فبراير 5, 2025
images

اسم الكاتب : محمد صالح

التفسير التآمري الذي انتشر مؤخراً بشأن تحركات القوات الأمريكية في العراق يعد مثالاً بارزاً على ما قد يتسبب به الإعلام غير النظامي، الذي يعمل في مناخ يعاني من الاستقطاب الحاد، من إشكالات كبرى.

في أواخر شهر أغسطس/آب الماضي، وبينما كان العراق يرزح تحت وطأة موجةِ قيظ ٍلاهبة، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي وموجات الأثير بطوفان من الاخبار الكاذبة والمعلومات المضللة التي لا تقل اضطراماً. حيث قادت وسائل التواصل الاجتماعي والتلفاز العراقي حملة واسعة الانتشار روج من خلالها لنظرية مؤامرة جديدة تستمد خيوطها من وجود 2,500 جندي أمريكي في البلاد يعملون على مساعدة قوات الأمن العراقية وتقديم المشورة لها. حيث استغلت وسائل الإعلام ما شهدته بداية شهر أغسطس/آب من تناوب روتيني للقوات الأمريكية اخْتُتِمَ بحفل في قاعدة أربيل الجوية، لنشر أخبار مفادها أن الولايات المتحدة تدبر مخططات جديدة لتغيير نظام الحكم في العراق وسوريا، وللحد من النفوذ الإيراني في العراق.

على الفور، حفلت منصة تويتر (X) بعشرات الوسوم الجديدة مثل #القوات_الامريكية و #العزم_الصلب (في إشارة إلى العمليات الجارية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية) و #الارتال_الامريكية و #جرف_الصخر (بلدة عراقية تحتلها الجماعات المسلحة الموالية لإيران). وانطلق زخم اخباري زائف اعتمد فيه بعض المعلقين على مقاطع غير ذات صلة للادعاء بأن الجيش الأردني كان يشارك أيضا في الخطط التي تقودها الولايات المتحدة لإغلاق الحدود العراقية السورية. وسرعان ما انضم مذيعو البرامج الحوارية المتلفزة والسياسيون ومن يُسَمّوْنَ، زعماً، بالخبراء إلى الجوقة. وما زاد الطين بلة أن رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي أضفى مصداقية على هذه التكهنات عندما أشار إلى أن الجيش الأمريكي خطط لإغلاق الحدود العراقية السورية، ومن المرجح أن يطيح بنظام بشار الأسد المجاور.

بدأت خيوط نظرية المؤامرة هذه تحاك في منتصف عام 2022، عندما أثارت تصريحات زائفة أطلقها النائب العراقي السابق فائق الشيخ علي، لغطاً عن خطة دولية لإسقاط النظام القائم في العراق بحلول عام 2024. واتسقت تلك التصريحات – التي تعتمد في أساسها على فكرة أن أي تدخل عسكري أمريكي لا بد أن يكون الهدف منه هو خدمة المصالح الأمريكية في العراق ولا يمكن اعتباره مجرد تناوب روتيني للقوات الموجودة بالفعل على الأرض- مع التحركات العسكرية الأمريكية الأخرى في المنطقة والتي شملت نشر أكثر من 3000 جندي من مشاة البحرية الأمريكية في الخليج في أغسطس، لحماية السفن المدنية من العدوان الإيراني.

على الرغم من مسارعة كبار المسؤولين في كلٍ من العراق والولايات المتحدة الأمريكية لنفي تلك المزاعم الكاذبة إلا أن الضجة التي أثارتها هذه التصريحات على منصات التواصل الاجتماعي ووسائط الإعلام التقليدي كانت مؤشرا واضحاً على انسياق تلك الجهات التي تحولت إلى أرض خصبة تغذي حملات التضليل المتعلقة بالسياسات الخارجية. وبالطبع فضحت الوسوم التي اختارتها تلك الحملات على موقع تويتر (X) جاهزيتها المسبقة وتعمدها الواضح، خاصة عندما بدأت العديد من الحسابات المزيفة في نشر المعلومات المغلوطة. وسرعان ما انخرطت جماعاتٌ ذات توجهاتٍ سياسية متباينة في تلك الحملات لتزداد لعبة الشد والجذب احتداداً بين المجموعات المتناقضة ايدلوجياً من الأفراد الذين يعارضون الحكومة الحالية المتحالفة مع إيران وبين الشخصيات والحسابات التابعة لجماعات الميليشيات الموالية لإيران.

مع تباين الدوافع التي تحرك المعسكرين، سعى كلاهما إلى نشر المعلومات المضللة التي تضمن انحياز الرأي العام لصالحه. حيث ركز الجانب المعارض للتدخل الإيراني على نشر الذعر بين القاعدة الشعبية الموالية لإيران في البلاد من خلال التلميح بضعف القبضة الإيرانية الشيعية على السلطة، مستفيدين من مشاعر الاستياء المنتشرة بين العراقيين ضد هيمنة الميليشيات وفساد النخب السياسية. أما الجانب الموالي لإيران فسعى لترويج ادعاءات مفادها أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها بالفعل خطط شائنة فيما يخص المنطقة، مثل الإطاحة بنظام الأسد في سوريا أو إعادة تنظيم الدولة الإسلامية إلى الساحة من جديد. واستغلت هذه المجموعات الفرصة لاستعراض قوتها وتعزيز رصيدها الشعبي كحركة مضادة للولايات المتحدة الأمريكية والضغط من أجل التخلص من القوات الأمريكية الموجودة في العراق.

على الرغم من التراجع النسبي لزخم هذه الحملة إلا أنه من المتوقع أن نشهد تكراراً لها في صورة حملات مماثلة قد يكون أحدها ما راج مؤخراً عن سعي السفارات الأجنبية والمنظمات العالمية العاملة في البلاد لتطبيع مبادئ المثلية الجنسية والأدوار الجندرية غير التقليدية. الواقع، هو أن وسائط التواصل الاجتماعي غير المقننة ووسائل الإعلام التقليدية المتحزبة التي تتحرك في بيئة سياسية مجزأة وشعبوية للغاية لا يمكن إلا أن تكون مرتعاً خصباً للشائعات والمعلومات المضلِلة. وهو ما سيشجع ذوي المصالح والدوافع السياسية المتباينة على الاستمرار في التلاعب بالإعلام، وخاصة منصات التواصل الاجتماعي، بهدف تشكيل السياسات والعلاقات الخارجية لدولة العراق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *