كتاب مسلم بن عقيل للسيد المقرم والقرآن الكريم (ح 4)

الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
عن حفظ الجوار يقول السيد عبد الرزاق المقرم: حماية الجار من عادات العرب الفاضلة ولهم في ذلك أيام بيض وصحائف ناصعة وإن تطرّق فيها بعضهم فخرج إلى الرعونة لكنها في الجملة مما يمدحون بها، ولم يبرحوا متهالكين عليها، فكانت تراق على ذلك الدماء، وتقوم الحرب العوان على أشدها لأنها من ولائد الحفاظ والشهامة والغيرة على الأحساب وفيها الابقاء على المستجيرين من عادية المرجفين وجلب ودّهم وودّ ذويهم وقبائلهم، وسيادة الإلفة وتوارث المحبة، وظهور الأبهة وبروز المنعة، واخماد الفتن ودحض الفوضى، ولعل العداء يعود حنانا بارجاء الفتك لأجل الإستجارة الى التفاهم، أو تبيين أغراض النمامين المثيرين للعداء أو بالمعاذير المقبولة. واستجار امرؤ القيس بن حجر الكندي بعامر بن جوين الطائي ثم الجرمي، فقبّل عامر امرأة امرئ القيس فأعلمته بذلك فارتحل عنه، واستجار (بأبي حنبل جارية بن مر الطائي ثم الثعلبي) فلم يصادفه فقال له ابن جارية: أنا أجيرك من الناس كلهم إلا من أبي حنبل يعني أباه فرضي امرؤ القيس وتحول إليه، ولما قدم أبو حنبل رأى كثرة اموال امرئ القيس، وأعمله ابنه بما شرط له في الجوار فاستشار أهله بذلك فقالوا له: لا ذمة له عندك، فخرج أبو حنبل الى الوادي ونادى: ألا ان أبا حنبل غادر، فأجابه الصدى من الجبل بذلك، ثم نادى: ألا ان أبا حنبل واف، وأجابه الصدى بذلك، فقال: الثانية أحسن ثم أتى منزله وحلب جذعة من غنم امرئ القيس وشرب لبنها ومسح بطنه وقال: (اغدر وقد كفاني لبن جذعة). وقد جاءت الشريعة المطهرة الحافلة بمكارم الأخلاق الحاثة على السلام والوئام فأقرت تلك الفضيلة، وأدخلت التحسينات فيها حتى أجازت الإجارة للمشركين قصدا للتأليف، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: “وان أحد من المشركين استجارك فأجره” (التوبة 6) فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم) وفسّره الامام الصادق عليه السلام بأن جيش المسلمين اذا حاصر قوما من المشركين فأشرف رجل وقال: اعطوني الأمان حتى ألقى صاحبكم واناظره، فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.

جاء في کتاب الشّهيد مسلم بن عقيل عليه السلام للسيد عبد الرزاق المقرّم: كتم السّرّ: كم السر من لوازم المروءة، فإن في إفشائه اما فضيحة على من أذيع عنه ان كان ذلك المذاع من الرذائل غير متجاهر بها،والله سبحانه يحب الستر على المؤمنين ابقاء لحيثيّاتهم في الجامعة، وكلاءة لعضويّتهم فيها، فإن الحط من الكرامة يوجب سقوط محله بين الناس، ويعود منبوذا بينهم فلا يصغى لقوله، ولا يحترم مقامه، فيختل التكاتف، والتعاون على حفظ النظام، ويكون ذلك مبدأت لتجري الغير كما هو مقتضى الجبلة البشرية، ومثالا لنفرة أناس ممن يترفّعون عن أمثالها، فتسود المنابذة، وتحتدم البغضاء، واذا كان المولى سبحانه وهو القابض على ازمّة الخلق القادر على كشف ما انطوت عليه ضمائرهم يستر عليهم ويفيض ألطافه مع التناهي، وينادي كنابه العزيز: “ان الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم” (النور 19). ومن هذا تعرف كيف بلغ اللؤمن ورداءة المنبت بعمر بن سعد حين أفضى بالسر الذي أودعه عنده مسلم بن عقيل، وذلك أن ابن عقيل طلب من ابن زياد أن يوصي الى بعض قومه، فأذن له، فنظر الى الجلساء فرأى فيهم ابن سعد فقال له: (أن بيني وبينك قرابة، ولي اليك حاجة، ويجب عليك نجح حاجتي وهي سر) فأبى أن يمكّنه من ذكرها، فقال ابن زياد: لا تمتنع من النظر في حاجة ابن عمك، فقام معه بحيث يراهما ابن زياد فأوصاه مسلم عليه السلام أن يقضي من ثمن سيفه ودرعه، دينا استدانه منذ دخل الكوفة يبلغ ستمائة درهم، وأن يستوهب جثّته من ابن زياد، ويدفنها، وأن يكتب الى الحسين بخبره. فأفشى ابن سعد جميع ذلك الى ابن زياد فقال ابن زياد: لا يخونك الأمي ولكن قد يؤتمن الخائن. لم يفت مسلما ما عليه ابن سعد من لؤم العنصر، وأنه سيفشي بسره بين الملأ، لكنه اراد تعريف الكوفيين بأن هذا الذي يعدون من كبرائهم ويتبجح بأن أباه فاتح البلاد هذا حده من المروءة، وموقفه من الحفاظ فلا يغتر به أحد إذا تحيّز الى فئة أو جنح الى جانب، فأنه لا يهوى إلا مثله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *