فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الأديان والمذاهب من مناهج جامعة المدينة العالمية: أهمية دراسة الأديان: تتأتَّى أهمية دراسة الأديان كمنهج إسلامي في الدعوة إلى الله تعالى؛ إذ يرتكز هذا المنهج في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام على الجدال بالتي هي أحسن كما قال تعالى: “وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” (العنكبوت 46) ولا يستطيع الداعية الناجح أن يدعو غير المسلمين بالتي هي أحسن إلا إذا درس ما عندهم من ديانات، ووقف على الملل والنحل التي يدين بها غير المسلمين حتى يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فإذا علم ذلك استطاع أن يدفع الباطل، ويردَّه عن دعوته، وأن يناصر الحق والصواب على المنهج القويم الذي رسمه الله تعالى للدُّعاة إليه في قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي” (يوسف 108).
عن معنى الدين في اللغة: له معانٍ كثيرة، توهم الناظر إليها لأول مرة أنها متناقضة، وليس الأمر كذلك، بل عند التحقيق تجدها في غاية الانسجام فيما بينها. فقد وردت الكلمة بمعنى الملك وهو الخدمة، وبمعنى الذل أي: القهر والسلطان، أو التذلل والخضوع، وبمعنى الطاعة والاستسلام، والاعتقاد والتعبد، والمحاسبة والجزاء، والحكم والقضاء، والقهر والتدبير، والحساب والمكافأة، وكذا اسم لكل ما نعتقده، أو لكل ما يُتعبد الله -عز وجل- به إلى آخر هذه الكلمات التي وردت في معاجم اللغة. والواقع أننا إذا نظرنا في اشتقاق هذه الكلمة، ووجوه تصريفها نرى من وراء هذا الاختلاف الظاهر تقاربًا شديدًا، بل صلة تامة في جوهر المعنى؛ إذ نجد أن هذه المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثة معانٍ تكاد تكون متلازمة، وبيانه: أن كلمة الدين تؤخذ تارة من فعل متعدٍّ بنفسه دانه يدينه، فتكون بمعنى ملكه وحكمه وساسه، ودبره وقهره وحاسبه، وقضى في شأنه، وجزاه وكافأه، فيدور معنى الدين هنا على معنى الملك والتصرف، والذي منه الآية الكريمة “مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ” (الفاتحة 4).
عن معنى الدين اصطلاحًا: بعد بيان المعنى اللغوي لكلمة الدين نشرع في بيان معنى الدين من ناحية الاصطلاح، أو المعنى الشرعي، ولا شك أنه سيختلف معنى الدين في معناه الاصطلاحي، عند الذين يريدون وضع تعريف له، وذلك لأنه بادئ ذي بدء ستختلف وجهاتهم من حيث النظر إلى الدين، وقد تباين الناس فيه ما بين محق ومبطل، أو متبع لدين الحق وآخر باطل، ودين سماوي وآخر أرضي. ولذلك جاءت تعريفات الدين متباينة سيما بين المسلمين الغربيين، فالمسلمون يعرفون الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل، ولخصه بعضهم بقوله: “الدين وضع إلهي يشير إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات”، وهذا التعريف لا شك أنه ينطبق على الدين الحق، ولا يمكن تعديه إلى جنس الدين، وقد عُلم أن منه حسب الواقع والاستقراء الحق والباطل، وما انتشر من باطله أكثر بكثير مما عليه أهل الحق منهم قال تعالى: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون 6)، كما قال تعالى: “وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ” (الأنعام 116)، وكذا “وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ” (يوسف 106)، وكذلك “وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ” (يوسف 103) إلى آخر الآيات التي في هذا المعنى. فكل ديانة تقوم على عبادة التماثيل، أو عبادة الحيوان، أو النبات، أو الكواكب، أو الجن، أو الملائكة، أو الأنبياء إلى آخره، فإنها تكون دينًا بمعناه اللغوي، وإن لم يمت إلى الدين الحق بصلة، ولم لا والقرآن قد سماها كذلك حيث يقول: “وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (آل عمران 85)، ويقول: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون 6).
وعن عناصر الدين: عناصر الدين أربعة، من أجل أن يكون الدين حقًا أو إلهيًّا لا بد وأن يشتمل على أربعة عناصر: الأول: المصدر، وهو الله -جل شأنه- يقول الله تعالى: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا” (الكهف 1). الثاني: الوحي الذي يكون وساطة بين الله وعباده كما قال تعالى: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا” (النساء 163)، كما قال تعالى مخاطبًا نبيه -عليه الصلاة والسلام: “حم عسق * كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” (الشورى 1-3). الثالث: الموحى به، وهو المنهج، أو الدين يقول الله تعالى: “وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ” (يونس 109)، ويقول أيضًا: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا” (الشورى 7). الرابع: الموحى إليه، وهم الأنبياء والرسل على النبيين -وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام- يقول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًّا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ * وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ” (الشورى51-53). فكل دين ليس له، أو فيه مصدر الألوهية، فليس من الجيد أن يُسمى دينًا صحيحًا، فإذا أخذ الدين عن طريق الفكر الفلسفي المحض، أو له مزيج من الدين الذي لا يمكن أن يجد له نصًّا معصومًا، وإذا فقد الدين الوحي أو النبوة مثل نحلة المسيحية، فليست دينًا صحيحًا؛ لأن قولهم إن عيسى ابن الله ينفي عنه النبوة، وبانتفاء النبوة ينتفي عنصر من عناصر الدين الصحيح، فلا تبقى المسيحية متصفة بأنها دين من عند الله تعالى، وهكذا، فكل دين لا يشتمل على العناصر الأربعة المذكورة فقد انخرم فيه خرم، ينفي عنه صفة الدين الحق الذي هو من عند الله تعالى. هذا، وإن كان القرآن قد استعمل لفظ الدين بمعناه الشامل الذي تندرج فيه نحل ومعتقدات المشركين، كما في قوله تعالى: “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ” (الكافرون 6) فإن القرآن قرر في أمر الدين أصولًا جعلت للدين معنى شرعًا خاصًّا، فالدين لا يكون إلا وحيًّا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده، ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله، فالدين الإلهي نظام كامل شامل يشمل الفرد والأسرة، والمجتمع، والدولة، وليس فقط طقوسًا دينية، ولا كهنوتية وجدانية، بل هو نظم كاملة للروح والجسد، والدنيا والآخرة معًا، ومن فسر الدين بغير هذا فهو ليس دين الإسلام، ولكنه دينه هو، وبذلك تفترق صفات الدين الحق الذي هو دين الله عن صفات دين الشرك والأصنام والأهواء.