
رياض سعد
بتأمُّل المسار التاريخي للعراق، يتبين أن جذور الهوية الثقافية في وسط وجنوب البلاد تعود إلى الحضارات القديمة التي ازدهرت في هذه المناطق، كالسومريين والعيلاميين والأكديين والبابليين … ؛ ثم الآشوريين في الشمال… ؛ وتشير بعض الدراسات إلى أن هذه الشعوب والاقوام شكَّلت أساسًا للنسيج الاجتماعي اللاحق، وانصهرت تلك الأقوام في بوتقة النبط، وأُطلِق عليهم اسم “النبط”، وهم أقرب إلى العرب من غيرهم؛ إذ ينتمي غالبيتهم إلى الشعوب السامية… , وقد امتزج النبط بالعرب وشاركوهم في مساحات واسعة من التفاعل الحضاري… , وبما أن هذه الجماعات استوطنت منطقتي ما بين النهرين والجنوب العراقي، فإن سكان هذه المناطق اليوم يحملون إرثًا ثقافيًا وتاريخيًا متصلًا بتلك الأصول القديمة والجذور العريقة ، وهو ما يُفسِّر تسمية مناطق الكوفة والبصرة وما حولهما تاريخيًا بـ”العراقَين”، في إشارة إلى مركزية هذه المناطق في تشكيل الهوية العراقية عبر القرون والعصور .
من هذا المنظور، يرى بعض الباحثين أن الهوية العراقية الأصيلة متجذرة في الجنوب والمناطق المحيطة بنهر الفرات، ثم الشمال لاحقًا، والتي ارتبطت بالتركيبة الاجتماعية والديموغرافية للمنطقة… ؛ ولتعزيز هذا التصور التاريخي والأنثروبولوجي، تُطرَح ضرورة تبني جهود علمية وفكرية وثقافية وإعلامية تُبرِز عمق هذا الارتباط التاريخي، وتسهم في صقل هوية واضحة للسكان تستند إلى وعي تراكمي بمكونات الماضي وتمازجاته وتحولاته… ؛ وقد ناقش عددٌ من الكُتّاب هذه الفرضيات بالتفصيل، مُسلِّطين الضوء على أبعادها التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية… ؛ كما ذكرتُ في مقالتي المنشورة “النبط في كتب المؤرخين القدامى” ومقالتي الأخرى “معنى كلمة النبط في اللغة العربية” بعضَ الآراء والفرضيات التي توضِّح هذا المطلب.
ولعل أعظم انصهارين للأقوام الرافدينية والمكونات العراقية القديمة هما: الانصهار الأول في بوتقة النبط، والانصهار الثاني في بوتقة العرب… ؛ نعم، هناك ادعاءات ومحاكات، لكنها لا تصل إلى درجة الانصهار والتحول الكامل… ؛ ومن هذه التأثيرات الجانبية التاريخية ، ادعاء بعض العراقيين القدامى انتسابهم للفرس؛ فالاحتلال الفارسي الطويل للعراق أوجد حالةً من التمازج الثقافي، حتى نسيَ بعضُ السكان هويتهم الأصلية أو تماهَوا مع سلطة الدولة، فـ”الناس أتباع الملوك” كما قيل قديمًا… ؛ إلا أن هذا الأمر كان مرفوضًا من قبل الكثيرين لتناقضه مع الحقائق التاريخية والهوية الحقيقية للنبط … ؛ ولعل البيت الشعري التالي يكشف عن هذه الإشكالية، إذ أنشد شاعرٌ عربي زار العراق مُندِّدًا بهذا الادعاء:
كُلُّ مَنْ لَاقَيْتُ يَدَّعِي كِسْرَى بْنِ قُبَاذْ *** لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ النَّبْطُ ؟!
يسخر الشاعر من تفاخر العراقيين (النبط) بانتسابهم الوهمي إلى كسرى أنوشروان (الملك الفارسي)، في إشارة إلى تهافت تلك الادعاءات… ؛ فهو يعرف أن سلالة كسرى محدودة العدد، وأن الفرس لم يهاجروا بكثافة إلى العراق , وقوى الاحتلال مهما بلغت اعدادها لا تقارن بالسكان الاصليين قط ، فضلًا عن التباين العرقي بين النبط والفرس… ؛ وينقل لنا الشاعر حالةً اجتماعيةً عراقية قديمةً تتمثل في الانتساب للقوي المسيطر الحاضر ونسيان الجذور الماضية ، ولعل المثل الشعبي الدارج: “اللي ياخذ أمي يصير أبوي” يعبر عن تلك الظاهرة القديمة الجديدة … ؛ ثم يتساءل مستنكرًا: إذا كان العراقيون اليوم فرسًا، فما مصير ملايين النبط الذين هم السكان الأصليون؟!
ويؤكد الشاعر الأعشى ميمون بن قيس في شعره على وجود هوية جغرافية للنبط كما ان للفرس ارض , وللعرب وطن , وللأحباش وطن ، كما في قوله :
وَطُفْتُ لِلْمَالِ آفَاقَهُ عُمَانَ فَحِمْصَ فَأُورَشَلِيمْ *** أَتَيْتُ النَّجَاشِيَّ فِي دَارِهِ وَأَرْضَ النَّبِيْطِ وَأَرْضَ العَجَمْ .
هذا الأمر يُظهر أن النبط كانوا معروفين بأرضهم المميزة، تمامًا كالعجم والعرب… ؛ وعندما فتح العرب بلاد فارس، لم يدَّعِ الفرسُ الانتسابَ إلى العرب، ولم يختفوا او ينقرضوا رغم الاحتلال… ؛ وقد أخطأ مَن فسَّر البيت الشعري ( كل من لاقيت يدعي كسرى بن قباذ ) على أنه نعي للحضارات القديمة او بكاء على زوال الامم والشعوب ، فالأمم لا تنقرض ولا تزول بل تتحول… ؛ و الشاعر هنا يسخر من محاولات تزييف الهوية العراقية ، ويذكِّر النبط بأصولهم المغيّبة.
و يُعتَبَرُ النَّبْطُ مُصطَلَحًا يَدُلُّ على سُكَّانِ بِلادِ الرَّافِدَينِ التَّاريخيَّة وليست الحالية ، كما انه َلَيسَ مَحصُورًا بِالكَلدَانِ كَما يَتَوَهمُ البَعضُ ؛ فَالهُوِيَّةُ النَّبطيَّةُ أَعمُّ وَأَشمَلُ، تَجسيدٌ لِامتِدَادٍ ثَقافيٍّ وحَضاريٍّ لِتِلكَ الأقوامِ الَّتي شَكَّلَتْ نُواةَ العِراقِ عَبرَ العُصور.
نعم، إن أغلب سكان بلاد الرافدين القدامى هم من النبط… ؛ والتوهم الذي يحصر الهوية النبطية بالكلدان يُجانب الصواب؛ فالهوية النبطية أعم من ذلك بكثير… ؛ فمصطلح “النبط” يُشير إلى سكان بلاد الرافدين التاريخية، لا الحالية كما مر انفا , وبمرور الوقت، انصهر النبط في بوتقة الإسلام، وقد ذكر المسعودي أن معظمهم اعتنقوا الإسلام… ؛ كما أشار بعض المستشرقين، مثل باتريشا كرون ومايكل كوك، إلى : أن الكلدان تحولوا بسرعة إلى الإسلام، وانتهى وجودهم كمجموعة ثقافية مميزة… ؛ وهكذا تحوَّل الكلدان وغيرهم من مكونات الأمة العراقية (النبطية الرافدينية) إلى الإسلام خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين، واندمجوا في الثقافة العربية الإسلامية.
ولعل خير دليل على هذا الاندماج هو إسهامات النبط في الحضارة الإسلامية، حيث أنجبت هذه الأمة علماء ومحدثين بارزين وشخصيات معروفة ، مثل:
– عالم الكيمياء واللغة والزراعة أبو بكر أحمد بن علي (المعروف بابن وحشية النبطي).
– المحدِّث مقاتل بن حيان النبطي.
– قاضي الكوفة الحسن بن زياد اللؤلؤي.
– زياد بن أبي حسان النبطي.
– الفقيه أبو حنيفة النعمان.
– ميثم التمار.
– حسان النبطي.
وغيرهم.
من خلال ما تقدَّم، نستطيع القول إن النبط هم سكان العراق القدماء، وأن مصطلح “النبط” يحمل دلالة مرنة تختلف باختلاف العصور… ؛ فكلما دخلت مجموعات أو قبائل جديدة إلى أرض العراق (بابل أو آشور)، اتسعت دائرة النبط لِتشمل هؤلاء الوافدين بمجرد اندماجهم في المجتمع العراقي القديم… ؛ ولهذا قيل إنهم خليط من بقايا السومريين، والأكديين، والبابليين، والعاموريين، والكلدانيين، والكاشيين، والفرس، والروم، وغيرهم.
لكن ثمة أقوام سكنت العراق قبل غيرها… ؛ فلو راجعنا التاريخ بدقة، لوجدنا أن الفراتيين الأوائل أقدم من السومريين، والسومريين والعيلاميين أقدم من الكلدان أو معاصرين لهم، والكلدان أقدم من الآراميين، وهكذا… ؛ لذلك نرى الهوية النبطية تختلط تارةً بمفهوم “العجم”، وتارةً أخرى بالنسب العربي… ؛ فهناك رأي يربط النبط والفرس بسلالة واحدة (ياسور بن سام بن نوح)، بينما يؤكد رأي آخر صلتهم الوثيقة بالعرب. … ؛ فعندما سُئِل الإمام علي وابن عباس عن نسبهما، أجابا: “نحن من نبط كوثى”… ؛ في حين جاء عن الخليفة عمر بن الخطاب قولٌ مختلف: “مَن كان جاره نبطيًّا واحتاج إلى ثمنه فليبعه”… ؛ وقد قابل العراقيون هذا التمييز بالرفض ؛ ولعل هذا الاختلاف في التعامل بين الفريقين ؛ هو ما جعل العراقيين يميلون إلى بني هاشم ويُعارضون الخط القرشي ثم الأموي، ليصبح الجنوب والوسط العراقي لاحقًا مركزًا للهوية العلوية الشيعية ومقرا للثورات والانتفاضات الرافضة للحكم القرشي والاموي .
ويُعبِّر البيت الشعري للنابغة الذبياني عن هذا الربط بين النبط والعرب:
لَيْتَ شِعْرِي أَيْنَ النَّبْطُ مِنْ آلِ غَالِبٍ *** وَأَيْنَ مَنْ كَانُوا يَعُدُّونَ القُرَيْنا
فهذا البيت جزء من قصيدة يندب فيها الشاعر تفرق قومه (آل غالب)، ويتساءل عن مصير “النبط”، مما يكشف إما عن اعتبارهم جزءًا من النسيج العربي، أو جماعة عرقية قريبة منه… ؛ اذ يعبر الشاعر عن حنينه وأسفه لغياب الأصحاب والقبيلة، وذهاب أيام الوئام والقوة، في صورة استفهام بلاغي مؤثر… ؛ لاسيما وان الممالك العربية القديمة في العراق ك ( مملكة ميسان والحيرة والحضر ) كانت في المناطق النبطية ان جاز التعبير .
وفي المقابل، يطلب بعضهم منا تجاهل هذه الحقائق وقبول رواية مفادها أن سكان العراق القدامى انقرضوا كقوم عاد وثمود، وتحولت أرضهم إلى “ثكنة فارسية” خالية من السكان حتى جاء العرب ليملؤوها خيلا ورجالا ؟!
وهذه الفرضية السطحية لا تُطبَّق على دول العالم الأخرى، بل تُستخدَم فقط لتشويه تاريخ العراق.
والمفارقة أن تقديرات السكان تُشير إلى أن عدد سكان “أرض السواد” (العراق) قبل الفتح الإسلامي تراوح بين 6 إلى 9 ملايين نسمة، بينما كان سكان الجزيرة العربية أقل من ذلك بكثير (حوالي 2-3 ملايين)… ؛ وان كنت اذهب الى ان هذا العدد مبالغ فيه جدا , فهم اقل من ذلك بكثير ؛ والشواهد التاريخية تؤكد ما ذهبت اليه … ؛ فكيف لسكان الصحراء القاحلة أن يحلوا مكان ملايين العراقيين الذين بنوا حضاراتٍ عريقة ؟!
يطلبوا منا ان نصدق بأن ارض السواد والانهار والخيرات والثمار والثروات والاشجار … الخ , والتي قطنها البشر منذ فجر التاريخ , واقاموا فيها اولى الحضارات وانشئوا فيها الدول والحكومات , وشنوا الغارات والغزوات على مختلف البقاع وجلبوا العبيد والسبايا من كل حدب وصوب ؛ قد خلت فجأة وبقدرة قادر من سكانها وهجرها اهلها , وتلاشوا وتبخروا كما يتبخر الماء في النار واندثروا كما الديناصورات المنقرضة ؛ وفي الوقت نفسه يريدون منا ان نؤمن بأن صحارى الجزيرة القاحلة والقبائل المعدودة الجائعة وسكان القفار والبراري الخالية من الثمار والانهار … الخ ؛ قد تكاثر ابنائها كالصين الشعبية وزحفوا على البلدان المختلفة في الشرق والغرب وتحولت هذه البلدان الى عربية بمجرد ان وطئت اقدام الاعراب وسكان الصحاري ارضها …؟؟!! .
يُذكِّرنا هذا الطرح المنكوس بالقول المأثور: “حَدِّثِ العَاقِلَ بِمَا لَا يَعْقِلُ، فَإِنْ صَدَّقَ فَلَا عَقْلَ لَهُ”.