ما بين الأستاذ خلف في زمن الطاغية إلى المدير المتنكر في زمن الديمقراطية (الانتخابات فرصتنا الفريدة)

ضياء ابو معارج الدراجي

في وسط ثمانينات القرن الماضي، كنت طالبًا في الصف الثاني المتوسط في ثانوية المتنبي للبنين. هناك، في قاعة الدراسة، كان يقف أستاذ الاجتماعيات خلف، رجل اربعيني وقور، بنظارته وصوته الجاد، يشرح لنا عن المجتمع  والتاريخ والجغرافية وصراع الطبقات ، دون أن يدرك أن الصراع الحقيقي كان ينتظره في الخارج… بعيدًا عن السبورة.

كان أستاذ خلف، مثل آلاف المعلمين، من الذين أنقذتهم الوظيفة التعليمية من نار الحروب العبثية لنظام صدام التكريتي. لم يُساق إلى جبهات القتال كما سِيق آلاف الطلبة من تلامذته الذين التحقوا بالجيش الإلزامي، وعاد كثير منهم جثثًا في توابيت خشبية، أو صورًا على جدران البيوت.

لكن بعد هزيمة النظام في الكويت عام 1991، بدأ الحصار الاقتصادي الخانق الذي كبّل العراق سنوات طويلة. تقلّصت رواتب الموظفين بسبب التضخم حتى صار راتب الأستاذ خلف لا يتجاوز دولارًا واحدًا في الشهر، بالكاد يكفي ليومٍ واحد، مما اضطره إلى العمل بائع سكائر على الرصيف،مقابل أسواق الشعب المركزية.

أتذكره جيدًا، رأيته هناك وأنا طالب جامعي، بعد ست سنوات من جلوسي على مقاعد درسه. كان يبيع السكائر بنظراتٍ منكسرة، كأن السبورة سُرقت منه، والطباشير تحوّل إلى رماد. حياني بخجلٍ لم أنسَه، وواصل عرض بضاعته المتواضعة في صمتٍ ثقيل.

ثم جاءت لحظة أخرى… بعد سقوط النظام عام 2003، رأيته مجددًا في نفس المكان. لكن هذه المرة لم يكتفِ ببيع السكائر، بل أضاف إلى بضاعته قناني البنزين، وسط أزمة الوقود الخانقة. كنت مارًّا في طريقي، فتوقفت للحظات، نظر إليّ، ولم نتحدث. نظرة واحدة كانت كافية لتختصر كل ما مررنا به… ثم اختفى بعدها إلى الأبد.

ما دفعني لتذكر هذا المشهد لم يكن الحنين ولا الألم، بل تعليق رأيته مؤخرًا على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي. كتب أحد مدراء الإعداديات – وهو شيعي مثلي – تعليقًا طائفيًا صادمًا، قال فيه: “ياريت الحكم يروح منكم”، يقصد بذلك من الأغلبية الشيعية.

هذا المدير، بالمناسبة، أعرفه جيدًا. كان خلال الحصار شابًا مراهقًا يعمل عاملًا عند صاحب بسطية ملابس وأحذية مستعملة، يوميته لم تكن تتجاوز ٥٠٠ دينار عراقي، أي ما يعادل ١٠ سنتات.

بعد سقوط النظام، فُتحت له الأبواب التي أُغلقت أمام غيره لعقود. وفرت له الحكومات الشيعية فرص الدراسة حتى نال شهادة الماجستير، ثم حصل على تعيين في سلك التعليم، ليصبح لاحقًا مديرًا لإعدادية يتقاضى أكثر من ألف دولار شهريًا—أي ما يعادل مجموع رواتب أستاذ خلف لو عاش ثمانين عامًا في زمن الحصار.

الجحود ليس رأيًا… إنه خيانة في بلدٍ كسرت ظهره الحروب والحصارات والطغاة، لا يمكن التسامح مع من يتنكر للفضل، خاصة عندما يكون هو المستفيد المباشر من دماء وتضحيات الآخرين.

كيف تنكر الفضل وأنت ابن تلك الفرص التي لم تكن لتحلم بها لولا سقوط نظامٍ طاغٍ، ولولا دماء الحشد الشعبي التي حفظت لك مدرستك، وحيّك، بل حتى منصبك؟ كيف تتمنى زوال من أعطاك ما لم يعطه الزمن لأستاذ خلف الذي علّم أجيالًا بأجرٍ شهري لا يكفي لشراء حذاء معاد؟

إنها ليست قضية طائفية، بل قضية وفاء وعدالة وذاكرة،أستاذ خلف هو رمز، لا لشخصٍ واحد، بل لجيلٍ كامل ضاع بين مطرقة النظام السابق وسندان النكران اللاحق. وجيل المدير “المتنكر” هو النموذج الآخر: جيلٌ وجد نفسه على منصةٍ لم يبنها، لكنه يطالب بإزاحة من أسسها.

ما بين أستاذ خلف الذي انكسر في صمت، ومديرٍ يصرخ بجحودٍ مدوٍّ، تتراءى صورة العراق كما لم نرها من قبل: بلدٌ يعيش أزمة أخلاقية قبل أن تكون أزمة سياسية أو اقتصادية.

ضياء ابو معارج الدراجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *