طه حسن الاركوازي
( الجزء الخامس ) من موسوعة المُحاصصة وتأثيرها على بناء الدولة .؟
في البيئات التي يهيمن فيها الفساد وتضعف فيها أسس الإدارة الرشيدة ، لا تكون مظاهر التذمر الشعبي تجاه أداء المؤسسات مجرد ردود أفعال عابرة ، بل مؤشرات متراكمة على أزمة حكم مستدامة وما يدعو للتأمل بل للقلق ليس في تكرار هذه الشكوى ، بل في أعتيادها ، وتحولها إلى جزء من المشهد العام دون أن تلقى أستجابة حقيقية من أصحاب القرار ، فعندما يتكلّس الشعور بالمسؤولية ، وتتراكم اللامبالاة ، يصبح فشل الإدارة نتيجة حتمية لا مفاجئة .
إن جوهر التردي الإداري لا يكمن فقط في ضعف البُنى أو قِدَم الأنظمة ، بل يتجسد في آلية أختيار القائمين على إدارة هذه المؤسسات ، فعندما تُسنَد المهام في مؤسسات الدولة إلى من لا يملكون المؤهلات العلمية أو الإدارية لمجرد أنتمائهم الحزبي نكون إزاء جريمة مستمرة تُرتكب بحق الوطن لا بحق الوظائف فحسب .
هذا النمط من “التوظيف السياسي”، الذي أصبح سمة بارزة لما بعد عام 2003 في العراق لم يُنتج سوى مسؤولين بعيدين عن نبض الناس لا يرون في المناصب تكليفاً وطنياً ، بل غنائم حزبية ، والدليل الحي على ذلك هو ما بات معتاداً من تجاهل المسؤولين لهموم المواطنين وشكواهم .
في الدول التي تحترم الإنسان ، يحصل المواطن على ردود رسمية محترمة خلال أيام قليلة أو حتى ساعات ،
أما في بلد المحاصصة فلا يجد من يقرأ رسالته حتى فضلًا عن الرد عليها ، تلك هي المسافة الفاصلة بين إدارة تحترم المواطن ، وأخرى لا ترى فيه أكثر من رقم ثقيل في سجل النفقات العامة .؟
الأخطر من ذلك أن بعض المسؤولين لا يكتفون بالتجاهل ، بل يظهرون أحتقاراً علنياً للمواطنين ولموظفي الدولة ، كما حدث في مشاهد علنية من بعض النواب والمحافظين ومسؤولي الدوائر وبعض القادة في المؤسسة العسكرية والأمنية ، الذين تجاوزوا على كرامة الناس بلا رادع ، مدفوعين بحماية سياسية لا يخشون معها قانوناً ولا مساءلة .
كيف يمكن لوطن أن يُدار بكفاءة ، إذا كانت المناصب تُمنح لأشخاص يفتقرون إلى أبسط مفاهيم الإدارة ، ولا يملكون من المؤهلات سوى الولاء الحزبي .؟
في بلد المحاصصة ، قد تجد موظفاً مُبتدئاً يُرفع فجأة إلى قمة مؤسسة ، لا لشيء إلا لأنه محسوب على جهة سياسية نافذة ، وبهذا المنطق ، يُقصى الأكفاء ، ويُهمش المهنيين الذين لا سند لهم سوى كفاءتهم ونزاهتهم وحرصهم على وطنهم .
وما يزيد المشهد تعقيداً أن الخطاب السياسي نفسه أصبح مسرحاً للعبث ، فمنذ أكثر من عقدين ، تتكرر الوعود بمكافحة الفساد ، في حين تتوسع رقعته ، ويتكاثر الفاسدون ، وتتعاظم سلطتهم حتى باتوا هم من يُقرر ويُحكم ، لا من يُحاسب .
الواقع يُظهر بجلاء أن الحُكم حين يُختزل في تفاهمات سياسية وتقاسم للنفوذ ، فإن مصلحة المواطن غالباً ما تتراجع خلف حسابات المواقع والمكاسب ، وفي ظل تغييب الشفافية وتهميش الكفاءات ، تتحول الخلافات السياسية إلى صراعات على النفوذ ، لا على البرامج أو المبادئ ، وفي لحظات الاتفاق تُقسم المناصب ، أما عند التنازع ، فتدفع الدولة والمجتمع الثمن .
لقد أدرك الفلاسفة والروّاد منذ قرون ما تجاهله كثير من ساستنا اليوم ، فالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال :
“إذا صلح الراعي صلح الرعية ، وإذا فسد الراعي فسد الرعية” ، بمعنى أن المسؤول لا يكون فاسداً فحسب ، بل مُفسداً لما حوله ، بدءاً من أسرته ، وأنتهاءاً بالمؤسسة التي يقودها ، فيتحول الفساد من حالة فردية إلى ثقافة عامة .
أخيراً وليس آخراً .. إن العراق اليوم لا يعاني من نقص في العقول أو الموارد أو الكفاءات ، بل من غياب الإرادة السياسية لوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، فطالما بقيت المؤسسات رهينة للمحاصصة الحزبية ، وأستمرت آليات التعيين تُدار خارج منطق الكفاءة ، فإن أي إصلاح سيبقى شعاراً مؤقتاً يُرفع في موسم الانتخابات ، ويُنسى في اليوم التالي …!