد الجيُوش الأَليكترونيَّة لشنِّ الهجماتِ ضدَّهُ حتَّى من دونِ أَن يفهمُوا ما الذي يفعلُونهُ أَو يريدُونهُ وفي أَحيانٍ كثيرةٍ من دونِ أَن يعرفُونَ هويَّة المُستهدفِ بحملاتهِم التَّسقيطيَّةِ.
يصفُ أْميرُ المُومنِينَ (ع) أَتباع الطَّاغية الطَّليق الذي حرَّم رسولُ الله (ص) عليهِم الخِلافة مُعاوية بن أَبي سُفيان {أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ} فتركهُم يخُوضونَ حربهُم في ظلامٍ دامسٍ وجهلٍ مُركَّبٍ.
لذلكَ قرنَ المُشرِّع هذا النَّوع من الأَمرِ والنَّهي على وجهِ التَّحديدِ بالصَّبرِ ثمَّ بالعزمِ الذي يعني الجدَّ واللُّزوم [عزم؛ قرَّرهُ، أَرادَ فعلهُ وعقدَ عليهِ نيَّتهُ].
يصفُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) الأَمرَ بالمعروفِ والنَّهي عن المُنكرِ بتفصيلٍ رائعٍ يبيِّنُ فيهِ أَهميَّتهُ بالنِّسبةِ لبقيَّةِ الأَعمالِ بقولهِ {فَمِنْهُمُ الْمُنْكِرُ لِلْمُنْكَرِ بِيَدِه ولِسَانِه وقَلْبِه فَذَلِكَ الْمُسْتَكْمِلُ لِخِصَالِ الْخَيْرِ ومِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِلِسَانِه وقَلْبِه والتَّارِكُ بِيَدِه فَذَلِكَ مُتَمَسِّكٌ بِخَصْلَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ ومُضَيِّعٌ خَصْلَةً ومِنْهُمُ الْمُنْكِرُ بِقَلْبِه والتَّارِكُ بِيَدِه ولِسَانِه فَذَلِكَ الَّذِي ضَيَّعَ أَشْرَفَ الْخَصْلَتَيْنِ مِنَ الثَّلَاثِ وتَمَسَّكَ بِوَاحِدَةٍ ومِنْهُمْ تَارِكٌ لإِنْكَارِ الْمُنْكَرِ بِلِسَانِه وقَلْبِه ويَدِه فَذَلِكَ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ ومَا أَعْمَالُ الْبِرِّ كُلُّهَا والْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّه عِنْدَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِلَّا كَنَفْثَةٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ وأَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ}.
ويتبيَّنُ من كلامهِ (ع) أَنَّ المُجتمع الذي يتحمَّل مسؤُوليَّة الأَمر والنَّهي قد لا يَحتاج إِلى المزيدِ من الجهادِ والدِّماءِ [آخِرُ الكيِّ] والذي يضطرُّ إِليهِ عندما يتراكم ويتغوَّل ويتضخَّم الظُّلم والفَساد فيتحوَّل إِلى عقبةٍ كاداءٍ تقفُ بوجهِ العدالةِ خاصَّةً الإِجتماعيَّة، أَمَّا الأَمرُ والنَّهي المُستمر فيُصحِّح الأَخطاء والإِنحرافات في بداياتِ مشوارِها وهيَ بعدُ صغيرةٌ قابِلةٌ للإِعتدالِ من دونِ أَن تَكسرَ القِيم فلا تدعهُ تكبُر وتتعقَّد فتتحوَّل إِلى عُقدةٍ وغُدَّةٍ مُتضخِّمةٍ لا يُمكِنُ إِزالتها إِلَّا بعمليَّةٍ قيصريَّةٍ مُعقَّدةٍ.
في مُجتمعِنا على وجهِ التَّحديد الذي يعيشُ ظواهر العبوديَّة للزَّعيم وتنتشِرُ فيهِ ثقافةُ تأليهِ المسؤُول، فإِنَّ المُعارض المُصلح المُتصدِّي لفضحِ فسادِ السُّلطةِ وفشلِها وظلمِها وتجاوزِها على حقُوقِ النَّاسِ يتعرَّض للكثيرِ من الضُّغوطِ التي تبدأ بالتَّسقيطِ واغتيالِ الشَّخصيَّةِ [سياسيّاً وإِعلاميّاً] بالطَّعنِ بالشَّرفِ والعِرضِ {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وتنتهي برَصاصةٍ من كاتمِ الصَّوتِ مرُوراً بالخطفِ والتَّهديدِ بالأُسرةِ وما إِلى ذلكَ.
والمعارضُ، في هذهِ الحالاتِ، يقفُ عندَ مُفترقِ طرُقٍ، فإِمَّا أَن يُكمِّلَ المِشوار مُتحمِّلاً كُلَّ الضُّغوطات {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أَو أَن ينهارَ فينهَزِمَ ويترُك الجمَل بما حمَل كما يُقالُ، وإِنَّ الأَداة الأَساسيَّة التي تمكِّنهُ من حُسن الإِختيار هو الصَّبر الذي لا علاقةَ لهُ بالإِيمانِ من عدمهِ، إِذ يكفي أَن يكونَ المرءُ مُؤمناً برسالتهِ وبقضيَّتهِ الوطنيَّةِ على سبيلِ الفرضِ، فليسَ كُلُّ المُعارضينَ الذينَ يتحمَّلونَ إِرهاب السُّلطة الفاشيَّة يتحلَّونَ بالإِيمانِ المُتعارفِ عليهِ، فهناكَ منهُم من يُؤمنُ بقضيَّةٍ ويحملُ همَّ رسالةٍ وطنيَّةٍ تقتضي منهُ الدِّفاعَ المُستميتَ عن حقوقِ شعبهِ، وهذا هوَ القاسِمُ المُشترك بينَ المعارضينَ بمُختلفِ خلفيَّاتهِم، ولذلكَ لا يحقُّ لأَحدٍ انتقاصَ قيمةَ [المُعارضة] بذريعةِ التَّفتيشِ في النَّوايا.
نقرأُ في التَّاريخِ المُعاصر أَسماءَ مُعارضينَ آمنُوا بقضاياهُم العادِلة وتحمَّلوا عناءً كثيراً من أَجلِها حدَّ القتلِ والمَوتِ حتَّى تحوَّلَ بعضهُم إِلى إِيقوناتٍ تفتخِرُ بها البشريَّة جمعاء وليسَ شعوبهِم أَو أُممهِم فقط.
٢٠٢٥/٣/١٧