عبدالله الذبان
منذ سقوط النظام السابق في عام 2003، دخل العراق في دوامة من التحديات السياسية والاجتماعية والأمنية التي لم تنتهِ حتى اليوم. تلك السنوات كانت نقطة تحول في تاريخ البلاد، حيث برزت الانقسامات الطائفية كأحد أبرز الظواهر التي عصفت بالنسيج الاجتماعي والسياسي العراقي. كان هناك أمل كبير في أن يكون سقوط النظام بداية لعهد جديد من الحرية والديمقراطية، لكن هذا الأمل سرعان ما اصطدم بواقع مرير: خطاب الكراهية الذي استخدم الهوية الطائفية لإشعال نيران الفتنة بين المكونات المختلفة.
اليوم، ومع تصاعد الخطاب الطائفي مرة أخرى، يبدو أن العراق يقف على حافة هاوية خطيرة قد تعيده إلى مربع الحرب الأهلية الذي عاشه في أعوام 2006 و2007. تلك الحقبة السوداء لا تزال ذكرياتها حية في أذهان العراقيين: شوارع مليئة بالدماء، جسور تنهار تحت وطأة العنف، وأسر تُمزق بسبب الانقسامات الطائفية. كانت تلك الحرب أكثر من مجرد صراع سياسي؛ كانت كارثة إنسانية أثرت في كل بيت عراقي، وتركت جراحًا لن تندمل بسهولة.
العراق بلد غني بتنوعه العرقي والديني، حيث يتعايش العرب الشيعة والسنة، والأكراد، والمسيحيون، والإيزيديون، وغيرهم من المكونات في إطار مجتمع واحد. هذا التنوع كان دائمًا مصدر فخر للعراقيين، لكنه اليوم أصبح هدفًا للخطاب الطائفي الذي يعمل على تفكيكه واستغلاله. عندما يتم تسليط الضوء على الهوية الطائفية كبديل عن الهوية الوطنية، تبدأ الروابط الاجتماعية التي جمعت العراقيين لعقود طويلة في التآكل.
تصاعد الخطاب الطائفي يؤدي إلى نشر ثقافة الكراهية والانقسام بين المواطنين، حيث يبدأ الناس في النظر إلى بعضهم البعض من منظور طائفي ضيق. الجار الذي كان يشاركك القهوة صباحًا، والزميل الذي كنت تتبادل معه الضحكات في العمل، وحتى المواطن الغريب الذي كنت تمر بجانبه دون أن تشعر بأي تهديد، أصبحوا جميعًا أهدافًا للريبة والشك. هذا النوع من الانقسام يؤلم الإنسان العراقي، لأنه يرى كيف تتبدد سنوات من التعايش السلمي في لحظة واحدة بسبب كلمات تحمل سموم الكراهية.
الأمر لا يتوقف عند العلاقات بين المكونات المختلفة، بل يمتد إلى داخل الطائفة الواحدة. بدأت الخلافات الصغيرة تتحول إلى صراعات شخصية وعائلية، مما يجعل المجتمع العراقي أكثر هشاشة. الأطفال الذين ينشأون في هذه البيئة المشحونة بالتوتر والعداء يحملون معهم هذه الأفكار دون وعي، مما يجعل تحقيق المصالحة الوطنية في المستقبل أمرًا شبه مستحيل.
على الصعيد الأمني، فإن الخطاب الطائفي هو الوقود الذي يشعل نيران العنف والفوضى. عندما يتم تصوير الطائفة الأخرى كعدو يجب محاربته، تصبح الهجمات المسلحة والتفجيرات الإرهابية مبررة في أعين البعض. لقد رأينا كيف استغلت الجماعات المتطرفة مثل “داعش” هذا الانقسام الطائفي لتجنيد الشباب وإشعال الفتن بين المكونات المختلفة. اليوم، ومع عودة الخطاب الطائفي، هناك خشية حقيقية من أن يؤدي ذلك إلى موجة جديدة من العنف قد تكون أشد وطأة من سابقاتها.
لكن الأمر لا يتعلق فقط بالإرهاب، بل أيضًا بالميليشيات الطائفية التي تعمل خارج إطار الدولة، وتستخدم الخطاب الطائفي لتبرير أعمالها المسلحة. هذه الميليشيات ليست فقط تهديدًا للأمن القومي، بل هي أيضًا عقبة أمام بناء مؤسسات أمنية وطنية قوية. عندما يرى المواطن العراقي فصائل مسلحة تدين بالولاء لجهات خارجية أو تعمل لتحقيق أجندات خاصة، فإنه يفقد الثقة في دولته ويبدأ في الشعور بأن الأمن والاستقرار بعيدان المنال.
على الصعيد السياسي، يبدو أن الخطاب الطائفي أصبح أداة رئيسية في أيدي بعض القوى السياسية لتحقيق مكاسب ضيقة. بدلاً من التركيز على القضايا الحقيقية التي تؤرق المواطن العراقي مثل البطالة، الفقر، وسوء الخدمات، يتم تحويل النقاش إلى قضايا طائفية ومذهبية. هذا النوع من السياسة ليس فقط غير أخلاقي، بل هو أيضًا مدمر تمامًا لمستقبل العراق.
عندما يتم تشكيل الحكومات بناءً على المحاصصة الطائفيّة، وليس على أساس الكفاءة والنزاهة، فإن النتيجة تكون حكومة ضعيفة وغير قادرة على تحقيق التنمية أو مواجهة التحديات. هذا النموذج من الحكم يعزز الفساد ويخلق شعورًا عامًا بالإحباط لدى المواطنين، الذين يرون أن دولتهم لا تمثلهم ولا تعمل لمصلحتهم. وفي ظل هذا الواقع، يصبح من الصعب بناء نظام سياسي مستقر قادر على تحقيق طموحات الشعب.
في ظل التغيرات الإقليمية والدولية، مثل التنافس الأمريكي-الإيراني، والحرب الأوكرانية، وأزمات الطاقة، يبدو أن العراق يجد نفسه مرة أخرى في قلب عواصف سياسية قد تستغل الانقسامات الطائفية لتحقيق مصالح خارجية. هذه الأجندات الخارجية تعتمد بشكل كبير على إشعال الفتنة الطائفية لضمان استمرار حالة عدم الاستقرار في البلاد. فالعراق، بموقعه الجغرافي والاستراتيجي، أصبح ساحة لصراعات أكبر من قدرته على التحمل.
في الختام
إن عودة الخطاب الطائفي ليست مجرد تهديد للأمن السياسي أو الاجتماعي، بل هي تهديد مباشر لمستقبل العراق ككيان موحد وشعب متماسك. يجب أن ندرك جميعًا أن الطائفية ليست جزءًا من هويتنا، بل هي أداة استخدمت تاريخيًا لتقسيمنا وإضعافنا. الحل يكمن في تعزيز الوحدة الوطنية، وبناء مؤسسات دولة قوية، ورفض أي خطاب يحاول تقسيمنا.
العراق يستحق مستقبلًا أفضل، بعيدًا عن الكراهية والصراعات، وقريبًا من السلام والازدهار. علينا أن نتذكر أن الشعب العراقي يملك قدرة هائلة على التسامح والتعايش، وأنه قادر على تجاوز هذه المرحلة الصعبة إذا توفرت الإرادة السياسية والاجتماعية لذلك. لنعمل معًا على بناء عراق يجمعنا جميعًا، عراق يحترم تنوعه ويحتفي بإنسانيته.