
الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
عن تفسير الميسر: قوله تعالى عن عقلوه “أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ” (البقرة 75) عَقَلُوهُ: عَقَلُ فعل، و ضمير، هُ ضمير. عَقَلُوه: فهموه فهما واضحا ومع هذا يخالفونه على بصيرة. أيها المسلمون أنسيتم أفعال بني إسرائيل، فطمعت نفوسكم أن يصدِّق اليهودُ بدينكم؟ وقد كان علماؤهم يسمعون كلام الله من التوراة، ثم يحرفونه بِصَرْفِه إلى غير معناه الصحيح بعد ما عقلوا حقيقته، أو بتحريف ألفاظه، وهم يعلمون أنهم يحرفون كلام رب العالمين عمدًا وكذبًا.
وردت مشتقات كلمة يعقل في القرآن الكريم: تَعْقِلُونَ، عَقَلُوهُ، يَعْقِلُونَ، يَعْقِلُهَا، نَعْقِلُ. وجاء في معاني القرآن الكريم: عقل العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل.
وعن تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى عن عقلوه “أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة 75) هذا خطاب لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلّم يقول “أفتطمعون” أيها المؤمنون “أن يؤمنوا لكم” من طريق النظر والاعتبار والانقياد للحق بالاختيار “وقد كان فريق منهم” أي ممن هو في مثل حالهم من أسلافهم “يسمعون كلام الله” ويعلمون أنه حق ويعاندون فيحرفونه ويتأولونه على غير تأويله وقيل إنهم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحلال حراما والحرام حلالا اتباعا لأهوائهم وإعانة لمن يرشوهم عن مجاهد والسدي وقيل إنهم السبعون رجلا الذين اختارهم موسى من قومه فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم حين رجعوا إليهم عن ابن عباس والربيع فيكون على هذا كلام الله معناه كلام الله لموسى وقت المناجاة وقيل المراد بكلام الله صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم في التوراة وقوله “ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه” قيل فيه وجهان (أحدهما) أن يكون معناه أنهم غيروه من بعد ما فهموه فأنكروه عنادا “وهم يعلمون” أنهم يحرفونه أي يغيرونه (والثاني) أن معناه من بعد ما تحققوه وهم يعلمون ما عليهم في تحريفه من العقاب والأول أليق بمذهبنا في الموافاة وإنما أراد الله سبحانه بالآية أن هؤلاء اليهود الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إن لم يؤمنوا به وكذبوه وجحدوا نبوته فلهم بآبائهم وأسلافهم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام أسوة إذا جروا على طريقتهم في الجحد والعناد وهؤلاء الذين عاندوا وحرفوا كانوا معدودين يجوز على مثلهم التواطؤ والاتفاق في كتمان الحق وإن كان يمتنع ذلك على الجمع الكثير والجم الغفير لأمر يرجع إلى اختلاف الدواعي ويبطل قول من قال إنهم كانوا كلهم عارفين معاندين لأن الله سبحانه إنما نسب فريقا منهم إلى المعاندة وإن كانوا بأجمعهم كافرين وفي هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع وهو عام في إظهار البدع في الفتاوى والقضايا وجميع أمور الدين.
جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى عن عقلوه “أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة 75) كل صاحب رسالة يحرص كل الحرص على أن يؤمن الناس بها، فيبث الدعوة لها في الأوساط أملا أن يكثر أتباعها وأنصارها، ويتحمل في سبيل ذلك المتاعب والمصاعب، وهكذا فعل رسول اللَّه صلى الله عليه واله وأصحابه بثوا الدعوة إلى الإسلام في كل وسط رجوا أن يكون لها فيه أتباع وأنصار، وكان بين الأنصار ويهود المدينة علاقة جوار ورضاعة وتجارة، فدعوهم إلى الإسلام بأمر النبي، وناظروهم بالحجة الدامغة، والمنطق السليم، وطمعوا أن تتحرك فيهم العاطفة الانسانية، بخاصة وانهم أهل كتاب، وبوجه أخص ان أوصاف محمد صلى الله عليه واله قد وردت في توراتهم تصريحا أو تلميحا. ولما أصر اليهود على رفض الدعوة، والاستمرار في الكفر ومعاندة الحق خاطب اللَّه نبيه الكريم وأصحابه بقوله: “أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ ” وقد كان أسلاف هؤلاء اليهود يسمعون كلام اللَّه من موسى مقترنا بالآيات والمعجزات فيحرفونه ويتأولونه حسب أهوائهم، على علم منهم بالحق، وتصميم على مخالفته، وما حال يهود المدينة إلا كحال أسلافهم.. حرّف السلف، وجعل الحلال حراما، والحرام حلالا تبعا لهواه، وحرف الخلف أوصاف محمد صلى الله عليه واله الواردة في التوراة، كي لا تقوم عليهم الحجة. وقال صاحب مجمع البيان: (في هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع، وهو عام في اظهار البدع في الفتيا والقضايا، وجميع أمور الدين). ونزيد على قول صاحب المجمع أن في هذه الآية دلالة أيضا على ان من اتّبع الضلال لا يسيء إلى نفسه فقط، بل يمتد أثر إساءته إلى الأجيال، ويتحمل وزر عمله، وعمل من اتبعه على الغواية والضلالة، كما جاء في الحديث الشريف.
جاء في كتاب تفسير سورة الحمد للسيد محمد باقر الحكيم قدس سره: والتفسير على قسمين بلحاظ الشئ المفسر، وهما: أولا تفسير اللفظ: ويراد به بيان معنى اللفظ لغة. ثانيا تفسير المعنى: ويراد به تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه. فنحن نقرأ في القرآن الكريم مثلا كلمات تصف الله سبحانه وتعالى بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام كقوله تعالى: “الله لا إله إلا هو الحي القيوم” (البقرة 255)، و “حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم” (غافر 12)، و “تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شئ قدير” (الملك 1)، و “قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير” و (المجادلة 51)، و “أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة 75). أو كلفظة أهل البيت في قوله تعالى: “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا” (الاحزاب 33). ونواجه بالنسبة إلى هذه الكلمات وأمثالها بحثين، هما: الأول: البحث في مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللغوية وهذا هو التفسير اللفظي. الثاني: البحث في تعيين مصاديق هذه المفاهيم. فبالنسبة إلى الله تعالى، كيف يسمع؟ وبأي شئ؟ وكيف يعلم؟ و، وبالنسبة لأهل البيت، من هم هؤلاء؟ وهل المصداق هو زوجات النبي صلى الله عليه وآله؟ أم الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام؟ وهذا هو تفسير المعنى الذي نقصده. أهمية التمييز بين التفسيرين: والتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى مهم جدا لحل التناقض الظاهري الذي قد يبدو لبعض الأذهان بين حقيقتين في القرآن الكريم، وهما: الأولى: حقيقة كونه كتاب هدآية لكل البشر، وما تفرضه هذه الحقيقة من كون القرآن ميسرا للفهم، متاحا لكل إنسان استخراج معانيه، لكي يستطيع أن يؤدي هدفه هذا. الثانية: هي وجود كثير من الموضوعات في القرآن لا يتيسر فهمها بسهولة، بل قد تستعصي على الذهن البشري ويتيه فيها لدقتها وابتعادها عن مجالات الحس والحياة الاعتيادية، هذه المواضع التي لم يكن بإمكان القرآن الكريم أن يتفادى الخوض فيها، لأنه كتاب دين يستهدف بصورة رئيسة ربط البشرية بالغيب وتنمية غريزة الإيمان لديها، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق طرح مثل هذه الموضوعات التي تنبه الإنسان إلى صلته بعالم أكبر من عالمه المنظور وإن كان غير قادر على الإحاطة بجميع أسراره وخصوصياته. وحل هذا التناقض الظاهري بين هاتين الحقيقتين يكون بالتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى.