فاضل حسن شريف
القرآن يدعو الى الوسطية “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً” (البقرة 143) فالحرية بدون ضوابط تصبح فوضى. الوسط بين الغلو المتعصب والانحلال الالحادي وهذا ما جاء به رسول البشرية والإنسانية محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحارب الامام علي عليه السلام الغلو الخارجي وحارب الامام الحسين عليه السلام الانحلال الظالم وكلاهما عليهما السلام استشهدا من قبل هؤلاء البعيدين عن الوسطية.
عن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى”وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ” ﴿البقرة 143﴾ “وما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ “. بعد ان أمر اللَّه نبيه الأكرم بالتحول من بيت المقدس إلى الكعبة ارتاب بعض أتباع الرسول صلى الله عليه واله وسلم وقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا، واستغل اليهود موقف هؤلاء الجهلة، وأخذوا يشككونهم بالنبي. وقد كان اليهود، وما زالوا، ولن يزالوا أبدا ودائما أرباب فتن وفساد، وأداة مكر وخداع بطبيعتهم وفطرتهم، يخلقون المشاكل ويضعون العقبات في طريق كل مخلص، ويحولون المجتمعات ان استطاعوا إلى جحيم.. وهكذا يلتقي أعداء الحق دائما وفي كل عصر مع ضعاف العقول، ويتخذون منهم أداة للكيد والتخريب والفوضى.. وقد وصف الإمام علي هؤلاء أبلغ وصف بقوله: “همج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق”. وأخبر اللَّه نبيه العظيم بأن الذين شككوا وارتابوا ليسوا بمؤمنين في واقعهم، بل كان ايمانهم زائفا لا أصيلا، ولقد محصناهم بالبلاء، ليظهروا على حقيقتهم لك ولغيرك. (وان كانت القبلة الجديدة لكبيرة الا على الذين هدى اللَّه). وهم أهل الإيمان المستقر الأصيل، لا أهل الايمان المستعار المموه. وتسأل: ان اللَّه سبحانه يعلم الشيء قبل وقوعه، فما هو الوجه في قوله لنعلم من يتبع الرسول؟. الجواب: ان المراد ليظهر الطائع والعاصي، ويتميز لدى الناس كل بما هو فيه وعليه.. وقال أكثر المفسرين ان علم اللَّه بالنسبة إلى الحادث على قسمين: علم به قبل إيجاده، وهو في عالم الغيب، وعلم به بعد إيجاده، وهو في عالم الشهادة، والمراد بالعلم هنا الثاني دون الأول، أي ان اللَّه يريد أن يعلم به حال وجوده، كما علم به حال عدمه.. وهذا تحذلق ولعب بالألفاظ.. فان علم اللَّه واحد، وعالم الغيب بالنسبة إليه، تماما كعالم الشهادة. “وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهً بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ”. هذه بشارة من اللَّه لمن ثبت على إيمانه مع الرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم في السراء والضراء، ولم يرتب في أمر من أوامره، ولا نهي من نواهيه.. وقال أكثر المفسرين، أو الكثير منهم: ان السبب لنزول هذه الآية أن جماعة من الأصحاب صلوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبلة الأولى، ثم ماتوا قبل التحول إلى الثانية، فسأل الرسول عن صحة صلاتهم؟ فقال اللَّه:”وما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ”. ونحن لا نعتمد روايات أسباب النزول إلا القليل البالغ حد اليقين أو الاطمئنان، لأن العلماء لم يهتموا بغربلتها وتمحيصها، كما فعلوا بأحاديث الأحكام، فبقيت على سقمها وعللها.
جاء في کتاب الإمام علي عليه السلام وتنمية ثقافة أهل الكوفة للمؤلف محمد العبادي: الاعتدال والوسطية: ورد ذكر مفهوم الوسطيّة في القرآن في بعض الآيات الشريفة. “وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً” (الإسراء 29). شبيه هذا المفاد القرآني في مراعاة الاعتدال قول علي عليه السلام: (وإن جَهَده الجوع قعد به الضّعف، وإن أَفَرط به الشّبع كظّته البِطنة، فكلّ تقصيرٍ به مضرٌّ وكلّ إفراطٍ له مفسد). ذكر أيضاً مفهوم الاعتدال والالتزام به في القرآن زمن القرون الأُولى الّتي سبقت الإسلام. “قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلّوا كَثِيراً وَضَلّوا عَن سَوَاءِ السّبِيلِ” (المائدة 77). جاء ذكر الوسطية كذلك في الآية الكريمة “وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً” (البقرة 143). فالآيات الكريمة تأمر بالاعتدال والوسطية والاتزان، خروجاً من فكّي الإفراط والتفريط اللّذين يعود سببهما إلى الجهل (لا ترى الجاهل إلاّ مُفرطاً أو مفرّطاً). أفشى الإمام صفة الاعتدال والوسطية في غير واحد من أقواله. (الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ). إنّ الإمام عليه السلام عمّم ثقافة الاعتدال وكرّرها كثيراً. ليجعل النّاس على بصيرة في اختيار الطرّيق الوسط، وقد حدّد الإمام بعض الصّفات، تجنيباً من حالتي الإفراط والتّفريط. بيّن الإمام صفة الوسيطة لأحد أصحابه، دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نفرٍ من الشيعة وكنت فيهم، فجعل الحارث يتأوّد في مشيته ويخبط الأرض بمِحجَنه، وكان مريضاً، فأقبل عليه أمير المؤمنين عليه السلام ـ وكان له منه منزلة ـ فقال: (كيف تجدك يا حارث ؟ فقال: نال الدّهر يا أمير المؤمنين منّي، وزادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك، قال: وفيمَ خصومتهم ؟ قال: فيك وفي الثلاثة من قبلك، فمن مفرطٍ منهم غالٍ، ومقتصدٍ تال ومن متردّدٍ مرتاب، لا يدري أَيقدم أَم يحجم ؟ فقال: حسبك يا أخا همدان، أَلا إنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق التالي). كذا حذّر عليه السلام الناس من المبالغة في حدّي الإفراط والتفريط والوقوع في الهلاك والضلال. (سيهلك فيّ صنفان محبٌّ مفرطٌ يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير النّاس فيّ حالاً النّمط الأوسط فالزموه).
عن مفهوم من عنده علم الكتاب عند الشيخ جلال الدين الصغير: الأمر الذي يحتم وجود الشاهد بعد حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكمل دور الرسول ويؤدي إليه الشاهد كما أدت الأمم السالفة عبر أنبيائهم عليهم السلام الشهادة لرسول الله، وهذه الأمر يطرحه الفهم القرآني مرة بصورة الأمة الوسط كما في قوله تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (البقرة 143)، وأخرى بصورة خصائص ومواصفات هذه الأمة الوسط بالصورة التي عرضت له الآيتين الكريمتين: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ” (الحج 77-78). فهذه الوسطية التي تقف بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الناس في مسألة الشهادة لن تكون إلا من خلال مواصفات دقيقة تقترب من مواصفات الشاهد وتتطابق معه، ولهذا كانت هذه الأمة الوسط مجتباة من قبل الله تعالى كما أشارت الآية الثانية، إذن فإنها ليست أمة بالمعنى الشعبي للموضوع، وإنما هي مجموعة مصطفاة من الأمة، عبر عنها بالأمة لأنها علم الأمة وشاخصها البارز، ولهذا عبر القرآن عن إبراهيم بأنه أمة في قوله تعالى: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (النحل 120). ونلاحظ هنا أن هذه الأمة المجتباة، قد كانت حاضرة في وجدان إبراهيم عليه السلام بحيث أنه سماها وعناها باسم المسلمين، وكونها سميت بذلك فلخصائص ومواصفات امتلكتها، هي التي جعلتها بالتالي تمثل الصورة العليا في الإسلام.